امتحنوا الارواح
"امتحنوا الارواح"
(1 يو 4: 1)
- وجهة نظر في فيلم "الصمت" Silence -
في رسالته الأولى يعلو صوت يوحنا "إبن الرعد" مجدداً: "أيها الأحباء، لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح: هل هي من الله؟"
تعود الحاجة لهذه التوصية بلجاجة عند مفارق عدة من حياتنا ولا نستثنيها طبعاً من تلك الثقافية منها، ولا نعجب أننا بحاجة الى ملكة "التمييز" حتى – بل يجب أن أقول خصوصاً- أمام الشاشات الكبيرة منها والصغيرة: فالجميع مدرك كم للصورة ومجمل التجربة البصرية – السمعية دوراً حاسماً في تشكيل الآراء وأحياناً حسم الخيارات.
برز مؤخراً في دور السينما، فيلم (Silence) الذي يستند على رواية "شوساكو إندو" التي تحمل نفس الاسم:(الصمت). والفيلم من لحظة إطلاقه جذب إهتمام رواد السينما لا سيما إن العمل من توقيع المخرج "مارتن سكورسيزي" الذي فعلاً لم يخيّب جمهوره في تقديم عملاً متميزاً من حيث التصوير السينمائي وكثير من التفاصيل التقنية التي لسنا هنا بصددها؛ فمحور إهتمامنا سوف ينصب على المحتوى والرسائل أو الأسئلة التي نستخلصها من هذا الفيلم.
ومن الجدير بالذكر أن مارتن سكورسيزي ألتقى مع البابا فرنسيس. وخلال اللقاء الذي دام حوالي 15 دقيقة قال البابا أنه سبق وقرأ الرواية، ودار الحديث بينه وبين سكورسيزي وزوجته وابنتيه، ومنتج الفيلم، حول أولى الإرساليات اليسوعية إلى اليابان وعن متحف الستة وعشرين شهيد والنصب التذكاري في ناغازاكي، الذي يكرم الشهداء اليابانيين الذين أعدموا هناك عام 1597. يتوقف تعليق الفاتيكان الرسمي هنا.
• القصة :
تدورأحداث القصة في منتصف القرن السابع عشر حول كاهنين برتغاليين يسافران إلى اليابان التي تعاني من إضطهاد شديد للمسيحية. وهدف سفرهما كان تلهفهما لمعرفة مصيرمعلمهما ومرشدهما المفقود كريستوفاو فيريرا، بعد أن وصلت أخبار تفيد أنه ترك المسيحية بعد تعرضه للتعذيب من قبل السلطة اليابانية. على طول الطريق، يمر الكاهنان بقرى تحوّل قاطنيها الفلاحين الى الإيمان بفضل رسالة مبشرين سابقين. ويدركا أن المرسلين جميعهم إما لقوا حتفهم أو طردوا من البلاد. ونرى في القسم الأول من الفيلم كيف أن الكاهنين وتحت جناح الليل يقومان بخدمة الأسرار من إعترافات وقداديس للجماعات الناشئة هناك.
لكن يبدو أن السلطات إشتمّت أمر الكاهنين رودريغيز ورفيقه فرنسيسكو. وأرسلت الجنود عقبهما: وهنا يتم الضغط على الأهالي وتعذيبهم وحتى قتلهم... ويركز الفيلم على معاناة الأب رودريغز. حيث يقوم المسيحيون اليابانيون، من رجال ونساء بالمخاطرة بحياتهم لحمايته، يتعرضون للتعذيب والموت في حضوره، وفقط بنبذ إيمانه، يضع حداً لعذاب المزيد. وكان المطلوب أن يدوس على ما يُعرف ب (Fumie) , وهي لوحة معدنية منقوش عليها بالإجمال صورة للمسيح: وذلك كتأكيد على التخلي عن الإيمان به!!!
