خميس الأسرار
"كما سبق وقلت في رسالتي Ecclesia de Eucharistia (الكنيسة تحيا من الإفخارستيا). مهم جداً أن لا يهمل إيُ بعدٍ من إبعاد هذا السر. ففي الواقع هناك النزعة دوماً في الإنسان لأن يُحَجِّم الإفخارستيا ويجعلها على قياسه الشخصي، بينما في الحقيقة عليه هو أن ينفتح على جميع أبعا د السرّ." تقدّم لنا ليتورجيّة خميس الأسرار نصّ العشاء الأخير كما رواه لوقا، لنتأمل بسّر الإفخارستيا في معناه البيبلي، من حيث مصدر هذا السر ومن حيث معناه اللاهوتي في حياتنا المسيحية.
(لو 22 /1-23)
لا يمكننا ولا يحق لنا أن نعزل هذا النص الكتابي عن بيئته الدينية والثقافية، وإعتباره نصّا خاصاً بالمسيحيين، فالقديس لوقا، حين كتب هذا النص المقدّس، لم يكتبه ليؤلّف كتاباً مقدّساً، إنما كتبه لجماعة كنيسته المحلية ليعلّمها ويقويها في فترة نزاعات داخلية وإضطهادات خارجية، ويجيب على تساءلاتها حول الإيمان بالرب يسوع.
يبدأ لوقا إنجيله في هيكل أورشليم (1،5) ويختمه في الهيكل: "وكانوا يُلازِمونَ الهَيكَلَ يُبارِكونَ الله" (24، 53) وهو تشديد على استمراريّة عهود الله لشعبه من خلال ابنه الّذي جاء يكمل مسيرة التاريخ الخلاصيّ ويتمّم العهد بموته وقيامته. يعلن لوقا أن وعود الله قد تححقت قدوم المسيح . لذلك ينطلق لوقا من التقليد اليهودي لعيد الفصح ليعلن، بطريقة قد لا نراها أو نفهمها نحن اليوم بعد الفي سنة، إذا لم نقرأ جيداً النص بعين العهد القديم والعهد الجديد معاً. إذا لم نقرأ نص العهد الجديد ضمن واقعه وبيئته نكون مخطئين. لا يحق للمسيحي أن يقول: "ليلة العشاء السرّي إخترع المسيح ديانة جديدة" المسيح لم يكن يريد تأسيس ديانة جديدة، بل هو إكتمال وعود الله في العهد القديم.
لنفهم النص أولاً:
الفصح: معنى الكلمة
اسم عبري معناه (( عبور )) (خر 12: 13 و 23 و 27).
(1) أول الأعياد السنوية الثلاثة التي كان مفروضاً فيها على جميع الرجال الظهور أمام الرب في بيت العبادة (تث 16: 1- 2 و 5- 6). ويعرف أيضاً بعيد الفطير (خر 23: 15 وتث 16: 16) أنشئ في مصر تذكاراً للحدث الذي بلغ من خلاله خلاص بني إسرائيل ذروته (خر 12: 1 و 2 و 14 و 42 و 23: 15 وتث 16: 1 و 3) حين ضرب الرب ليلاً كل بكر في مصر وعبر عن بيوت بني إسرائيل المرشوشة بالدم، والمقيمون فيها واقفون وعصيهم في أيديهم في انتظار الخلاص الموعود. فصارت تلك الليلة مقدّسة تحفظ للرب وحده.
كان العيد يبدأ مساء الرابع عشر من شهر ابيب (المعروف بعد السبي بشهر نيسان) أي بداءة الخامس عشر منه (لا 23: 5 إلخ). فكان يذبح خروف أو جدي بين العشائين نحو غروب الشمس (خر 12: 6 وتث 16: 6) ويشوى بكامله دون تحطيم عظمه، ثم يؤكل مع فطير وأعشاب مرة (خر 12: 8). كان الدم المسفوك يشير إلى التكفير. أما الأعشاب المرّة فكانت ترمز إلى مرارة العبودية في مصر، والفطير إلى الطهارة (قابل لا 2: 11 و1 كو 5: 7 و8) ـ إشارة إلى أن المشتركين في الفصح ينبذون كل خبث وشر ويكونون في شركة مقدسة مع الرب. وكان جميع أفراد البيت يشتركون في أكل الفصح. وإذا كانت الأسرة صغيرة كانت تشترك معها أسر أخرى لكي يؤكل الخروف بكامله (خر 12: 4). وكان رأس العائلة أو المتقدم بينهم يتلو على الحضور قصة الخلاص والعبور من مصر الى أرض الميعاد.
