أحد الإبن الشاطر
تُدرج الكنيسة المارونيّة هذا النّص في الأحد الثالث من الصوم الكبير، أي في منتصف الصوم الكبير، ويحتلّ في إنجيل لوقا موقعاً مميّزاً، يتشابه وموقعه من الصوم، الموقع المحوريّ للإنجيل الثالث، فيلخّص في اثنتين وثلاثين آيةً قصّة الخلاص بأكملها، ويوضح طبيعة العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد، واكتمال القديم بمجيء يسوع المسيح كمخلّص أُعطي للبشريّة بأسرها لا لشعب واحد أو لأقلّية مختارة.
(لو 15 /11-32)
موقع المثل من الإنجيل:
هو الأخير من ثلاثة أمثال تؤلّف الفصل الخامس عشر من إنجيل لوقا، أمثال تدور حول فكرة الضياع: الخروف الضائع، الدرهم المفقود والإبن الضّال. وتشدّد هذه الأمثال على تفتيش المالك عن ممتلكاته، الراعي عن خروفه، والإب عن ابنه. تُختَتَم هذه الأمثال بحدث مشترك: الدعوة الى الوليمة والإحتفال، والتشديد على ضرورة الفرح (15، 6؛ 15، 9؛ 15، 32).
هي أمثال الفرح المسيحانيّ، فرح الخلاص الّذي يتمّ بواسطة يسوع المسيح ويعكس البعد الإسخاتولوجيّ، الفرح الّذي سوف يتحقّق في ملكوت الله في وليمة عرس الحمل.
قراءة تاريخيّة اجتماعيّة لهذا النصّ:
في منطقنا المعاصر نقرأ هذا المثل فنتعاطف مباشرة مع الإبن الأصغر، نقدّر رحمة الآب وننتقد الإبن الأكبر ونحكم عليه بقسوة. هي ردّة الفعل الطبيعيّة للقاريء الّذي اعتاد سماع هذا المثل والتأمّل فيه على ضوء مفهومَي التوبة الإنسانيّة والرحمة الإلهيّة.
لكيما نفهم هذا النّص بعمقه علينا أن ندخل في واقع هذه الشخصيّات الثلاثة ونضع أنفسنا في واقعهم الخاص:
كانَ لِرَجلٍ اَبنانِ، فقالَ لَه الأصغَرُ: يا أبـي أعطِني حِصَّتي مِنَ الأملاكِ. فقَسَم لهُما أملاكَهُ
هي قصّة والدٍ في بيئة قديمةٍ يعكس صورة الوالد رأس العائلة بحسب المفهوم الإسرائيليّ القديم، أي الممسك وحده زمام العائلة والمتحكّم بأدقّ تفاصيل حياة الأفراد الإقتصاديّة والإجتماعيّة. إنّما هو يمثّل أيضاً صورة الوالد Pater Familias بحسب الثقافة اليونانيّة الرومانيّة الّتي اتّجه اليها هذا النّص. هو ال Dominus السيّد، و Pater Familias رأس العائلة الآمر والناهي، المالك الأوحد لخيور العائلة كلّها، حتّى لما يكتسبه الإبن من عمله الخاص إن كان هذا الإبن لا يزال قاطناً المنزل الوالديّ. لقد كان هذا الموقع مركزَ سلطة ونفوذ يعطي الأب سلطة قانونيّة على أفراد العائلة وعلى العبيد والخدّام، وملكيّة حصريّة لكلّ المقتنى الماديّ.
يخبرنا النصّ أن لهذا الأب ابنان، والأصغر يطالب بحصّته من الميراث، أي أنّه يطلب "القسمة". الخطأ الأوّل الّذي اقترفه الإبن الأصغر هو انّه يطلب ميراث أبٍ لا يزال حيّاً يُرزَق، يعلن موت الأب وهو لا يزال على قيد الحياة، بعبارة أخرى كان يقول ما معناه: "أنت ميت بالنسبة لي، فاعطني نصيبي من الميراث". إنّما قسمة الميراث لم تكن أمراً مستحيلاً وإن كان حصولها نادر في العالم القديم، فسفر يشوع بن سيراخ يحذّر منه: "لا تُوَلَ على نَفسِكَ في حَياتِكَ اْبنَكَ أَوِ اْمرَأتكَ أَو أَخاكَ أو صَديقَكَ ولا تُعْطِ آخَرَ أَمْوالَكَ لِئَلاَّ تَندَمَ فتَتَضرَّعَ إِلَيه بِها. ما حَييت وما دامَ فيكَ نَفَس لا تُسَلِّمْ نَفْسَكَ إِلى أَحَدٍ مِنَ البَشَر. فلأَن يَطلُبَ أَبْناؤُكَ مِنكَ خَيرٌ مِن أَن تَنظُرَ أَنتَ إِلى أَيدي أَبْنائِكَ. في جَميعِ أُمورِكَ كُنْ سَيِّدًا ولا تُلحِقْ عَيبًا بسُمعَتِكَ. عِندَ اْنقِضاءَ أيَّام حَياتِكَ وفي ساعةِ مَماتِكَ قَسِّمْ ميراثَكَ".( سير33، 20-24) وسفر طوبيّا يلحظه: "ثُمَّ خُذْ مِن هُنا نِصْفَ ما عِنْدي وعُدْ سالِماً إِلى أَبيكَ. وأَمَّا النِّصفُ الثَّاني فيَصيرُ لَكَ بَعدَ مَوتي ومَوتِ آمرأَتي" (طو 8، 21). قسمة الميراث هي أن يضع الوالد نفسه تحت سلطة أبنائه، وهو ليس بالأمر الحكيم في المجتمعات القديمة.
