أحد شفاء المنزوفة
في مسيرة الصوم هذه، تضع الكنيسة المارونيّة في عهدتنا نصّاً، نطلق عليه إنجيل النازفة، يقدّم لنا رواية مزدوجة، حادثتي شفاء وإحياء، تقطع الثانية سير أحداث الأولى وتؤخّرها. حادثان متناقضتنان في الظاهر إنّما متكاملتان من ناحية الهدف الأدبيّ واللاّهوتي، نقرأ في كلٍّ منهما أحداث حياتنا ونجد أنفسنا معنييّن في الرسالة الإنجيليّة التي يقدّمها لوقا.
(لو 8 /40-56)
شرح النّص:
إنّها رواية مزدوجة، رواية تبدأ بفتاة صغيرة ابنة اثنتي عشرة سنة على حافّة الموت بسبب مرض ألمّ بها، تقطعها رواية أخرى، رواية شفاء امرأة لا بدّ أن تكون مكتملة السنين، فيها نزف دمٍ منذ اثنتي عشرة سنة، أي أنّها دخلت البلوغ الأنثوي منذ اثنتي عشرة سنة على الأقلّ. بعد شفاء الإمرأة يكمل يسوع الطريق ليحيي الصبيّة. إن إيراد المعجزتين بهذه الطريقة المتداخلة هي من خصائص مرقس إعتمدها لوقا في إنجيله، فهو غالباً ما يُدخل الروايات ببعضها بطريقة سرديّة ليصل من خلالها الى غاية لاهوتيّة أو تعليميّة.
نجد في سياق النّص عدّة أوجة تشابه وتناقض بين الروايتين، لا بلّ بين الشخصيّتين. هذا التناقض يصبح في نهاية الأمر تكامل بين الحدثين: الربّ يشفي الإمرأة ويعيد الحياة الى الصبيّة.
من أوجه التشابه بين الروايتين:
- الأيمان الّذي يجمع الأبطال حول يسوع المسيح: إيمان يائيرس، والد الطفلة والمسؤول عنها قانونيّاً، وإيمان الإمرأة التي سعت الى الشفاء مؤمنة بالآتي من عند الرّب.
- العنصر النسائي الطاغي، فالمريضتان كلتاهما من الجنس الناعم، ومرضهما يرتبط مباشرة بالخصوبة والزواج. بحسب الأعراف السائدة آنئذ، الفتاة في الثانية عشرة سنة من عمرها تدخل سنّ الزواج، والإمرأة النازفة تعاني من مشاكل تتعلّق مباشرة بالخصوبة.
- الأعداد المستعملة لا يمكن أن تكون مجرّد صدفة، الرقم "اثنا عشر" يجمع الإمرأة بالفتاة، يصبح قاسَماً مشتركاً قادر على جمع فئات الأعمار كلّها.
أن المعجزتين الّتين أتمّهما السيّد هما بوظيفتهما الأدبيّة واللاّهوتيّة على ترابط وتكامل، المعجزة الأولى تشرح لنا ما هو الإيمان، أمّا الثانيّة فتعلن أن الإيمان ينتصر على الموت نفسه.
ما هو الإيمان:
بحسب هذا النص نعرف أن الإيمان هو "لمس يسوع المسيح"، ولمسه يعني ملاقاته، الوثوق به التعرّف اليه شخصيّاً. فرغم الأعداد الكبيرة المحيطة، وحدها النازفة أمنت به، وثقت بقدرته وأخذت المبادرة، إنطلقت نحوه ولمسته.
الإيمان هو دخول بعلاقة مباشرة وشخصيّة مع يسوع: لم تكتفي الإمرأة بما سمعته، لم تبقى فرداً بين حشود لا نعرف قصّتها، بل تميّزت عنهم. الإيمان يبدأ بالسماع، وينمو في الجماعة، إنّما السماع والتعليم الّذي نناله في صغرنا هو نقطة انطلاق نحو بناء علاقة روحيّة ناضجة، تختبر يسوع شخصيّاً، نحيا علاقة صداقة معه وتتلمذ له. لو بقيت هذه الإمرأة محدودة بنظرة الجموع ليسوع لاختنق إيمانها ولما نالت الشفاء. لقد انتقلت من مرحلة الإتّباع الأعمى الى مرحلة التتلمذ الواعي والمسؤول، لم تبق على ما قاله الآخرون، وغالباً ما يقولون نظرتهم الشخصيّة.