كان المشتركون في أكل الفصح في أول عهده يقفون بينما في الأزمنة الأخيرة صاروا يتكئون وقد أضافوا إلى فريضة الفصح فيما بعد الأمور التالية: أربع كؤوس خمر يباركها ربّ العائلة ويمرّرها الى الحاضرين ممزوجة بالماء، ويرنّمون المزمورين 113 و118 (قابل اش 309ومز 42: 4)، ويحضّرون وعاء من الأثمار ممزوجة بالخل لتذكيرهم بالطين الذي جبله آباءهم في عبودية مصر.
عشاء الفصح:
يتألف من: الحمل الفصحي (لا ذكر له في هذا النص)، الأعشاب المرّّة، الخبز الفطير، أربعة كؤوس من الخمر. أربعة كؤوس من الخمر، وقد قلنا أنّها إضافة متأخّرة لعشاء الفصح، تحمل رمزية ترتبط بنصّ خروج 6، 6ـ7.
أَنا الرَّبُّ، لَأخرِجَنَّكم مِن تحتِ سُخْراتِ المِصرِيِّين
وأُنقِذُكم مِن عُبودِيَّتِهم
وأَفديكم بذِراعٍ مَبْسوطة وأَحْكامٍ عَظيمة
. 7 وأَتَّخِذُكم لي شَعباً وأَكونُ لَكم إلهاً وتَعلَمونَ أَنِّي أَنا الرَّبُّ إِلهُكم الَّذي يُخرِجُكم مِن تَحتِ سُخْراتِ المِصرِيَّين. 8 وسأُدخِلُكمُ الأَرضَ الَّتي رَفَعتُ يَدي مُقسِماً أَن أُعطِيَها لإِبْراهيمَ وإِسحقَ ويَعْقوب فأُعطِيَها لَكم ميراثاً أَنا الرَّبّ
الكأس الأولى:
15فقالَ لَهم: (( اِشتَهَيتُ شَهْوَةً شديدةً أَن آكُلَ هذا الفِصْحَ مَعَكم قَبلَ أَن أَتأَلَّم. 16فإِنِّي أَقولُ لَكم: لا آكُلُه بعدَ اليَومِ حتَّى يَتِمَّ في مَلَكوتِ الله )). 17ثُمَّ تَناوَلَ كأساً وشَكَرَ وقال: (( خُذوا هذا واقتَسِموهُ بَينكم، 18فإِنِّي أَقولُ لَكم: لن أَشرَبَ بَعدَ اليَومِ مِن عَصيرِ الكَرمَةِ حتَّى يَأتيَ مَلَكوتُ الله.
هي كأس التقديس أو البركة، يعلن فيها رب العائلة: مبارك أنت يا الله صانع السماوات والأرض، هي كأس الخلاص من سخرة المصريين، لهذا في الكأس الأولى نجد الرب يسوع يعلن: "اِشتَهَيتُ شَهْوَةً شديدةً" فهنا يبدأ بتتميم ما أرسله الله لصنعه. هو الخروج من ملك العالم والدخول في ملكوت جديد يتحقق بقيامة المسيح من الموت.
هي بشرى خلاص قول المسيح: : "لن أَشرَبَ بَعدَ اليَومِ مِن عَصيرِ الكَرمَةِ حتَّى يَأتيَ مَلَكوتُ الله" فهو بالكأس الأولى يحرر تلاميذه، كل واحد منّا، من عبودية مصر، عبودية العمل المادي وترك الروح، عبودية الجسد والمادة، عبودية العالم الإستهلاكي، عبودية النظرة الوصولية كل واحد للآخر، واستعباد الآخر كما استعبد مصر أخاه يهوذا.