بحسب شريعة موسى، لم تكن القسمة تتمّ بتوزيع الحصص بالتساوي بين الأبناء، بل كان يحقّ للإبن الأكبر بثلثي ميراث أبيه. يبدو من خلال هذا النّص عينه أن ميراث الأكبر لم ينتقل اليه حكماً بسبب القسمة، بل بقي الأب هو المسلّط عليه، وذلك لأن الميراث الأكبر المنتقل بالقسمة لا بموت الأب يصبح ملكاً للأبن إنّما يبقى في تصرّف الوالد لغاية الوفاة، أي أن الإبن يصبح المالك أمّا الوالد فالمستفيد من المال.
إن ردّة فعل الإبن الأكبر تجاه عودة الأصغر مردّها الى أن الأكبر قد شهد على القسمة، وأخذ الأصغر الميراث وبدّده، بينما بقي الأكبر بمعيّة الأب يدير شؤون أمواله. ولدى عودة الأبن الأصغر خالي الوفاض فارغ اليدين من الأموال التي اقتنصها من ابيه، استقبله والدُه مجدّداً وألبسه الخاتم، علامة المشاركة في الأملاك. غضَبُ الإبن الأكبر كان لأنّه فهم ان ابيه يجعل من الأصغر شريكاً في الميراث من جديد، سوف يكون له الحقّ بثلث أملاك الأكبر مجدّداً.
يحقّ للأكبر الغضب والتمرّد، فما تمّ في بيت الوالد يتنافى وعدالة الأرض، وهنا كلّ المغزى من المثل: عدالة الأرض العمياء تختلف عن عدل الآب السماويّ الرحوم، والله لا يدين البشر بحسب المنطق البشريّ القاسي، بل يعطي دوماً المجال للتوبة والعودة الى بيت الآب.
وبَعدَ أيّامٍ قَليلةٍ، جمَعَ الابنُ الأصغَرُ كُلَّ ما يَملِكُ، وسافَرَ إلى بِلادٍ بَعيدَةٍ، وهُناكَ بَدَّدَ مالَهُ في العَيشِ بِلا حِسابٍ. فلمَّا أنفَقَ كُلَ شيءٍ، أصابَت تِلكَ البلادَ مَجاعةٌ قاسِيَةٌ، فوقَعَ في ضيقٍ. فلَجأ إلى العَمَلِ عِندَ رَجُلٍ مِنْ أهلِ تِلكَ البِلادِ، فأرسَلَهُ إلى حُقولِهِ ليَرعى الخنازيرَ. وكانَ يَشتَهي أنْ يَشبَعَ مِنَ الخُرنُوبِ الّذي كانَتِ الخنازيرُ تأكُلُهُ، فلا يُعطيهِ أحدٌ
نعلم من النّص أن الأب كان يملك الحقول أيضاً (15، 25)، والمواشي، ويبدو أن ثروته كانت قائمة على العمل الزراعيّ. من الأرجح أن الإبن الأصغر قد حصل على الأموال وعلى ما يمكن حمله، لأنّه جمعه على عجل ورحل "بعد أيّام قليلة". يظهر لوقا من خلال هذا التحديد الزمانيّ ان الإبن قد حضّر مشاريعه مسبقاً، وقرّر بكامل إرادته وإثر تخطيط مسبق أن ينفصل عن الأب وعن البيت العائليّ. هي ليست الخطيئة المفاجئة العفويّة، بل الواعيّة والمخطّط لها جيّداً. وإزاء هذا كلّه لم يحاول الوالد أن يثني الإبن عن عزمه، بل قَبِل أن يكون ميتاً بالنسبة إليه، وأورثه وهو حيّ، وقَبِلَ أن يحتجب عن حياة الإبن ليتركه ينمو ويبني حياته، إنّما أيضاً ليعطيه مجال إختيار العودة الى الأب بقرار حرّ منه.