مراحل متعدّدة في مسيرة الإيمان:
في حركات الإمرأة يلخّص لوقا مسيرة إيماننا المسيحيّ:
- الكائن الباحث عن خلاص بعيداً عن يسوع المسيح: "أنفقت كلَّ ما تملك على الأطبّاء وما قدر احد أن يشفيها". لقدّ فتّشت هذه المرأة، صورة كلّ واحد منّا، عن خلاصها بقواها الذاتيّة وبمالها وباتّكالها على حكماء هذا الدهر ففشلت. أيقنت انّها عاجزة عن إعطاء ذاتها الخلاص، ومالها الّذي بحثت فيه عن مخلّص قد نفذ، والأطبّاء لم يداووا جراحها. هي قمّة الفشل، هو كائننا المُحبَط إزاء محدوديّته وضعفه. كم نجد أنفسنا أقوياء أحياناً، نظنّ أنفسنا ممسكين بزمام حياتنا، قادرين على إتّخاذ القرارات، نضع برنامجاً يمتدّ على عشرات السنين القادمة، نعتدّ بما أنجزناه، وبما تعلّمناه، نفاخر بشهاداةٍ استحقّيناها، أو بتجارة رابحة أنجزناها، وننسى الله محور سعادتنا. نبني خلاصنا على أمور ماديّة، والمادّة بطبيعتها عابرة. تفنى المادّة، يمرض الجسد، تتعثر التجارة، لا تنفعني شهادتي شيئاً، أجد نفسي عاجزاً، اصطدم بفشل المادّة في إنقاذي، أغرق بوحدتي. هذه الإمرأة لم تيأس، علمت أن المادة ليست قادرة على إعطائها الخلاص، ففتّشت عن المخلّص الحقيقيّ، علمت أن أموالها قد نفذت، ففتّشت عمّا هو دائم، وكان هذا الدائم يومها مارّاً في مدينتها، فلم تضيّع الفرصة.
- الكائن بين الجموع: هو الإنسان الّذي يتلخّص إيمانه بما يقوله الآخرون. هو كلّ واحد منّا يسمع في صغره عن يسوع ويسمع من والديه التعليم حول ما هو واجب وما هو صحيح وما هو خطأ وما هو ممنوع. يذهب الى الكنيسة ويشارك في الأسرار، إنّما خطأه هو أنّه بقي على ما سمعه، لم يدخل في علاقة مباشرة مع السيّد. صلاته اليوميّة هي واجب يتلوه مسرعاً، وقدّاس الأحد هو فرض أسبوعي لتلافي الخطيئة والعقاب، وحياته الأخلاقيّة هي عادة اكتسبها. التتلمذ ليسوع هو الأنطلاق مما تعلمّناه لأنّه قيّم وأساسيّ، هو حسن إنّما هو غير كافٍ لينقلني من مرحلة الواجب وأحياناً الوسواس الى مرحلة التتلمذ، أي الى الدخول في علاقة شخصيّة مع الرّب. أنا مدعو لأن أحيا الصداقة والتتلمذ لا الخوف والقلق. صلاة العبد هي فرض للتلافي الخطيئة وصلاة التلميذ هي حديث صداقة مع يسوع الحاضر، قدّاس الأحد هو واجب بالنسبة لمن هو مجرّد فرد في مجموعة، والإفخارستيّا هي اتّحاد حقيقيّ وشخصيّ بيسوع الحاضر حقيقة في القربان وفي الجماعة. العبد هو من يذهب الى الكنيسة فيجلس بجانب شخص آخر وسط كنيسة محتشدة، والإبن الصديق التلميذ هو من يذهب ليكون مع إخوة له لا يعرفهم، إنّما يعلم أنّهم بيسوع المسيح صاروا إخوة له. الحياة الأخلاقيّة يبنيها العبد على خوفه من العقاب، ويبنيها التلميذ على حبّه ليسوع، التلميذ يرفض الخطيئة ويبتعد عنها لا خوفاً من جهنّم، إنّما حبّاً بيسوع المسيح وبإخوة يسوع الصغار.