خُذوا هذا واقتَسِموهُ بَينكم: هبة الحرية هذه ليست هبة شخصية أو حصرية، المسيح يعلن هنا ما سيقوله لتلاميذه بعد القيامة: إعلان الإنجيل، بشرى للمسبيين وللمستعبدين بالتحرر وإشراك الإنسانيّة كلّها في التحرير الّذي حقّقة المسيح، موسى الجديد.
كسر الخبز:
بعد الكأس الأولى يبارك الرب الذي أعطى الخبز، ثم يؤكل مع الحمل الفصحي، تتشاركه الجماعة كلها. رمزية كسر الخبز تعني ليس فقط موت الحمل، الحمل الغائب في هذا النصّ لأن الحمل الحقيقي هو يسوع الّذي يقدّم ذاته، بل يشمل أيضاً حقيقة اشتراك كلّ فرد في حياة الجماعة وفي خلاصها، فالشعب خلّص كجماعة متضامنة، تشترك في الحياة نفسها وفي الخلاص الواحد وفي الإيمان الّذي يوحّدها. هو ليس خلاصاً فردياً، كل فرد من الجماعة يشترك في خلاص الآخر
يفتح الباب للفقراء فالرب فتح باب الخلاص للبشرية مجّاناً. من هنا نفهم معنى الإفخارستيا كسرّ يصنع الجماعة ويوّحدها، ويُحتفل به في الجماعة بأسرها.
لا يأتي لوقا على ذكر الحمل المذبوح:
ـالمسيح فصحنا قد ذُبح: هو المسيح بذاته يصبح حمل الفصح الحقيقيّ، يذبح فداء عن البشريّة كلّها.
ـالمسيح يُبطل ويقفل دوّامة العنف : بغياب الحمل هنا يعود بنا الرّب الى حالة الإنسان ما قبل خطيئة آدم وحوّاء، حين كان الإنسان في حالة سلام مع الخلائق كلّها، ولم يكن سفك الدماء وارداً. بموت المسيح، عاد ممكناً لنا أن نعود الى حالة السلام مع الله، مع الآخرين ومع ذاتنا، دون سفك دماء ودون حاجة الى التكفير العنيف.
الكأس الثانية:
20وصنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكأسِ بَعدَ العَشاءِ فقال: (هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم )
في الكأس الثانية في عشاء الفصح يعيد اليهودي اتمام (وليس فقط يتذكر) حدث تحريره من العبودية. وقد ربط الأدب الرّبينيّ المعاصر للمسيح الكأس الثانية بقول الرّب: " وأُنقِذُكم مِن عُبودِيَّتِهم" قد نعتقد أن الكأس الأولى والثانية تحملان المعنى نفسه، فالكأس الأولى ترتبط بقول الله لشعبه " لَأخرِجَنَّكم مِن تحتِ سُخْراتِ المِصرِيِّين ". في الكأس الأولى يتحرر الإنسان من عبودية الإنسان والمادة، إنما يبقى عبداً في حالته الكيانية. وحده الإشتراك في طبيعة الله تحرر الإنسان، لذلك إسرائيل كان يُدعى إبن الله فقط حين كان حرّا من عبادة الآلهة الأخرى.
في كأسه الثانية يشرك المسيح الإله الكامل والإنسان الكامل إنسانيتنا في ألوهته من خلال إعطاءنا جسده مأكلاً، إي إنه يعطينا إمكانية الإتحاد جسدياً بشخصه الإلهي، وهي حالة تحرير تفوق الأولى، فهي ليست فقط حالة تحرير إجتماعي أو مادي إنما تغيير كياني: ننتقل من حالة العبيد بالطبيعة والولادة بسبب خطيئة آدم، الى حالة أبناء الله. لذلك كانت الكأس الثانية بعد كسر الخبز، أي بعد اشراكنا في حياته الإلهيّة من خلال إعطائنا جسده مأكلاً.