تجدر الإشارة الى أن الهجرة ليست ظاهرة جديدة تختصّ بالمجتمعات المعاصرة، فنحن نعرف من المؤرّخين الرومان الأقدمين أن الإمبراطوريّة الرومانيّة كانت تشهد في زمن كتابة إنجيل لوقا حركة هجرة كثيفة من الأماكن الفقيرة القائمة على الزراعة وتربية الماشية الى المدن الكبرى والأماكن الغنيّة القائمة على التجارة خاصّة. لم يكن هؤلاء المهاجرون يتمتّعون بحقوق المواطن الرومانيّ. وحتى ولو انّهم كانوا أُجراء ولم يكونوا عبيداً، إلاّ ان وضعهم الإجتماعيّ لم يكن يختلف كثيراً عن وضع العبيد من الناحية المعيشيّة، لا بل ان العبيد في البيوت الغنيّة كانون يحيون أفضل من الأجراء والعاملين في الشؤون العامّة كالبناء والتجارة وفي الحانات والمصابغ. وكانت حالة هؤلاء الأجراء تسوء كثيراً في المجاعات والأوبئة التي كانت تضرب كثيراً العالم القديم، لأنّهم كانوا دون مدّخرات ودون مورد رزق ثابت، وغالباً ما كانوا يموتون جوعاً أو يضطرّون لبيع أنفسهم طوعاً كعبيد لكيما يستطيعوا البقاء على قيد الحياة. إن قرّاء إنجيل لوقا كانوا يعلمون جيّداً هذه الحالة، لذلك كانوا قادرين على فهم تعاسة الشّاب أكثر من القاريء المعاصر.
إن مشكلة المجاعات في العالم الرومانيّ كانت تطال في أغلب الأحيان المناطق المركزيّة حيث الكثافة السكّانيّة المرتفعة، أمّا المناطق النائية القائمةُ معيشتها على الزراعة وتربية الماشية فكانت اقلّ تأثّراً. لا بدّ أن لوقا كان يملك هذه المعطيات كلّها ساعة تدوين هذا النّص. لقد بقي الأب وعائلته بمنأى عن هذه المجاعة، فإسرائيل القائمة بالإجمال على الزراعة وتربية الماشية كما المناطق المحيطة بها (فينيقيا، مصر وبلاد ما بين النهرين) كانت تُعتَبَر من الأماكن المصدّرة للمواد الغذائية، حتى دُعيت تلك المناطق، ومن بينها سهل البقاع، اهراءات روما. إمّا الإبن الأصغر، فبعد أن بدّد ميراثه، بقي دون مورد رزق وبحث عن عمل لا يليق وكرامة شعبه وبيت أبيه. الرعاية كانت عمل العبيد في روما، وكانت من المهن الوضيعة والمُحتقرة، حتى أنّ أربابها كانوا يُمنَعون من الشهادة في المحاكم ومن العديد من امتيازات المواطن الرّوماني إن كانوا رومانيّين. لقد انحدر الإبن الأصغر الى مصاف العبيد، حتى ولو أنّ النّص بذاته لا يشير الى أنّه قد صار عبداً فعليّاً يبيع ذاته في سبيل البقاء على قيد الحياة كما هي حال العديد من المهاجرين ومن الفقراء الرّومانيّين في أوقات المجاعة. إلاّ أنّه عمليّاً عاش عيشة عبد، يرعى الخنازير، ما يشكّل مخالفة لناموس موسى، وصار بالتالي نجساً. ويبدو أنّه كان دوماً مراقباً "فلا يقدر أن يملأ بطنه من طعام الخنازير". لقد فقد كرامته الإنسانيّة، فقد علاقته بابيه، فقد حرّيته التي ترك كلَّ شيء ليكتسبها، فقد رباط الأخوّة، وصارت علاقته بالبشر قائمة على منطق العبد والسيّد، هو مراقَب، مُستعبَد، أراد الحريّة ففقد قدرته على البقاء على قيد الحياة. لقد وصل هذا الفتى الى أقسى دركات الوجود الإنسانيّ، صار واحداً ضمن آلاف من العبيد المهمّشين، يدفنون أحلامهم ويصبح في أعلى سلّم أوّلويّاتهم البقاء على قيد الحياة، صار وجوده محصوراً بحياته الجسديّة.
في نصّ اكتُشِف حديثاً، يعود الى زمن كتابة هذا النّص تقريباً، نقرأ كلمات شابّ مصري يبدو من إسمه Antonios Longos أنّه من عائلة ثريّة وحائز على المواطنيّة الرومانيّة، في رسالة يوجّهها الى والدته يقول: "أنا في العار، أحيا في الذّل، أكتب أليك وقد صرت دون مال كالعريان، أرجوك أن تصالحيني معك، فأنا أعرف ماذا استحقّت أعمالي، لقد نلت ما يكفي من العقاب وأعلم أنّي قد خطئت. ألا تعلمين أنّني أفضّل أن أكون أعرجاً من أن أكون ساقطاً تحت ديون؟ فتعالي بنفسك سريعاً".
