أحد الشعانين
يسرد يوحنا هذه الفترة من حياة يسوع سرداً واحداً كأنه يتكلم عن فترة زمنية واحدة رغم أن هذه الفترة تمتد من 22 تشرين الأول إلى 14 من نيسان (عيد الفصح). لا يمكننا ان ننسب إلى يوحنا جهلاً للتقاليد اليهودية، لأنه يهودي إنما الإنجيلي اراد أن يوصل لنا رسالة خلاصية مهمة قد رآها في أحداث حياة يسوع.
(يو 12 /12-22)
عيد المظال: إنطلق يسوع من الجليل إلى أورشليم للمشاركة في العيدفالى عبر الأردن (يو 40:10) ثم إلى بيت عنيا حيث أقام لعازر (يو45:10).
عيد التطهير : يسوع في بيت عنيا (يو 55:10)
عيد التجديد: يسوع يدخل أورشليم (يو12:12)
عيد الفصح يسوع يصلب.
لماذا تستقبل الحشود يسوع هذا الإستقبال الملكي؟
1-عادات اليهود في أعيادهم:
بعد توحيد مكان العبادة وإلغاء كل الهياكل في الشمال وحصرها في هيكل أورشليم، كان على كل يهودي أن يقوم بزيارة الهيكل في أورشليم، ويقدموا تقادم ثمار الأرض، ينصبوا المظال حول الهيكل ويحجوا، في عيد المظال وفي عيد الفصح.
وكان عيد المظال يدعى لدى اليهود عيد الفرح، أو أيضاً: Atid Lavo أي المزمع ان يأتي (عيد المظال تسمية أطلقها الوثنيّين على العيد)، وكان بعكس عيد الفصح الذي يغلب عليه طابع الألم (الأكل وقوفا، وتذكر الخروج، والطابع الدموي)، كان عيد المظال هو عيد فرح، يغنون ويرقصون ويحملون أغصان النخل (الإنتصار) والزيتون (السلام)، وينزل سكان المدينة إلى مداخل أورشليم لإستقبال الحجّاج بالهتاف والغناء. في عيد المظال كان الشعب يتذكر سكناه مع الرب في الصحراء، ويعتبرونها من الأوقات الذهبية لأن الرب كان حاضراً في وسطهم ليخلصهم، ولذلك كانوا في هذه الفترة يهتفون هوشعنا، أي الله يخلصنا.
2-قيامة ألعازر:
السبب الثاني لهذا الإستقبال الملكي ليسوع حين دخل أورشليم هو أن الحجّاج قد جاؤوا من بيت عنيا أيضاً ونقلوا خبر قيامة لعازر، واخبروا أن يسوع آتٍ اورشليم للعيد، فلا بد أن من سمع أخباره قد ذهب لإستقباله، لا سيّما بعد أن اجترح المعجزات، والمعجزات بالنسبة لليهود هي دليل النبوءة والمسيحانية: نبوءة أشعيا قد تحققت به: العمي يبصرون والعرج يمشون، والموتى يقومون: إذا هذا هو المسيح جاء يخلصهم من نير الإحتلال الروماني.
لاهوت التجديد المرتبط بهذه الأعياد:
إن الرب قد خلق الوجود ولم يُعده الى العدم، ليس لأنه عاجز بل لأنه يحب ويحترم، لأنه وفي لكلمته:
حين أخطأ آدم وحواء لم يبدهما الرب ويخلق إنساناً آخر لا يخطيء (كما قد يفعل الولد حين يرسم، إذا أخطأ مزّق الورقة وبدأ على ورقة جديدة) بل أكمل مع آدم وحواء المشوار الذي بدأه. وحين الطوفان لم يمح الأرض كلها ويخلق من جديد، بل أكمل مع نوح، رمز الوفاء للعهد مع الرب. ومع مجيء الرب لم يمح الناموس، لم يمح العادات، ب أكملها وتممها. عادات وتقاليد الشعب اليهودي أظهر معناها الحقيقي، لم يلغ المظال بل أظهر معناها الحقيقي، لم يلغ الهتاف والهوشعنا بل أظهر معناها الحقيقي، لم يلغ النبوءات بل أظهر معناها الحقيقي.
إذاً أي معنى حقيقي قد اظهر؟
هذه الفترة من أعياد الشعب اليهودي تعود بنا إلى فترتين مهمتين من علاقة الشعب مع الرب:
-في عيد المظال يتذكر الشعب اليهودي الخروج من مصر وسكنه في الخيام مع الرب، وسكنه هو في خباء المحضر، أي في خيمة الحضور، وهي من أجمل أعيادهم لأن الرب كان دائماً معهم، في عمود من غمام نهاراً ومن نار ليلاً.
المسيح لم يلغ هذا العيد بل أظهر معناه، ظهر هو بين الشعب، ظهر هو "الله معنا"، يسوع المخلص (يهوشعنا)، أظهر حضور الله الفعلي، تجسد عمود النار والغمام بينهم.