ثم تأتي المفاجأة المؤلمة حين يتم إحضار الأب فيريرا، المعلم الذي إنطلقت المخاطرة من أجله... لتتأكد الأخبار: هذا الذي كان مرشداً في الحياة المسيحية، وهذا اليسوعي البطل، قد تخلى عن إيمانه، وإتخذ زوجة يابانية، ويعيش كمفكر أو فيلسوف تحت حماية الدولة. ولا تتوقف الفاجعة هنا إنما يقوم بإقناع تلميذه السابق بالتخلي عن السعي ل"مسحنة" اليابان، التي وصفها بأنها "مستنقع" حيث بذرة المسيحية لا يمكن أن تترسخ.
في اليوم التالي، ومع إزدياد عدد المسيحيين الذين يتعرضون للتعذيب المروّع حتى الصلب معلقين رأساً على عقب تُعطى للأب رودريغز الفرصة، مرة أخرى، أن يوقف هذه الدوامة بقبوله أن يدوس وجه المسيح. وسط تردده يقوم الأب فيريرا بتشجيعه: "هناك بعض الأمور أكثر أهمية من حكم الكنيسة. لو كان المسيح هنا، لكان قادراً على إنقاذ هؤلاء من خلال الارتداد... لكان المسيح إرتد"!!! مع هذه الكلمات الصادمة، "ينكسر حاجز الصمت الإلهي" ويسمع ما يعتبره رودريغز صوت يسوع نفسه، يشجعه أن يدوس على صورته. وهذا فعلاً ما يقوم به الكاهن...
في أعقاب الإرتداد، يسير رودريغز على خطى فيريرا يتمتع بحماية السلطة متخذاً إسماً يابانياً، زوجة يابانية، وصفة فيلسوف، قبل وفاته عن عمر يناهز ال 64 ليتم دفنه في مراسم "بوذية".
وأخيراً إضافة غريبة: يُظهِر سكورسيزي جثة رودريغيز داخل تابوته وهو ممسك بصليبٍ صغير، تاركاً المشاهد مع تساؤل إذا كان الكاهن المرتد كان لا يزال يحتفظ بإيمانه سراً...
-------
مما لا شك فيه أن الفيلم، نجح بما يفترض أن تقدمه الأفلام الإستثنائية: تُجبرنا على مواجهة بعض المشاعر التي قد لا نرغب في زيارتها. إشكالياته لا تكمن بأنه يقدم ما قد يزعجنا بل بما قد نخلص إليه بعيداً عن ملكة "التمييز" أعلاه!!!
• تعليق على بعض النقاط الإشكالية :
يعيش مسيحيو العالم اليوم أمام تحديين كبيرين:
الإضطهاد المباشر الدموي، والذي تعاني منه الكثير من كنائسنا وجماعاتنا في شرقنا الملتهب بنار الإرهاب والرازح تحت سيف المتطرفين وجهل الإنتحاريين والنشاط المميت للحركات الأصولية التي تحذف خلق الله بإسم إله خيّطوه وفصلّوه على قاماتهم التي لا تقبل الإختلاف!
وفي المقلب الآخر تحدٍ آخر: فبإسم إعلاء الحرية الشخصية و "خصوصية المعتقد" غالباً ما يُحذف الله ومسيحه؛ وكأن المجاهرة به "تخدش" لا بل تؤذي... وكثيراً ما نسمع كيف أن المؤمنين الحارّين يوصّفون ب "المتدينين المتزمتين" الذي يشكلون "الخطر" على حرية المجتمعات "المنفتحة". وقد رأينا مثالاً على ذلك حين مشى الكثير من الكاثوليك في أميركا تنديداً بمحاولات تشريع الإجهاض!
وهنا، تأتي إشكالية تنتج عمّا قد يُفهم في الفيلم أنه تشجيع على "رمادية" معينة تجاه المجاهرة بإيماننا وأنه لا ضير في ظروفٍ معينة على إبقاء "مسيحيتنا" طي الكتمان. يحذّر الأسقف روبرت بارون في تعليقه على هذا الفيلم بالذات من هذه النقطة الحساسة ويقول أن الخطورة تكمن أنه بحجة أن الإيمان أمر معقد ومتعدد الطبقات نقبل أن نتحوّل الى مسيحيين متذبذبين، حريصين على "خصخصة" إيمانهم!!