هي حالة الكثير من الشبّان يحلمون بالحريّة فيسقطون عبيداً لشرّ الآخرين ولسطوة منطق اللّذة والمال والإستهلاك، وفي حضيض تعسهم يفتّشون عن العضد الوحيد الوفيّ، عمّن يحبّهم لشخصهم لا لما يملكون. يفتّشون عن الآب السماويّ، عن الوالدَين والعائلة، فهم وحدهم ينتظرون ويغفرون، لأنّهم يحبّون كثيراً.
فرَجَعَ إلى نَفسِهِ وقالَ: كم أَجيرٍ عِندَ أبـي يَفضُلُ عَنهُ الطَّعامُ، وأنا هُنا أموتُ مِنَ الجوعِ. سأقومُ وأرجِـعُ إلى أبـي وأقولُ لَه: يا أبـي، أخطَأتُ إلى السَّماءِ وإلَيكَ، ولا أستحِقُّ بَعدُ أنْ أُدعى لكَ اَبنًا، فعامِلْني كأَجيرٍ عِندَكَ
فرجعَ إلى نفسِه: بهذِهِ الكلمة يُعطي لوقا تفسيراً للخطيئة، هي الخروج عن الذّات، عن المنطق، عن العقل، هي حالة من يُصبح خارج كيانِهِ فاقداً لهويَّتِهِ وغير مالك لإرادتِهِ.
عودة الإبن هذِهِ إلى ذاته هي أيضاً عودة روحيّة، الدّخول إلى عمق أعماق الذّات بضميرٍ نيِّر والحكم على صوابيّة القرارات التي اتَّخذها. يمكن للإنسان أن يتهرَّب من الإجابة على أسئلة الآخرين، إنمّا كيف يمكن للمرء أن يتجاهل صوت الضَّمير، حين يُصبح وجودُه دون معنى بسبب غياب الآب عن حياته، حين يُصبح وجوده مجرّد تدفّق أيّام دون معنى، تُستَهلك في البحث عن ملء البطن بخرّوب خنازير لا يوفِّر شبعاً للقلب السّاعي إلى معنى الحياة وإلى الحريّة المبتغاة.
في لحظة العودة إلى الذّات قام الإبن الأصغر بمسيرة روحيّة ، مسيرة تحقّقت عبر مراحل خمسة:
- إعترف بخطيئتِه ضدَّ اللّه : لقد أخطأت إلى السماء
- إعترف بخطيئتِهِ ضدّ أبيه الأرضي : وأمامك
- تخلّى عن حقوق الإبن ، فهو يعرف أنّهُ قد نال حقّه قانونياً ولا يحقّ له بطلب ميراث آخر. يعلم الإبن جيِّداً أنَّ أباه قد قسم ميراثه ، وبالتّالي فلا بدّ من استعمال ميراث أخيه لإعالته في حال قبله، لذلك عَرَض أن يكون أجيراً ، يستحق أجرتَهُ بالعمل عندَ أبيه وأخيه. تعكس هذه الكلمات واقعاً أعمق ، تتخطّى البعد المادَي لتصبح الكلمات كلمات طلب المغفرة للجرح العميق الذي ألحقه الابن بأبيه حين أخرجه من دائرة حياتِه واعتبره ميتاً وطالب بالميراث وأبوه لا يزالُ حيًّا.
- يطلب أن يكون أجيراً، تربطه بوالده لا علاقة البنوّة والعائلة، إنّما علاقة المصالح الخاصّة، فمن صالح الإبن أن يعود إلى الآب ليحيا، أمَا الأب فما من مصلحة خاصّة تديره، وكلّ ما يقوم به سببه الحب والرّحمة، وهذا هو الفارق بين الله والإنسان، الإنسان يبني قراراته على ضوء المصلحة الخاصّة والإستفادة الشّخصيّة، أمّا الله فيقوم بما يقوم به مدفوعاً من الحب وروح الأبوّة.
- المرحلة الخامسة هي وضع هذا القرار موضع التّنفيذ، "فقام ومضى". وفي فعل "قام" يستعمل لوقا فعل Anistemi اليونانيّ وهو الفعل الذي يرتبط بقيامةِ المسيح من بيت الأموات، لقد تمَّم هذا الابن في حياته قيامة يسوع المسيح بطريقة شخصيّة وروحيّة، تغلّب على الشرّ واختار الخلاص، عاد إلى بيت الآب.
"وبينما لا يزالُ بعيداً أبصره أبوه..." يتخطَّى جمال هذه الآية البعد الإنسانيّ العاطفيّ ويعكس بطريقة غير مباشرة دعوة العهد القديم لتوبة إسرائيل وعودته إلى يهوه والده.
يعلِّم التَّلمود اليهوديّ ضرورة التّوبة والعودة إلى اللّه بواسطة رواية تعليميّة تذكِّرُنا بنصِّنا هذا: "عُد يا إسرائيلُ إلى السيِّد إلهك ، يقول هوشع (14 ، 2). إنّه حال ابن ملك بعيد عن أبيه مسافة مئة يوم سفر. أصدقاؤه ينادونه قائلين: "عد إلى أبيك" وهو كان يجيب: "لا أقدر". أرسل عندها والده رسلاً يقولون له: "أنت سر ما يمكنك أن تسيره من مسافة الطّريق، وأنا آتي نَحوك وأجتاز المسافة المتبقيّة"، وهكذا قال لإسرائيل اللهُ القدّوسُ له المجد " عودوا إليَّ وأنا أعودُ اليكم" (ملا 3، 7 ).