الحمل المذبوح والكأس الثانية لا ينفصلان: دم الحمل يحقق فداءهم من الموت (بالرش على عضائد الأبواب) ولحم الحمل يحقق وحدة جماعة إسرائيل، تماماً كما أن دم المسيح هو عربون فداءنا وجسده هو وحدتنا جميعنا في جسده السري الذي هو الكنيسة. لذلك كانت العادة في الكنيسة كلها في الألف الأول (لغاية المجمع التريدنتيني)، ولا تزال حتى اليوم في كنائسنا الشرقية، بالمناولة الإفخارستية تحت الشكلين.
التهليل والكأسان الأخيرتان:
لوقا لا يذكر الكاسين الأخيرتين الواجب شربهما في العشاء الفصحي ولا حتى الأناشيد (التهليل) الختامية، فهل هو جهل من الإنجيلي بعادات اليهود؟
للوهلة الأولى قد نجيب بالإيجاب، إنما لوقا لم يكن مهتمّا بكتابة تفاصيل تاريخية إنما لاهوتية:
التهليل غير موجود لأن عشاء الفصح لم ينته، ففصح المسيح لا ينتهي قبل موته على خشبة الصليب، ولوقا كان يعلم هذا، لذلك ترك الكأسين الأخيرتين الى ما بعد العشاء:
الكأس الثالثة:
بها يتذكر اليهود القسم الثالث من وعد الرب: وأَفديكم بذِراعٍ مَبْسوطة وأَحْكامٍ عَظيمة.
الذراع المبسوطة في سفر الخروج هي الضربة الأخيرة: موت الإبن البكر.(6،1 فقالَ الرَّبُّ لِموسى: (( الآنَ تَرى ما أَصنَعُ بِفِرعَون. فإِنَّ يَداً قَوِيَّةً تُجْبِرُه على إِطْلاقِهم ويَداً قَوِيَّةً تُجبِرُه على طَردِهم )) متكلما عن موت الأبكار.)
من بعد هذا نجد أن الشعب غير مهتم (6،9 فكَلَّمَ موسى بذلِكَ بَني إِسْرائيل، فلَم يَسْمَعوا لِموسى لِضيقِ أَنفاسِهِم والعُبودِيَّةِ القاسِية) تماما كما أن الرسل لم يهتموا بعد اشتراكهم بالحرية بل صاروا يتجادلون حول من هو الأكبر.
الأحكام العظيمة هي عبور الشعب العبراني بحر القصب المشقوق. رغم هذا لم يثق الشعب بقدرة الرب في إعطاءه الخلاص فصنع العجل الذهبي (خر 38)، والتلاميذ لم يثقوا بمخطط الرب فلجأوا الى قوة السلاح في بستان الزيتون: عودة الى العنف الذي أراد المسيح إبطاله بتقديمه جسده ودمه. رغم هذا غفر الله للشعب بعد صلاة موسى على الجبل، والرب نفسه غفر عنف التلاميذ في بستان الزيتون.
لقد شرب المسيح الكأس الثالثة في بستان الزيتون، فإن كانت الكأس الثالثة ترتبط بموت أبكار المصريّين، فالمسيح الّذي يزيل العنف، أخذ دور بكر المصريّين. هذه الكأس الثالثة قدّمها الآب له في بستان الزيتون، فصرخ المسيح صرخة إنسانيّتنا:يَا أَبَتَاهُ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ)). 43وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. يد الله القوية نزلت هذه المرة على بكره هو لا على بكر فرعون، الله الآب شارك فرعون ألمه، قدّم الآب ابنه الوحيد لتنتهي دوّامة العنف.