- الدخول في علاقة مع الرّب بحثاً عن الخلاص: "دنت من خلف يسوع، ولمست هدب ثوبه، فوقف نزف دمها في الحال". هو أمر طبيعيّ، فكيان كلّ واحد منّا يبحث عن الخلاص. بحث هذه المرأة في هذه المرحلة كان خلاص الجسد، أرادت أن تُشفى من مرض يجعلها غير طاهرة، بحسب شريعة موسى، بعيدة عن الهيكل وسبب نجاسة للآخرين. ربّما حظّها كان كامناً في ان مرضها كان غير ظاهر للعيان كالبرص، وإزاء الجماعة كانت قادرة على تمويه حقيقتها، لم تكن مفصولة بالمطلق عن الجماعة والدليل أنّها كانت بين الجموع. إنّما عزلتها كانت داخليّة، لا اجتماعيّة كحالة الأبرص، كانت تحيا حالة تمويه دائم وإخفاء لحقيقتها، وربّما كانت تختنق من واقعها هذا. كانت تحيا ألماً مستمرّاً، لحسن حظّها كان يسوع حاضراً.
اقتربت من الخلف ولمسته، وصلت عمليّاً الى مبتغاها لأنّها نالت شفاء الجسد، إنّما لم تحصل على الشفاء الداخليّ، ويسوع لا يرضى بأنصاف الشفاءات، فهو أتي ليهب للإنسان الخلاص الكامل، الخلاص الكليّ، خلاص الجسد الّذي لا بدّ ان يشفى النفس الجريحة والروح البعيدة عن الله والمكبّلة بالخطيئة وبالرذائل. هي حالة إنساننا المقتّش عن الخلاص العابر، نحتال على يسوع لنشفى، أو لننجح، أو لنجتاز مشكلة أو ضيقة ماديّة. نذهب من وراء يسوع، لا ندخل بعلاقة شخصيّة معه، لا ننظر اليه وجهاً لوجه، وندعه ينظر يرى وجهنا. نتحاشى النظر في عيني يسوع لأنّنا نخاف أن نكتشف حقيقتنا. هو يعرفنا، إنّما خوفنا هو من أن نعرف نحن ذاتنا، نتحاشى الدخول في علاقة مباشرة معه لأنّه إله متطلّب، نرتضي بالحدّ الأدنى، نأتيه من الخلف لننال مبتغانا ونختفي مجدّداً بين للجموع.
- الإيمان الأعمق يتحقّق لحظة الدخول في علاقة مباشرة مع يسوع: "حين علمت أنّ أمرها لم يخف عليه، جاءت راجفة وارتمت عند قدميه". الإرتماء عند قدمي شخص لا لا يعني فعل تقوى كما نفهم نحن اليوم. نحن نركع لنصلي، لنعبد الله، أمّا في العالم القديم فلم يكن الأمر يتعلّق بالعبادة فقط، إنّما بالتتلمذ. فعل الجلوس عند أقدام شخص ما كان يعني أعلان هذا الشخص كمعلّم لي، وهو أمر كان مشتركاً بين الثقافتين اليونانيّة واليهوديّة. هذه المرأة قد عرفت أنّه لا يمكنها الهرب من وجه السيّد، عرفت أنّه يعرفها بعمقها، هو الوحيد الّذي انتبه لها، حتى بطرس لم يتنبّه الى هذه المرأة الّتي كانت تحاول مدّ يدها من بين الجموع لتلمس الربّ، ولو كان قد رآها وعلم ما هي حالتها لكان قد حاول منعها من تدنيس المعلّم. وحده يسوع نتبّه لها، وعمل الرّب الحنون هذا لم يسمح لنا ان تبقى غير مبالية. لقد ارتعدت، لأنّها علمت أنّها أمام شخص مميّز، مختلف، ليس كسائر البشر، إنّما ارتعدت أيضاً لأنّ شخصها نفسه قد صار له اهمّية، علمت أن الرّب عينه يسأل عنها، يهتمّ بأمرها، أحبّ إيمانها. أرتعدت لأن هذا الشخص الّذي انتصر على اثنتي عشرة سنة من ألم ويأس ومحاولات فاشلة بلمسة منه، هو نفسه يريد ان يدخل معها في علاقة معرفة وصداقة. لقد كانت بالنسبة للمئات المحتشدة مجرّد شخص إضافيّ، غير مرئي، وإنّ رأوها فلن يبالوا بها، فهي ليست سبب وجودهم هنا، أمّا بالنسبة ليسوع فقد صارت هي محور الوجود بأسره، أراد أن يعرف من هي وأين هي، أراد أن يقودها الى الخلاص الحقّ. الإيمان العميق هو ان أعرف أنّ الربّ يعرفني، ويريد صداقتي، أنّه يفتّش عنيّ دوماً ويبالي بوجودي، يريد أن يقودني الى الخلاص الحقّ، لا أن أبقى متغمساً في سدّ حاجاتي دون النزوح الى ما هو أعمق وأسمى.