هذا المثل الرابّينيّ، كمَثَل الإبن الشاطر في لوقا، يُظهر بوضوح رغبة الله الوالد في عودة الإبن، إنّما لوقا يجعل الإبن هو صاحب المبادرة: في المثل التلموديّ يُرسل الأب من ينادي الإبن أمّا في مثل يسوع فالآب يجلس منتظراً ابنه. لقد كان الله مستعدّاً للغفران منذ لحظة الإنفصال، إنّما كانت أساسيّة مبادرة الابن وتوبته، لقد صار الابن الأصغر إبناً ناضجاً، عرف أين تكمن الحريّة الحقّة، فالحرية ليست التحرّر من محبّة الله، هي ليست عيش غوغائيّة الحياة وعشوائيّتها، هي ليست الغرق في لذّةِ المادّة والإستهلاك، فالحريّة الحقّة وجدها الابن عندما عاد إلى ذاته، عندما قرّر العودة إلى علاقة الحب الإلهيّ.
عندما وصل الإبن إلى حضن أبيه أعلن النّدامة والتّوبة، لم يقل حرفيّاً الكلام الذي أعدّهُ في السّابق، لم يطلب من أبيه أن يجعله أجيراً، ففي فعل النّدامة والتّوبة ليس مطلوباً من الإنسان اتّخاذ القرارات مكان الله، الله يطلب التّوبة والإنسان يعلن النّدامة ويضع نفسه بين يديّ أبيه السّماوي كما ارتمى الابن الأصغر بين يديّ أبيه، المطلوب هو النّدامة، والإتّكال على رحمة الله والثّقة بمحبّته المطلقة ومغفرته غير المشروطة.
رغبة الإبن كانت أن يقبله الأب أجيراً بين خدم عديدين أمّا جواب الأب فكان من نوع آخر، أنقذه من حالة العبوديّة التي أوقع نفسه فيها وأعاده إلى مكانة الإبن والوريث.
هذه العودة إلى حالة البنوّة تتمثّل بثلاث أعمال رمزيّة ليست جديدة في الكتاب المقدّس:
- اعطاء الثوب الفاخر
- الباس الخاتم
- إنعال القدمين بحذاء
نجد في العهد القديم نصوصاً متعدِّدة تشير إلى أن هذه العناصر الثلاثة هي ذات قيمة رمزيّة ترتبط بالسّلطة والقيمة الإجتماعيّة؛
- في سفر التّكوين 41، 42 يخلع فرعون خاتمه ويضعه في إصبع يوسف، يلبسه ثوب كتّان ويطوِّق عنقه بالذّهب. وفي سفر المكابيّين الأوّل يعيّن أنطيوخوسُ الملكُ فيليبّسَ حاكماً معطياً إيّاه تاجه وحلّته الملوكيّة وخاتمه ( 1 مك 6 ، 15).
- وفي سفر استير يلبس الملكُ مردخايَ اليهوديّ ثوبه الفاخر ويجلسه على مركبة في ساحة المدينة يأمر بالمناداة : " هكذا يكرّم الرّجل...."(أس 6 ، 8-11).
الثوب الفاخر الّذي يُعطى للإبن هو أيضاً "الثوب الأوّل"، فكلمة Proton تعني الأوّل، والى جانب معنى الثوّب كرمز للكرامة الملوكيّة وللنبالة، فإن هذه الكلمة تشير الى رغبة الأب بإعادة الإبن الى المقام الأوّل الّذي كان يملكه، أعاده الى مكانه الأوّل، صار إبناً من جديد، ولم يعد متمرّداً وغريباً.
والخاتم هو رمز السلطة، فهو إشارة مرئيّة لإنتماء الإبن الى العائلة، لأن الخاتم غالباً ما يحمل رمز العائلة، إنّما هو خاصّة علامة للمشاركة في السلطة الأبويّة، فالخاتم هو الختم، به كان يُصار الى مهر الرسائل والصكوك والمعاملات والمعاهدات في العالم القديم. لقد أشرك الأب ابنَه الأصغر بادارة بيته، أعطاه الحريّة الحقّة، حريّة المشاركة المسؤولة، لا الحريّة الوهميّة التي بحث الابن عنها في السابق بتبديد أمواله كلّها. وظيفة الإبن الآن هي المحافظة على ما هو لبيت أبيه، بهذا يصبح إنساناً حرّاً.