الملاك الذي يعزيه هو الملاك الذي وعده الرب لشعبه فسار أمامه في الصحراء خر 23،30 "ها أَنا مُرسِلٌ أَمامَكَ مَلاكاً لِيَحفَظَكَ في الطَّريق ويأَتِيَ بِكَ إِلى المَكانِ الَّذي أَعدَدتُه"
الأن هو الله الآب يقفل دورة العنف بأخذه نتيجة العنف عليه بموت وحيده. في سفر الخروج نجد حدث موت الإبن البكر منذ بداية عبودية المصريين (أمر فرعون بقتل أبكار العبرانيين) حتى حدث تحريرهم (موت أبكار المصريين)، سلسلة عنف لا تستهدف الإبن بحد ذاته، بل تغلق على الأب كل أمل بالإستمرارية. سلسلة العنف هذه قد أقفلها الآب هنا، إذ شارك العبرانيين والمصريين ألم فقدان البكر، ليخرج الإنسان من دوّامة قتل استمراريّة أخيه الإنسان. على الصليب يرى اللهُ الآبُ ابنَه يتألم ويموت، ليعطي للإنسان إمكانية الإستمرار، عمل يستمر في الإفخارستيا.
لوقا قرأ وتمعّن في سفر الخروج وعرف كيف يرويه في عشاء الفصح ليلة جمعة الآلام.
الكأس الرابعة:
هي كأس الشكر على الوعد الرابع، ربطها التقليد اليهوديّ بالقسم الأخير من الآية: "وأَتَّخِذُكم لي شَعباً وأَكونُ لَكم إلهاً"
هذه الكأس شربها المسيح على الصليب، "وَالْجُنْدُ أَيْضاً اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلاًّ" لهذا بحسب يوحنا يقول المسيح: لقد تم "فلَمَّا تَناوَلَ يسوعُ الخَلَّ قال: (( تَمَّ كُلُّ شَيء )) ثُمَّ حَنى رأسَهُ وأَسلَمَ الرُّوح". (يو 19،30)
المسيح ببسطه يديه على الصليب أسّس الإفخارستيا، لذلك لا يمكننا القول أن عشاء الفصح في العليّة كان رمزا مسبقا لموت المسيح، فتأسيس الإفخارستيّا بدأ ليل الخميس في علّية صهيون، ببركة الكأسين وكسر الخبز، وأكمل في بستان الزيتون حين قبل الإبن من الآب كأس موت البكر فقبل تتميم الإرادة الإلهيّة، وتمّ على الصليب في ذبيحة الحبّ الأسمى، ذبيحة إعطاء الله ذاته للإنسان. هي صلاة المسيح في يوحنَا ليكونوا واحداً حققها بصلاته الأخيرة على الصليب، كأني به يردّد المزمور 141/2 لِتَكُنْ صَلاتي بَخورًا أَمامَكَ ورَفعُ كَفَّيَّ تَقدِمةَ مَساء ففي ذلك المساء قدّم المسيح صلاة البشرية كلها لله الآب حين سلّم ذاته، ومعه مصير البشرية وخلاصها، بقوله: "بين يديك أستودع روحي".
التهليل:
إن عشاء الفصح في التقليد اليهوديّ كان يُختتم بالتهليل، أي بإنشاد المزامير، وذبيحة الفصح الأسمي التي تمّت على الصليب قد اختتمت بأروع نشيد تمجيد لله، نشيد تقديم المسيح ذاته والبشريّة بأسرها لأبيه قائلاً بين "يديك أستودع روحي".
إنتقال من العهد القديم الى الجديد بالخادم الذي يحمل جرّة الى السيد:
أعود الى الى ما قلنا بداية، أن لوقا لم يكن يسعى الى تأسيس ديانة جديدة وكتابة كتاب مقدّس، إنما كان مقتنعاً أن ما حدث مع المسيح هو تتميم لوعود الله الخلاصية، وبالتالي فإن الكتب قد تمّت بعمل المسيح الخلاصيّ.
إذا عدنا الى ما أورده لوقا حول إرشادات المسيح لبطرس ويوحنا للتحضير لعشاء الفصح ماذا نجد؟
10فقالَ لَهما: ((إذا دَخَلتُما المَدينة يَلقاكُما رَجُلٌ يَحمِلُ جَرَّةَ ماء، فَاتبَعاهُ إِلى البَيتِ الَّذي يَدخُلُه، 11وقولا لِرَبِّ البَيت: يقولُ المُعلِّم: أَينَ الغُرفَةُ الَّتي آكُلُ فيها الفِصْحَ مع تَلاميذي ؟ 12فيُريكُما عُلِّيَّةً كَبيرةً مَفروشَة، فَأَعِدَّاهُ هُناكَ)).