أمام التحديين الكبيرين أعلاه أغلبنا يسير مسيرة "التتلمذ البطرسية" تتأرجح حماستنا وضعفنا بين سماع الطوبى وصوت الديك ثلاث مرات... ولكن علّ جميعنا يختم هذه المسيرة بالنضوج البطرسي الذي لبى دعوة المسيح الى عيش البطولة حتى "الحب الأعظم" : فما من حبٍ أعظم من أن يبذل الإنسان ذاته في سبيل خلاص أحبائه!!! بطرس سار وراء سيده، لم يساوم ولم يصطحب الى عتمة قبره صليباً صغيراً إنما إختار بطولة الصليب الكبير الذي أزهر عطر المسيح فوق كل "مستنقعات" العالم!!! تاريخ الكنيسة يشهد أن الشهداء هم بذار الإيمان الذي به خلاص الإنسان.
إذا إمتحنّا الأرواح والأصوات، لأدركنا أن من سمعه الأب رودريغيز يشجعه على الإنكار ليس صوت المسيح!! قد يكون صوت ضعفه أو صوت المجرِّب أو صوت خوفه أو شعورٍ بالذنب في غير محله: فمن يُقتلون يستشهدون من أجل الحق والمسؤول عن دمائهم هم الذين على يدهم قتلوا... لذلك لم يكن من داعٍ أن يتحوّل الأب رودريغيز الى بيلاطس آخر يغسل يديه من دم البريء الذي حكم عليه إرتداداً!!! ويعزز هذا الإستهجان إصرار الأب لسنين على نمط حياةٍ بعيدة عن الوصية الكبيرة : " إذهبوا وتلمذوا وعمدوا جميع الأمم" ( مت 19:28)... نعم، جميع الأمم، دون إستثناء، حتى "مستنقع " اليابان!!!
أحب شهداؤنا الحياة و لم يكن أبطالنا هؤلاء بعشاق موت أو سيف، ولكنهم أدركوا أن مع المسيح الموت يضحي حياة و بدونه أيامنا تصبح شبه حياة عابرة تنتهي في القبر المظلم، فلم يخافوا ممن يقتل الجسد....
أبطال فيلم (الصمت) هم هؤلاء اليابانين العلمانيين الذين صانوا الحق وباعوا كل ما يمتلكون ليشتروا اللؤلؤة الثمينة!!
أمام عظمتهم تستحضرني عبارة لقديس عتيد هو الطوباوي يعقوب الكبوشي، فيها يقول: "الموتُ ولا العيشُ كنصف مسيحي" وهكذا عاش المبشرون في الإرساليات اليسوعية، بعيداً عن القصة المزعجة لهذين الكاهنين المنسوبين الى رفاق يسوع، هناك المئات من اليسوعيين ممن دقَت على أقدامهم مسامير التعب وحلّت جميلة فهي أقدام المبشيرين بالسلام...
في زمن الرداءة التي نعيش: علّنا لا نعلي تمجيد "الرمادي" بل ونحن مبتعدين عن روح الإدانة نحفظ روح الحرارة و الأمانة. علّنا لا نساوم على الفادي الذي يحذّرنا من أن نكون فاترين (سفر الرؤيا 3: 15- 19). إن اتباع السيد ليس بالأمر السهل إنما يتطلب حمل الصليب وهو لم يعدنا إلا بذلك (متى 16: 24- 25) لكن حين ندخل "بستان الجسمانية”، وتنسحب الخيرات وتقع الضيقات، ومع ما نشعر به من "صمت الله" وفيما كارثة الإيمان تقترب، لنذكر كم المفيد ألاّ نتحوّل (عن) وجه الرب، بل كأيوب البار، نتحوّل (إلى) وجه الرب نتحاور معه مع الفارق الكبير أن أمام ناظرينا المسيح على صليب الحب: فهو جواب السيد عن سر الألم في حياة الصديقين المتألمين...
هناك سيضحي الصمت أبلغ كلام ولن يكون ولا يمكن أن يكون صوته هزيل يطلب منا إنكار الحق بل سيعلن "أنا هو الطريق والحق والحياة". (يوحنا 14:6). وقلوبنا ستهلل لقبول هذه الحياة حيث "الأفراح آباد و الآباد عيد"!!!