أمّا الحذاء فهو عنصر يستعمله لوقا ولا نجده في نصوص العهد القديم التي أوردناها، وهذا لكون الحذاء يحمل رمزيّة ثقافيّة يونانيّة رومانيّة لا يهوديّة. الحذاء ينتعله المواطن الحرّ، أما العبد فيسير حافي القدمين. إنتعال الحذاء هو إشارة الى كون الفرد مواطن رومانيّ. الإبن كان حافي القدمين، أوصله فقره الى مصاف العبيد، باع هوّيته ليبقى على قيد الحياة. بعودته الى الآب عادت الى الإبن حريّته المفقودة.
لقد أمر الأب بذبح العجل المسمّن، ففي إسرائيل القديمة كما في المجتمعات الأخرى المحيطة، لم يكن اللّحم الطعام اليوميّ للشعب الفقير ولا حتّى للطبقات المتوسّطة، لذلك كان الثور يُسمّن ليذبح، ويُصار بعدها الى حفظ لحمه بالملح ليؤكل على مدار الشتاء. ذبح الثور في غير أوانه كان يتمّ في مناسبات بغاية الأهميّة مثلاً عند ضرورة تقديم ذبيحة للرّب (قض 6، 25) أو لتكريم ضيف بغاية الأهميّة (تك 18، 7-8؛ 1صم 28، 24).
يهدفُ لوقا من خلال تفصيل الثور المذبوح الى التلميح الى بعد الفرح الخلاصيّ الّذي كان يتمّ في حضن هذه العائلة، فالثور يُذبح للفرح وللإحتفال: "وأخذوا يفرحون" (15، 24)، صورة للعرس المسيحانيّ الّذي يتم حين عودة الضّال وتوبة الخاطيء، كما يرد في المثلين السابقين: الخروف الضائغ والدرهم المفقود. هو فرح الرّب بقيامة الإبن الميت وعودته الى الحياة ومشاركته من جديد فرح البيت الوالديّ.
عودة الأبن الأكبر:
لقد كان الإبن الأكبر محتجباً تماماً عن أحداث هذه الرّواية، نعرف عنه من النّص نفسه أنّه كان الوريث الأوّل، يحقّ له بثلثي ميراث أبيه، لم ينفصل عن الشراكة الوالديّة بعد قسمة الميراث وكان يعمل في الحقل بينما كان أخاه الأكبر يبدّد ميراث والده.
هو ليس بالضرورة إنساناً شريراً حسوداً، فالنّص لا يعالج مشكلة الحسد أو الشرّ الأخويّ، بل هو إنسان التزم بيت أبيه واحترم قوانين الإرث، يعمل في الحقول بيديه، علامة الإجتهاد للمحافظة على أملاك أبيه، يغضب إزاء نقص العدالة. هذه هي النقطة الأساسيّة التي يعالجها لوقا في هذا النّص: الفرق بين العدالة الإنسانيّة والعدالة الإلهيّة، والعلاقة بين العدالة والرّحمة. هل أن معنى العدالة يقتصر على التطبيق الأعمى لمبدأ ثواب البار وعقاب الخاطيء دون الأخذ بعين الإعتبار منطق المحبّة والرحمة والإصلاح؟ هل العدالة هي ذات هدف انتقاميّ أو يحتل البعد التأديبيّ الإصلاحيّ مكاناً فيها؟
يُبرز لوقا هنا الفرق بين عدالة الأب الّذي قسم ميراثه بين ولديه (عدالة الشريعة)، وأعاد فتح ذراعيه لإبنه التائب غافراً له الأذى الّذي ألحقه به شخصيّاً وبعائلته كلّها، ومفسحاً له مجال البدء من جديد في بناء حياة كريمة (عدالة رحومة تأديبيّة)، وبين عدالة الإبن الأكبر الّذي رفض فكرة إعطاء فرصة جديدة لإخيه لأنّه بدّد أمواله على الزواني وعليه أن يتحمّل عواقب أعماله (عدالة انتقاميّة). الفرق بين الأب والإبن الأكبر هي في النظرة الى مفهوم العدالة وفي القدرة على المحبّة والمغفرة: الوالد أعاد ولادة ابنه من جديد إنسانيّاً واجتماعيّاً وروحيّاً، ولده الى حياة كريمة مرّة أخرى، أمّا الإبن الأكبر فاعترض ورأى في رحمة الأب انتقاصاً في العدالة.
من وجهة النظر الإنسانيّة، لا بدّ أن نعطي الحقّ للإبن في ما يقوله، إنّما إذا نظرنا الى الإبن الأصغر بعيني الوالد نفهم أن المكافأة الأعظم لوفاء الإبن الأكبر هي "أن يكون مع الآب في كلّ حين" (15، 31) ومشاركته في علاقة محبّة وطاعة، وإزاء هذه المكافأة الأعظم لا يصبح لأي مكافأة أخرى أي قيمة تذكر. الإبن الأكبر الّذي تمتّع بمشاركة الآب في كلّ شيء لا يمكنه أن يفتّش عمّا هو أدنى قيمة، عن "جدي يأكله مع أصدقاءه".