-في عيد التجديد يتذكر الشعب الخروج الثاني، العودة من السبي، حين أعادوا تكريس الهيكل الذي هو رمز حضور الرب بين شعبه. وفي هذا العيد كان الشعب يتذكر سؤال الملك سليمان: «ولكن هل سيسكن الله على الأرض؟».
إذا لم نفهم معنى هذا العيد، وتشديدهم على هذا السؤال في إحتفالاتهم الليتورجية لا يمكن أن نفهم ما أراد يوحنا ان يوصل إلينا. بدخول المسيح صار الجواب على سؤال سليمان (1مل 27:8). المسيح هو المخلّص، هو الله القادم إلى هيكله.
ومع يسوع أيضاً تتم نبوءة أخرى، نبوءة زكريا: ها هو ملكك يأتيك راكباً على اتان، وجحش إبن أتان، وبحسب تفسير «المدراش» كان الأتان يعني الشعب اليهودي حامل الواح الوصايا، وابن الأتان الذي لم يستعمل بعد كان يعني الأمم التي لم تحمل الوصايا. المسيح سيملك على الكل، وسيحرّر الجميع.
وبحسب تفسير السنهدرين والشيوخ ال72، كان راكب الأتان هو رمز للشخص المسالم، بينما الحصان هو رمز الحرب، إن المسيح يأتي ملكاً للسلام.
من دون هذين العيدين لا يعود لدخول المسيح إلى أورشليم أي معنى.
دخول المسيح وهتاف الهوشعنا نفهمه على ضوء هذين الحدثين. الشعب اليهودي في غضون هذه الأيام التسعة يستعيد تاريخه هذا ويستذكر تدخّل الله دوماً في حياته، كما نحيا نحن أسبوع الآلام والقيامة، قراءات كثيرة، وتأمل بحضور الرب، والتوبة والطلب من الرب أن يأتي من جديد: وما هي علامات مجيئه من جديد؟ نبوءة أشعيا التي رأوها تتحقق بالمسيح. لذلك ترك الشعب الخيام والهيكل وإتجهوا نحو المسيح. عاداتهم كانت تقتضي ان يصرخوا هوشعنا في الهيكل وفي المظال لياتي الرب، وحين رأوه حاضراً ذهبوا لإستقباله.
الكتبة والفريسيين هم الأكثر وعياً للحقيقة الكتابية وللمعنى الليتورجي للعيدين، ولهذا كانوا الأكثر رفضاً، لأن عمل الهيكل والمظال قد إنتهى، والمسيح قد جاء ليحررههم.
التأمّل:
1-أولوية الحقيقة في حياتنا: السعي إليها والشهادة لها
المسيح يدخل إلى أورشليم، يتمم النبوءات، يعلم أن هذا سوف يقوده إلى الموت، أنما لم يساوم على الحقيقة، لأنه هو الحقيقة، لأنه هو الحق، هو الله، والله لا ينكر ذاته. هذا يدفعنا إلى التأمل في واقعنا، في حياتنا المسيحية، وفي التزامنا الكنسيّ. ما مدى اولوية الحقيقة في حياتنا؟ اولوية الشهادة للحقيقة حتى الإستشهاد: الحقيقة لمبادئنا المسيحية؟ ما مدى الشهادة للحقيقة في تبشيرنا؟ بماذا ابشّر، وكم أنا صادق في بشارتي لمسيح؟ المسيح في صِدقه جلب الكون كله اليه (11، 19)
2-أين هي مظالنا نحن اليوم؟
هل هي مقتضية على الخيمة التي سنضعها في خميس الجسد لتظلل الرب الحاضر في القربان؟ أين هو حضور الرب في حياتنا؟ أين هي مظلته بيننا، في جماعاتنا، في بيوتنا، في مدارسنا، في جامعتنا، في علاقتنا مع الآخرين؟ ما مدى شهادتنا لحضور الرب بيننا؟
3-علاقتنا الشخصية بالرب؟
الجموع كانت تصرخ "هوشعنا"، أي أنها كانت تصرخ إسم الرب مع الضمير المتّصل "نا": الترجمة قد تكون "يسوعنا"، "مخلّصنا". نتساءل عن العلاقة الخاصة التي تربطنا بالرب لنصرخ له "يسوعنا"، فأحياناً تقتصر معرفتنا للرّب على معرفة نظرية، ننتظره كما إنتظره اليهود، مخلص زمنيّ أو سياسيّ أو حزبيّ، تضحي الهوشعنا شبيهة بصراخ متظاهرين في الساحات. الشعب اليهودي إنتظر المسيح واستقبله لأنه المخلص، ولما رأى أن طريقة يسوع لا تعجبه صرخ في اليوم التالي "إصلبه". ونحن هل ننتظر الرب يسوع كما هو، ونؤمن به ونتبعه كما يريد هو، وعلى طريقته، أو اتبعه لأنه سيخلصني من أخطاء معينة، من حرب معينة، من إضطهاد، من موت... وإذا رأيت طريقة الرب مختلفة عن تفكيري أتركه وأصرخ "أصلبه"؟ كم من المرّات نطلب من يسوع حلولاً سريعة وسحرية، لا نرضى بيسوع المسالم الذي يسالمني مع ذاتي، أنا أرفض ذاتي وواقعي وضعفي وممدوديتي وطاقاتي وشكلي وخطيئتي،، وأريد المسيح الذي يقتلعها وليس يسوع الذي يسالمني معها لينميني وينضجني لأجد أنا لها حلاًّ لأنه يريدني أن اكون سيداً على ذاتي. أرفض الحلّ الّذي يستلزم الجهد والتضحية والتسليم المطلق للرب، الحل الذي ينميّ شخصيتي، وأطلب حلاً سريعاً وسحرياً، أطلب برأبا الذي يقود ثورة ضد الرومان، ثورة كانت ستقود لخراب الهيكل، أطلب ثورة على واقعي، ثورة خارج المسيح قد تهدم هيكل الروح القدس، قد تهدم الإنسان الناضج الذي عليه أن يحمل المسيح إلى الأمم.