- الإيمان هو أن يصبح للإنسان هويّة على ضوء علاقته بيسوع المسيح: لقد وقفت النازفة امام يسوع، قادها يسوع للوقوف امامه وجهاً لوجه، رأت وجه يسوع، والأهمّ هو أن يسوع قد رأى وجهها. في الحضارة اليونانيّة القديمة كان يُطلق على العبد صفة aprosopon أي الّذي لا وجه له. الوجه في الحضارات القديمة، كما اليوم، يشير الى الهويّة، فحين نفكّر في شخص ما تخطر صورته على بالنا. أن يمتلك الإنسان وجهاً يعني أن تصبح له هويّة، يصبح فرداً مميّزاً. لقد قاد يسوع الإمرأة من حالة الإنسان الفاقد لهويّته الى حالة الصديق، مالك لشخصيّة ولهويّة، لتاريخ ولسيرة حياة. إن الإيمان يدخلنا في هذا النوع من العلاقة مع الرّب، حالة الصداقة، يسوع يعرفني ويميّزني، وأنا أعرف يسوع، يصبح محوريّاً في حياتي.
- الإيمان لا يمكن أن يكون مفصولاً عن الإعلان: بعد أن رأت وجه يسوع "أخبرته أمام الناس كلّهم لماذا لمسته وكيف شفيت في الحال" (8، 47). في هذه العبارة نجد الشفاء الحقيقيّ، "أخبرته لماذا لمسته": لقد باحت بأكثر الأمور خصوصيّة، أمور حتى إمرأة من عصرنا تخجل من البوح بها. شفاؤها الحقيقيّ كان تحرّرها الداخليّ، لقد أمضت سنواتها الأثنتي عشرة الأخيرة تحاول أخفاء داء يؤديّ بها الى العزل عن المجتمع، داء جعلها تتراجع عن المجتمع وتدخل في وحدتها. وها هي الآن تعلن على الملأ ليس شفاءها فحسب، بل ممّاذا شُفيت. لقد أعاد المسيح لهذه الإمرأة حريّتها، أخرجها من سجن خوفها وخجلها، جعلها تتصالح مع ماضيها، لتنطلق نحو مستقبل أعدّه الله لها. لم تعد تحيا في الخفاء ما هي عاجزة عن إعلانه على الملأ، لقد دخلت بالمسيح، وبواسطة الإيمان، في حالة المصالحة مع الذات ومع الآخرين. لقد شهدت الإمرأة ليسوع الشافي جرح قلبها، دخلت في عداد تلاميذه الكثيرين، يحيون تتلمذهم في صمت الإيمان والصلاة وفي شهادة الحياة.
ثمرة الإيمان هو سلام القلب:
أرسله المسيحُ الإمرأةَ بعد أن شفاها قائلاً لها: "يا ابنتي، إذهبي بسلام"، هو المسيح الّذي يلد الى حياة جديدة إمرأة لا بدّ أن تكون أكبر منه عمراً. كلمة "يا ابنتي" تصبح علامة الحياة الجديدة، لقد وُلدت من جديد، إنطلقت من جديد في مسيرة الحياة بعد أن توقّفت حياتها قصراً. إذهبي بسلام، إنّما أي سلام؟ هي أمرأة تنطلق الى مستقبل مجهول، لا نعرف إن كانت متزوّجة، إن كان عندها من يعتني بها، نعلم أنّها قاست الكثير من الألم، ونعلم أنّها أنفقت كلّ ما تملك، تذهب الآن دون ضمانات ماديّة، تذهب لتكمل حياتها القديمة بمنطق جديد، بمنطق الشفاء. السلام الّذي أعطاها إيّاه المسيح حين أرسلها هو ليس سلام العالم، السلام المبنيّ على الإكتفاء الماديّ وعلى الضمانات الملموسة، هو سلام المؤمن بعناية الرّب به، يعلم أن الرّب حاضر، يرافق التلميذ في كلّ لحظة وفي أحلك لحظات حياته. هذا السلام هو ثمرة الأيمان، ميزته انّه لا يوصف، ولا يُفسّر، غير منطقيّ بالنسبة لمنطق العالم، هو سلام يحياه التلميذ لأنّه يملك الرّب ويعرف أن السيّد حاضر في حياته. هو سلام من يسير في الطريق مع الحبيب، لا يخشى الصعوبات، ولا يفكّر في المخاطر ولا يترقّب الهدف، فكلّ اهتمامه ينصبّ على الحبيب المرافِق، على يسوع الّذي يختصر في شخصه الطريق والهدف.