ويتخطّى الأب إظهار قيمة حياة الإبن الأكبر ليدعوه الى مشاركته الفرح بعودة أخيه الى البيت الوالديّ. ينقل الأبُ الإبنَ من مفهوم العدالة الإنتقاميّة الى المنطق الإلهيّ للعدالة، العدالة التي تعانق السلام كما يقول المزمور، فبالخلاص المسيحانيّ يتعانق العدل والسلام (مز 84، 11). يصبح الأبن الأكبر مدعوّاً لا لقبول عودة أخيه فحسب، بل للفرح لقيامة أخيه من بين الأموات، يصبح الأبن الأكبر مشاركاً لأبيه في خلاص أخيه الأصغر.
مثل يعكس صراعات يهوديّة- مسيحيّة وصراعات داخل الكنيسة نفسها:
يعكس هذا المثل صراعاً بين اليهود والمسيحييّن، فسلسلة الأمثال هذه قد أُعطيت إثر قول الفرّيسيّين: "هذا الرجل يرحّب بالخاطئين ويأكل معهم" (15، 2)، فمنطق الأخ الأكبر يعكس منطق الشعب اليهوديّ الّذي اعتقد نفسه أحقّ بالبنوّة الإلهيّة من الّذين يأتون من خارج الشعب اليهوديّ ويؤمنون بالمسيح، رأوا أنفسهم مستبعدين عن حقّ الأولويّة فاعترضوا على منطق المسيح الذي يساويهم بالخطأة وبالعشّارين.
يعكس هذا المثل أيضاً صراعاً ونزاعات في داخل الكنيسة نفسها بين من هم من أصل يهوديّ ومن هم من جذور وثنيّة، فيجد من هم من الفئة الأولى صعوبة في التصديق أن الجميع سوف يخلص بيسوع المسيح، وأن لا أفضليّة لهم على إخوتهم بسبب السنين الطوال التي قضوها في المحافظة على شريعة موسى: هم الّذين صاموا واختُتِنوا وامتنعوا عن المآكل النجسة وحافظوا على قوانين التطهير قبل الصلاة الأكل، هم الّذين قاموا بزيارات حجّ طوال نحو أورشليم في حرّ النهار وبرد الليّل وفي خطر من اللّصوص، يجدون أنفسهم مساوين لأولئك الّذين التقوا يسوع في اللّحظة الأخيرة وعادوا الى بيت الآب وصاروا شركاء في الميراث.
والمشكلة الثالثة التي يعرضها هذا النّص هي مشكلة كنسيّة داخليّة، يطرح فيها فكرة إعادة قبول الخاطئين في الجماعة الكنسيّة بعد توبتهم: هل يمكن لمن عانى قسوة الإضطهاد وثبتوا، وحافظوا على وصايا الإنجيل وصلوّا وصاموا وامتنعوا عن الشّر أن يقبلوا فكرة مساواتهم بمن خان مواعيد عماده وسقط في أهواء الجسد والخطايا أو أنكر المسيح تحت وطأة الإضطهاد، ثم ندم وعاد يطلب المفغرة؟
هي مشكلة قديمة جديدة، منطق الفرّيسيّين الأقدمين الّذين استأثروا ببنوّة الله قد انتقل الى الكنيسة الأولى، فصار من هم "أبرار" يحتقرون الأخ الساقط في تجربة أو في خطيئة. هي مشكلة كنيسة اليوم أيضاً، فكم من مسيحيّ يحتقر الآخر لزلّة أو لخطيئة أو لوصمة في ماضيه؟ يرفض الإختلاط به ومصافحته، يرفض كونه مساوياً له وابناً مثله للآب السماويّ؟
باسم العدالة نقتل إخوة لنا مرّات كثيرة، وغالباً ما نعود الى المنطق القديم، منطق الفريّسيّ المتكبّر، المتعالي على العشّار والخاطيء، الصارخ متذمّراً: "يسوع هذا يقبل الخطأة ويأكل معهم".
التأمّل:
هذا الأحد الثالث من آحاد الصوم يضعنا أمام شفاء جديد. بعد الأبرص والنازفة، نجد قصّة شفاء من نوع آخر، شفاء يطال أعمق أعماق الإنسان المتألّم، شفاء الحريّة المريضة التي تؤدّي بالإنسان الى فقدان أثمن ما يملك، فقدان هويّة ابن الله.
أبٌ وابنان، في كلّ منهم نجد القليل من هويّتنا. فكم من الأحيان نفتّش عن التحرّر، نرغب بتحطيم قيود تربطنا بالله، بعائلتنا، بمجتمعنا؟ نرغب في ترك كلّ شيء، نقلّل من أهميّة ما نملك ونفتّش عن سعادة القلب بعيداً عن الله.