لا يمكننا أن نتجاهل هذه الآية إذا أردنا أن نفهم هذا النص بعمقه ومن جميع نواحيه:
هناك شرّاح معاصرون يريدون أن يرون أن العشاء الفصحي قد تّم في الإطار الأسّيني، أي ما ندعوه نحن جماعة قمران، لأن الرجل لا يحمل جرة بل هو عمل للنساء. في قمران لم يكن هناك وجود للنساء وبالتالي فإن المسيح كان أسّينيّاً.
هذا الشرح قد يقتل رسالة لوقا الحقيقية، فلوقا ذو الثقافة اليونانية، قد إستعمل الرمزية كنوع أدبي ليفهم القارىء النبيه عمق النص:
ـإنتقال من العهد القديم الى العهد الجديد: العهد القديم هو خادم يحمل رسالة الرب الى شعبه، الخادم الذي يحمل جرّة الماء هو رمز للعهد القديم الذي، بحدّ ذاته، لا يعطي الخلاص إنما يرشد الى الخلاص، الى سيد البيت.
الجرة، رمز للضعف وقابلة للتحطم، تماماً كالعهد بين الله وشعبه المعرّض للتحطم من ناحية الشعب. الجرة هي رمز للطبيعة البشرية وتعلّقها التام بخالقها (أش 64،7 والآنَ يا رَبُّ أَنتَ أَبونا نَحنُ الطِّينُ وأَنتَ جابِلُنا ونَحنُ جَميعاً عَمَلُ يَدِكَ.)، فالطبيعة البشرية تشبّه بالجرة الخزفية. هكذا تضحي
الجرة على كتف الخادم رمزاً للإفخارستيا التي إنتقلت بواسطة العهد القديم، خادم العهد الجديد، الى حياة الكنيسة، وأوصلت في الوقت نفسه الكنيسة، ممثلة برأسها بطرس، وقلبها يوحنا، أي بالسلطة الكنسية وبالمؤمنين المعمّدين، الى لقاء رب البيت.
الجرّة هي أيضاً رمز لمحدودية حياة الإنسان المائت بعيداّ عن الله (جامعة 12،6 6 قَبلَ أَن يَنقَطعِ حَبلُ الفِضَّة ويَنكَسِرَ كوبُ الَّذهَب وتَتَحَطَّمَ الجرَةُ عِندَ العَين وتَنقَصِفَ البَكَرَة على البِئْر7 فيَعودَ التُّرابُ إلى الأَرضِ حَيثُ كان وَيعودَ النَّفَسُ إلى اللهِ الَّذي وَهَبَه).
وهي رمز للإختيار الإلهي، شاول يعلنه الرب إناء خزف مختار، يوصل رسالته للشعب، رغم ضعف بولس، صار إناء خزف مختار يحتوي تعليم السيّد، ووحدها النعمة الإلهيّة تمنع انحطامه.
وهي رمز للعهد بين الله وشعبه (إرميا 19: 1. 10: هكذا قالَ الرَّبّ: إِذْهَبْ وآشتَرِ إِبْريقَ خَزَّاف، ومَعَك مِن شُيوخِ الشَّعبِ ومِن شُيوخِ الكَهَنَة،... 10 ثُمَّ تَكسِرُ الإِبْريقَ على أَعيُنِ الرِّجالِ الذَّاهِبينَ مَعَكَ، 11 وتَقولُ لَهم: هكذا قالَ رَبُّ القُوَّات: كذلِك أَكسِرُ هذا الشَّعبَ وهذه المَدينة، كما يُكسَرُ إِناءُ الخَزَّافِ الَّذي لا يُمكِنُ أَن يُجبَرَ مِن بَعدُ".