إحياء إبنة رئيس المجمع:
نجد في حركات يائيرس نقاط عديدة تتشابه ونصّ النازفة، وعدّة نقاط إختلاف:
نقاط الإختلاف:
من ناحية الإختلاف يقول النصّ عن الرجل أنّه "رئيس المجمع" (8، 41)، أي هو الرجل المسؤول عن إدارة شؤون كلّ ما يتعلّق بالمجمع، ومن ضمن واجباته أيضاً مراقبة تتميم الشريعة، أي منع من هم في حالة الإمرأة النازفة من الدخول الى مكان الصلاة. لقد كان هذا الرجل نافذاً بحكم وظيفته، يملك المال والخدم، أمّا الأمرأة فكانت معدمة، لأنّ مالها قد أّنفق على الأطبّاء. جاء الرجل مباشرة من أمام يسوع وتكلّم اليه، بعكس الإمرأة، فهو لم يكن عنده شيء يخفيه، لقد كان سائراً ضمن تعليم موسى ومولَجاً إدارة شؤون بيت الله، كان رجلاً ذو كرامة، تتداخل حياته بحياة امرأة لا كرامة لها، نجسة بحسب الناموس، تخفي حقيقتها، وتبقى بعيدة عن بيت الله.
نقاط التشابه:
إمّا من ناحية التشابه بين الشخصين فهو التتلمذ ليسوع المسيح، يائيرس ارتمى كما سوف ترتمي الإمرأة عند قدمي يسوع، يعلن تتلمذه ليسوع، ويعلن أمام الجميع عن قدرة يسوع على شفاء ابنته. لقد سجد الناموس القديم لشريعة المحبّة الجديدة، شريعة يسوع المسيح. لم يستطع الناموس أن يعطي يائيرس خلاص ابنته كما أنّه همّش عن الحياة الروحيّة النازفة بسبب مرضها.
نقطة التقاء واختلاف بين الشخصين هي فترة الأثتني عشرة سنة، فحين وُلدت أبنة يائيرس بدأ مرض الأمرأة. اثنتي عشرة سنة قضتها الأمراة في مرضها، وقضاها الرجل في حياة الأب الطبيعيّة. ألم الإمرأة وجد نهايته بيسوع، وفرح الأب وسعادته بابنته الوحيدة (8، 42) ظهرت فارغة وهشّة، معرّضة للتحطّم في لحظة واحدة بسبب المرض والموت، فنالت ضمانتها بيسوع المسيح. يسوع وضع نهاية لألم الأمرأة، وأعطى السعادة الحقيقيّة للرجل الثكيل.
يائيرس والنازفة فصلهما الناموس وجمعهما الإيمان وشفاهما: "يا ابنتي إيمانك خلّصك" (8، 48)، و"يكفي أن تؤمن فتُشفى ابنتك" (8، 50). إن الإيمان قدّ خلّصهما، ردّ للوالد ابنته، وأعطى للمرأة الوحيدة أباً جديداً، صار المسيح والداً لها لحياة جديدة.