4- المسيح هو الملك الأوحد على حياتنا ووجودنا: لقد أُعجب اليهود بقدرة يسوع بعد أن رأوا لعازر فصرخوا له: "هوشعنا" "مبارك ابن داود" و"مبارك الملك الآتي باسم الرّب"، وبعد خمسة أيام صرخوا "فليصلب" وصرخ قادتهم "دمه علينا وعلى أبنائنا". لقد خذل يسوعُ الشعبَ، خاب أملهم، ظنّوه مخلّصاً جاء يريحهم من أثقال النير الرومانيّ ومن الضرائب القاسية. أرادوه أمير حرب فجاء أمير سلام، أرادوه رجل سيف فأعلن أنّه يلقي نار الحبّ في الأرض وكم كانت رغبته أن تشتعل الأرض حبّاً. لم يكن هو المخلّص المطلوب، وكان من الأفضل له أن يرحل. ونحن اليوم كم نجد كلام يسوع مزعجاً، يدعونا الى التضحية، الى المغفرة، الى المحبّة، يدعونا الى حمل صلبان حياتنا، الى السير في الطريق الضيّق تمزّق أشواكه أقدامنا. نفتّش عن الحلول السهلة، نسمح للحقد أن يملك في قلوبنا، نعتنق منطق الإنتقام ونريد أن نحلّ مشاكلنا بسيف قوّتنا الذاتيّة. كما الشعب القديم نزيل يسوع من حياتنا لنقدر أن نحلّ مشاكلنا بطرقنا الخاصّة. نصرخ "فليُرفَع"، نزيله من حياتنا، نحيا انقساماً بين ما نؤمن به وما نطبّقه.
هل نعلن المسيح ملكاً أوحد على حياتنا؟ من هو أو ما هو الملك الحقيقيّ على قلبي؟ هل هو يسوع أم هي أموالي، وسلطتي ومقتنياتي؟ لا مساومة في اتّباع يسوع ولا حلول وسط، إمّا أن نختار يسوع أو نختار رغباتنا، لا يمكن ليسوع أن يتساكن ومنطق الحقد والقوّة والعنف. هوشعنا الأطفال هي دعوة لنا لنختار، ويسوع يريدنا أحراراً، نختاره بحرّيتنا أو نتركه بإرادتنا، وكأحرار نتحمّل مسؤوليّة خياراتنا.
هو عيد "الشعنينة" عيد الأطفال: منذ القرون الأولى للكنيسة، لا سيّما في كنيسة أورشليم وإنطاكيا، إرتبط هذا العيد بالأطفال وبهتاف الأطفال. في هذا العيد تزدان كنائسنا بأطفال يزدهون بأجمل الملابس وأبهى الشموع. نفرح بهم، نفتخر بهم، نبتسم ونضحك، ويسوع يفرح ويفتخر ويُسرّ. فهم الأبرياء، وهم مثالنا في الحياة المسيحيّة: "من لا يعود كالأطفال لا يدخل ملكوت السماوات" يقول السيّد، فالطفل بريء، لا يحقد، يسامح، يحبّ، ينظر بعين البراءة لا بالنيّة الشريّرة، هو الكائن المتّكل دوماً على والديه، يلقي ذاته بين يديهما بثقة. هم مثالنا في السعي الى البراءة من جديد، الى امتلاك النظرة الصافيّة وسرعة المسامحة والقدرة على المحبّة، إنّهم مثال لنا في الإتّكال على الله والإرتماء بين يديه دون تردّد وبثقة لا حدّ لها. هم مثال لنا بثيابهم اليوم في ضرورة أن نعيد النقاوة الى ثوب معموديّتنا من جديد، ثوباً لبسناه ناصعاً ولطّخناه بخطايا كثيرة، فلنُعِد اليه نقاوته بتوبتنا الصادقة، فنصرخ مع الأطفال، بفرح الأطفال وحبّهم، "هوشعنا ابن داود"، نعلن يسوع مخلّصنا وفادينا والملك الأوحد على حياتنا.