عيد الدنح
هذا النص له أهمية كبيرة حتى من ناحية الموقع الذي يحتلّه فهو يأتي مباشرة بعد اناجيل الطفولة وقبل بدء حياة يسوع العلنية. وجود يوحنا ويسوع في هذا المكان يشير، بطريقة غير مباشرة إلى أن غاية رسالة يوحنا المعمدان قد تمّت من خلال إعلان وصول يسوع، مسيح الرب.
(لوقا 3 /15-22)
في رسالة يوحنا المعمدان، نجد ثلاثة أبعاد: الدعوة إلى التوبة وإعلان اقتراب الدينونة (7-9)، البعد الأخلاقي وكيفية وجوب التصرف في الحياة اليومية (10-14). أما البُعد الثالث، أي البعد المسيحاني الخلاصي الذي يبتدىء به إنجيلنا (15-18) فيوحنا يعلن أنه لا يتعلق به، بل بالمسيح الآتي.
يوحنا اذاً أخذ دور أنبياء العهد القديم، يعلن اقتراب الدينونة ويدعو إلى التوبة. برسالته، يتمم يوحنا نبوءة اشعيا (أش 40، 3-5) ويعلن المرحلة الأولى من خلاص شعب الله.
15- وكان الشعب في ترقّب: كلمة الشعب * تختلف عن كلمة الجموع * من حيث المعنى والبعد اللاهوتي. فالجموع هم الاشخاص الذين يتبعون يسوع صانع العجائب، يطلبون الآيات، يبحثون عن منفعة شخصية، لا تجمعهم قضية واحدة هي قضية الخلاص، اما كلمة "شعب" فهي تستعمل دلالة على شعب الله الذي سمع وعود الله من خلال الانبياء ووحّدته قضية واحدة هي قضية الخلاص وينتظر، كجماعة، تحقيق وعود الله له.
16- يوحنا يعلن انه ليس المسيح، بل هو السابق الذي اعلن عنه اشعيا (اش4، 3) يأتي ليعلن ان معزّي اسرائيل قادم، ويحضر الشعب لقبوله من خلال التوبة، العودة الى الذات الحقيقية.
- يعمّدكم بالروح القدس والنار: ميزتا النار، الانارة والحرارة من جهة، والقدرة على التدمير من جهة اخرى، قد جعلاها تصبح رمزاً للألوهة: النار طاهرة ومطهّرة، الله ظهر لموسى بنار مشتعلة (خر 3، 2) وبعمود من نار (خر 13، 12) يعود الشعب الى ارض الميعاد، وجبل سيناء كان كله مملوءا نارا (خر 24، 17)، دانيال شبَّه مجد الله بالنار المشتعلة ( دا 7، 9). فالله نار آكلة (تث 4، 24). وفي العهد الجديد النار هي رمز للحضور الاهلي (عب 12، 29)، وبإعلان يوحنا المعمدان ان يسوع يعمّد الشعب بالنار، كان يعلن مصدر يسوع الالهي وقدرته على اعطاء المعمودية الالهية التي تنير وتدمر الشر. لذلك سوف نقرأ ايضا في لوقا (12، 49) ان المسيح جاء يجلب النار على الارض، و"كم ارغب في ان تكون قد اشتعلت".
ربط الروح القدس بالنار هو اعلان لميزة المعمودية التي يعطيها المسيح وحده: يوحنا دعا الشعب الى التوبة، اي الى تحويل الذات من اعمال الشر الى اعمال الخير، انما هذه التوبة، هذا التحول، لا يأخذه معناه الاعمق الا من خلال التدخل الالهي، بالروح والنار التي وحده يسوع يقدر على اعطاءهما.
ولما اعتمد الشعب واعتمد يسوع وبدأ يصلي انفتحت السماء: إعتماد يسوع ليس ضرورياً، انما تعليمياً، هو يدخل ضمن الجماعة المعتمِدة كدليل ومثال للطاعة للآب. انفتاح السماء لم يأتِ، كما يبدو من التركيب اللغوي، نتيجة لاعتماد يسوع انما جواباً على الصلاة، وهو ما يشدد عليه لوقا دوماً كما نرى في اعمال الرسل (أع 4، 31) وفي حياة يسوع قبل كل عمل مهم (3، 21؛ 5، 16؛ 6، 12؛ ...) ان جواب الله على صلاة يسوع ايضا ذو بُعد تعليمي موجَّه الى الكنيسة، للاعلان عن العلاقة الوثيقة بين صلاة الجماعة وعطية الروح القدس.
- التجلي الالهي يتضمن ثلاثة عناصر: انفتاح السماء الذي يشير الى التواصل الذي تمّ بيسوع بين السماء والارض، وحلول الروح القدس الذي يعلن للجماعة ان يسوع هو المسيح – الممسوح بالروح القدس والمرسل من الرب، والصوت الالهي الذي لم يكن متجهاً ليسوع، فيسوع عرف منذ كان طفلا ان الله هو ابيه (لو 2، 49) انما كان جوابا على سؤال الشعب عمّن يكون المسيح (3، 15).
- بشكل جسدي، كأنه صحافة: تشبيه وحيد للروح القدس في لوقا الذي يستعمل عادة تشبيه ألسنة النار. وجود عنصري الروح والماء معا في نص واحد يعيدنا الى سفر التكوين (روح الله يرفرف على المياه (تك 1، 2) وحمامة نوح فوق مياه الطوفان تعلن انتهاءه (تك 8، 11): هي قوة الله التي تسيطر على الشر والموت وتعطي رجاء جديداً.
بصوت الله، وباستعمال كلمات المزمور 7، 2 "انت ابني وانا اليوم ولدتك" يعتلن المسيح امام الجماعة كالملك المسيحاني، والكلمة التي من خلالها يعلن الله الآب بدء رسالة الابن العلنية ليعيد الشعب الى العلاقة البنيوية، بدأت ملامحها تتجلى بالسماء المفتوحة على الأرض.