إن مسيرة إيمان الإمرأة تكتمل أيضاً باختبار يائيرس، فموت الإبنة يختصر كلّ ألمنا البشريّ وهشاشة طبعنا. يضعنا النّص بين ضعف قدرة الإنسان الذاتيّة وبين عظمة الرجاء الّذي يصبح بيسوع المسيح خلاصاً. منطق البشر يظهر من خلال كلمات خادم يائيرس: "لقد ماتت ابنتك، فلا تزعج المعلّم"، كلمات تلخّص مفهومنا للموت، هو نهاية، فلا نزعج المعلّم، لأنّ لا نفع من طلبنا بعد الآن. إنّما في لحظة النهاية هذه، حين يقف الإنسان أمام عجزه ومحدوديّته، يبدأ عمل الله، فإلهنا هو إله المستحيل، إله الرجاء الّذي لا يعرف حدوداً. بعمله هذا يظهر لوقا البعد المسيحانيّ لعمل يسوع وتحقّق نبوءة العهد القديم:
"فقالَ الرّبُّ لي: "يا اَبنَ البشَرِ، هذِهِ العِظامُ هيَ بَيتُ إِسرائيلَ بأجمعِهِم. هُم يقولونَ: يَبِست عِظامُنا وخابَ رجاؤُنا واَنقطعنا. لذلِكَ تنبَّأْ وقُلْ لهُم: هكذا قالَ السَّيِّدُ الرّبُّ: سأفتَحُ قُبورَكُم وأُصعِدُكُم مِنها يا شعبي، وأجيءُ بكُم إلى أرضِ إِسرائيلَ. فتعلمونَ أنِّي أنا هوَ الرّبُّ حينَ أفتحُ قُبورَكُم وأُصعِدُكُم مِنها يا شعبي. وأجعَلُ روحي فيكُم فتحيَونَ وأُريحُكُم في أرضِكُم، فتعلمونَ أنِّي أنا الرّبُّ تكلَّمتُ وفعَلتُ، يقولُ الرّبُّ" (حز 37، 11-13)
الإيمان لا يعطينا خلاصاً في وجودنا الحاضر فحسب، بل يجيب على أعمق تساؤلاتنا الوجوديّة وأكثرها بعثاً للقلق: الموت. لذلك أورد لوقا هاتين الروايتين معاً، ليعلن بطريقة سرديّة أن المسيح لم يأت ليشفي أمراضنا ويحققّ خلاصنا الزمنيّ، إنّما جاء يعلن أنّه قادر على إعطاء أجوبة وجوديّة، ويُظهر أنّ لا يمكن أن تكون للموت الكلمة الأخيرة، لقد إنتصر على الموت، وأعاد الحياة لهذه الصبيّة. أرجع المسيح الحياة الى الفتاة إنّما لم يعطها القيامة الأخيرة بعد، أيقظها من الرقاد وأمرهم بإحضار الطعام لها. هي بداية جديدة سوف تنتهي بالموت الطبيعيّ مرّة أخرى، إنّما القيامة الحقيقيّة سوف تتم على ضوء قيامة المسيح. لقد مات المسيح عنّا، وبموته قتل الموت، وأعطى بشريّتنا الحياة الأبديّة.
تأمّل:
أين أنا من إيمان يائيرس والإمرأة النازفة؟ هل إثق بيسوع وأعلنه مخلّصي الأوحد؟ كم أتّكل على المال، أنفق كلّ ما لديّ، أستنزف قواي كلّها مفتّشاً عن الخلاص، كم اصطدمت مراراً بعجزي وبفشلي! فهل عندي الشجاعة لأرمي بذاتي بين يدي الله؟ أسمح له أن يعمل في داخلي؟ هل أسعى الى لمسه؟ كم تهرّبت من النظر في عينيه مغمضاً عينيّ عن تقصيري وإهمالي. أعرف جيّداً إرادته في حياتي، من خلالي أهلي ورعيّتي، أقرأ إرادته في الكتاب المقدّس، وأسمعها في تعاليم الكنيسة، أعرف ماهيّة إرادة في ألم الفقير والمتألّم والوحيد، وبرغم هذه كلّها، أبقى مغمضاً عينيّ، ألمس الربّ من الخلف، لا أملك الشجاعة للذهاب اليه والنظر في عينيه لأرى نقصي فأعترف به وألمس الشفاه.
مثل النازفة أنظر الى سنيّ حياتي تمرّ سدىً، ومثل رئيس المجمع اتّكل على سعادتي العابرة، ابني عليها أحلامي وتطلّعاتي. مثل النازفة أتّكل على مالي وعلى الأطبّاء ومثل يائيرس أتّكل على تطبيق شريعة الحرف وأهمل الحقّ. مثل النازفة أهرب من لقاء الرّب ومثل يائيرس أسخر منه ضاحكاً، لا اصدّق أنّه قادر ان يعيد الى حياتي الحياة.
حين يُسد أفقُ الرجاء، وأصل الى الحائط المسدود، حين أستنزف كلّ طاقاتي دون جدوى، أصبح مثل الطفل، عاجزٌ لوحده ومتّكل على أبيه. يائيرس كان يعلم ما معنى الأب، فأدرك سرّ المسيح، والنازفة بيسوع صار ابنة، عادا كلاهما الى تواضع الطفولة المتّكلة على عناية الوالد، علموا أن الشفاء هو بالكفّ عن الكفاح بالوسائل البشريّة والإتّكال على قوّة الرّب المخلِّصة، عنها فقط صار للنازفة حريّة الروح، وعاد لرئيس المجمع فرح الحياة.