بطرس ويوحنا دعيا الى إتّباع الخادم حامل الجرّة، رمز للعهد القديم الّذي يرشد تابعيه الى سيّد البيت، وسيّد البيت هو الذي يؤمّن للكنيسة مكان الإفخارستيا. بطريقة رمزية يقول أن عمل الخادم، العهد القديم، قد إنتهى بإرشاد شعب الله (ممثّلة ببطرس الرأس ويوحنا القلب) الى بيت السيد ومائدته الإفخارستية، إي الكنيسة.
الماء: معانيه كثيرة في العهد القديم، إنما واحد فقط يعنينا هنا، في إطار العهد الجديد الذي يقيمه الرب مع شعبه، وفي إطار الإفخارستياـ الخروج الجديد:
الماء الخارج من الصخرة في سفر الخروج، ماء الخلاص (خر 17،6 ها أَنا قائِمٌ أَمامَكَ هُناكَ على الصَّخرَةِ (في حوريب) فَتضرِبُ الصَّخَرة، فإِنَّه يَخرُجُ مِنها ماءٌ فيَشرَبُ الشَّعْب )).) وهو ما يعيد التذكير به النبي زكريا (زك 14،8) "ويَكونُ في ذلك اليَومِ أَنَّ مِياهاً حَيَّةً تَخرُجُ مِن أُورَشَليم" لذلك يشدّد لوقا على أورشليم من حيث المكان كمكان العشاء وليس خارج المدينة مع "القمرانيين" ومن حيث الزمان على "اليوم" (22،7) والساعة (22،14).
خلاصة:
"إِنَّ أَبي كانَ آراميُّا تائِهًا، فنَزَلَ إلى مِصرَ وأَقامَ هُناكَ مع رِجالٍ قَلائِل، فصارَ هُناكَ أُمَّةً عَظيمة قَوِّيةً كَثيرة" (تث 26،5)
واجب على كل منّا التذكر أننا نحن هذا الأرامي التائه، غريب عن شعب الله، غريب عن صداقة الرب، مستثنى عن عهد الموعد وغريب عن جماعة إسرائيل، أرامي تائه وجد في كلمة الله و في جسده ودمه جسر عبور نحو أرض الموعد، وباب دخول نحو جماعة إسرائيل الجديد، الكنيسة، بواسطة جسد المسيح ودمه، كما يقول الرسول بولس (أفسس 2, 13-19 )
13أَمَّا الآن ففي المسيحِ يَسوع، أَنتُمُ الَّذينَ كانوا بالأَمْسِ أَباعِدَ، قد جُعِلتُم أَقارِبَ بِدَمِ المسيح. 14 فإِنَّه سَلامُنا، فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة وهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة ،15وأَلغى شَريعةَ الوَصايا وما فيها مِن أَحكام لِيَخلُقَ في شَخْصِه مِن هاتَينِ الجَماعتَين، بَعدَما أَحَلَّ السَّلامَ بَينَهما، إِنسانًا جَديدًا واحِدًا 16 ويُصلِحَ بَينَهما وبَينَ الله فجَعَلَهما جَسَدًا واحِدًا بِالصَّليب وبِه قَضى على العَداوة. 17 جاءَ وبَشَّرَكم بِالسَّلام أَنتُمُ الَّذينَ كُنتُم بعيدين، وبَشَّرَ بِالسَّلامِ الَّذينَ كانوا قريبين، 18 لأَنَّ لَنا بِه جَميعًا سَبيلاً إِلى الآبِ في رُوحٍ واحِد. 19 فلَستُم إِذاً بَعدَ اليَومِ غُرَباءَ أَو نُزَلاء، بل أَنتُم مِن أَبناءَ وَطَنِ القِدِّيسين ومِن أَهْلِ بَيتِ الله،
اليس لهذا دُعيت الإفخارستيا مع الآباء Viaticum أي زاد الطريق فهي تنقل الإنسان من حالة الأرامي التائه على دروب الموت الى حالة البنوة الإلهية بالمسيح يسوع؟