كم نشبه الإبن الأصغر! نريد أن نكون أسياداً على أنفسنا، نترك الآب السماويّ، نغادر بيتنا الأبوّي، نبتعد عن الكنيسة وعن الجماعة، ونذهب لاهثين وراء لذّات تمضي ولا تروي ظمأ قلبنا الى السعادة الأعمق. نبحث عن سعادة فنصطدم بتعاسة وجودنا الفارغ. نسعى الى حريّتنا فنجد أنفسنا مستعبدين لحقارة لذّاتنا ولدناءة الخطيئة. نتعب من قذارة خطيئتنا، نتألّم من جراح معاصينا، تصبح أعمالُنا أحمالاً ثتقل كواهل ضميرنا ونتوق الى التحرّر منها. نسعى الى حريّتنا فنجد أنفسنا مستعبدين لحقارة لذّاتنا وأهواءنا. نيأس من وجودٍ صار دون فرح، نقضي أيّاماً لا لون لها ولا نكهة، أيّام تمرّ ونحن مستعبدون لفلسفة اللّحظة ولنهم الّلذة علّنا نروي ظمأنا الى السعادة، وتمر السنون ويبقى قلبنا تعيساً.
قصّة خطيئتنا هي قصّة الإبن الأصغر، وقصّة توبتنا يمكنها أن تجد مثالها في قصّة عودة هذا الإبن الشريد الى أحضان أبيه. لقد خطئنا الى السماء، الى الله الّذي أحبّنا فأجبنا على حبّه بابتعادنا وبعدم اكتراثنا بانتظاره لنا. أخرجنا الى الوجود فحاولنا أن نخفيه في عدمية حياتنا، أعطانا صورته ومثاله فشوّهنا الصورة وابتعدنا عن المثال، دخل معنا في علاقة حبّ وصداقة، فتركنا رافضين محبّته، أعطانا ابنه الوحيد مائتاً عنّا، مشرعاً ذراعيه فوق الصليب صورة لذراعي الآب المفتوحتين دوماً لمعانقتنا.
لقد اخطأنا الى السماء نعم، إنّما أثِمنَا أيضاً تجاه اخوتنا البشر، أخطأنا الى كنيسة المسيح والى أخينا الإنسان وجعلناه عبداً لشهواتنا ولمصالحنا الخاصّة ولنزواتنا. إن خطيئتنا تجرح الإنسان، ومداواة هكذا جرح يتطلّب المصالحة، ليس مع الله فقط بل مع الإنسان أيضاً. لذلك وجب سرّ التوبة والمصالحة، حيث يمثّل الكاهن المسيح نفسه، باسمه وبشخصه يعطي الغفران، ويمثّل البشريّة باسرها، الكنيسة التي جرَحَتهَا خطيئتي، والتي تصليّ لي وتضرع من أجلي. يمثل الكاهن في سرّ المصالحة كلّ شخص امتهنتُ كرامته بخطيئتي، واستعبدت جسده برذيلتي وبشهواتي، ولم أرَ فيه صورة الله وكرامة يسوع.
إنّما كم نشبه أيضاً ذلك الأخ الأكبر الّذي قطع كلّ علاقة له بأخيه بعد أوّل زلّة اقترفَها هذا الأخير؟ لم يعد يدعوه "أخي"، بل صار "ابنك هذا الّذي بدّد أموالك على الزواني"؟ كم كان سهلاً عليه تقديم العدالة العمياء على الرحمة الأخويّة؟ كم نكرّر نحن الفعل ذاته كلّ يوم؟ كم مرّة نقول: "هذا خاطيء لا يستحقّ الرحمة"؟ كم نقول أن الله غير عادل لأنّه لا يهلك الخاطئين؟ كم هو قاسٍ قلبُنا تجاه إخوة لنا نفتّش عن هلاكهم تحت شعار العدالة وفي الصميم لا نفتّش إلاّّ عن الإنتقام.
نحن نشبه الإبن الأكبر حين نؤمن بالله ونطبّق وصاياه سعياً وراء مكافأة أو لنبرز فضائلنا أمام الآخرين، نبني إيماننا على حصريّة الخلاص وعلى نظرة فوقيّة: نحن دائماً الأحسن، والأقدس والأكمل، ونحن الأكثر استحقاقاً لمواعيد الخلاص.
فهلاّ نملك القليل القليل من حبّ الآب ورحمته؟ هلاّ نعلم أن دعوتنا هي مشاركة المسيح في خلاص إخوتنا البشر؟ هل نترك في قلبنا بعضاً من فسحة أمل لمن خطيء الينا بأن يجد بعضاً من قبول؟ بهذا فقط يكون صومنا كاملاً، حين نحيا سرّ توبة مستمرّة، ونعلم أن وجودنا المسيحيّ هو سعيٌ دائم للعودة الى الآب في فعل اتّضاع بنوي، وأن قمّة الفرح هي في أن نرى باب الرجاء يُفتَح مجدّداً لأخ لنا تائب، يعود مثخناً جراحاً ليجد الشفاء في مغفرة الآب وفي قبولنا له.