أحد النسبة
في الأحد الأخير قبل عيد الميلاد يطالعنا إنجيل كتاب نسب المسيح بحسب متّى. إنجيل لا يحتوى إلاّ على أسماء غريبة وأرقام وحسابات لا نفقه منها شيئاً. نتساءل ما غاية الكنيسة من وضع هذا الإنجيل؟ ما هي الرسالة الخلاصيّة التي يحتويها؟ وكيف تساعدني هذه اللائحة الطويلة من الأسماء على عيش إيماني المسيحيّ وعلى التعرّف أكثر فأكثر على المسيح وعيش رسالته الخلاصيّة في حياتي؟
(متى 1 /1-17)
لكيما نجد جواباً مقنعاً على هذه الأسئلة كلّها يجب علينا أن نتعرّف على كلّ واحد من هذه الأسماء، وما قاموا به من بطولات في تاريخ إسرائيل، معرفة حياتهم، قداستهم أو خطاياهم، طاعتهم لله أو رفضهم لوصاياه.
لقد قرأ متّى العهد القديم، وكان يعرف تاريخ شعبه جيّداً، وعلم أن أجداده في الإيمان لم يكونوا دوماً كاملين، ولم يكونوا كلّهم قدّيسين. لقد اقترف العديد منهم خطايا ومعاصي، ابتعد البعض منهم عن طريق الله وحادوا عن وصاياه، لكن الله كان دوماً أميناً، حافظ على العهد مع شعبه، لم يفتّش عن شعب كامل قدّيس، بل أحبّ الإنسان رغم خطيئته، قبل رغم معاصيه، وثق به رغم خياناته المستمرّة.
إن لائحة الأسماء الأربعة عشر الأولى، أي من إبراهيم حتى داود نجدها في سفر اخبار الأيّام الأوّل: 1أخ 1، 28. 34. 1أخ 2، 1-15. أمّا الأسماء من فارص ولغاية داود فقد استعمل متى اللائحة التي نجدها في كتاب راعوت (4، 18- 22).
اللائحة الثانية، أي من سليمان ولغاية يقنيا (أي جيل السبي الى بابل)، استوحاها متّى من 1أخ 3، 10-15
إن اللائحة الأولى كما قدّمها متّى تتطابق بشكل دقيق مع لائحة سفر أخبار الأيّام الأوّل، أمّا اللائحة الثانية فنجدها تحتوي على 17 اسماً في أخبار الأيّام، أي أن متىّ يعطينا لائحة حذف منها ثلاثة من أسماء الملوك. هل فعل متى هذا سهواً أن عمداً؟ هل أراد أن يعطينا لائحة من 14 اسماً حتى ولو استدعى الأمر تحريف التاريخ؟ إن متى يقفز في لائحته من الملك يورام ابن يوشافاط الى الملك عزّيا قائلاً: "يورام ولد عزّيا"، بينما في الواقع كان يجب عليه أن يقول: "يورام ولد أحزيا، أحزيا ولد يواص (2أخ 22، 1) ، يواص ولد أحزيا (2أخ 22، 11)، أحزيا ولد عمصيا (2أخ 25، 1)، عمصيا ولد عزّيا ((2أخ 26، 1)". إذا راجعنا سفر أخبار الأيّام الثاني (الفصول 22-25) نجد أن هؤلاء الملوك، من أحزيا ولغاية عمصيا قد اقترفوا المعاصي، وجلبوا عبادة الآلهة الغريبة الى مملكة داود وقتلوا "زكريا النبي بين الهيكل والمذبح" كما يقول المسيح (متى 23، 25). يتناقل التقليد اليهوديّ أن هؤلاء الملوك الثلاثة قد طالتهم لعنة أتاليا، ابنة الملك آحاب، زوجة يورام وأمّ أحزيا التي أُعدمت في أورشليم (2 أخ 23، 15). كان اليهود يعتقدون أن اللعنة تطال الملعون حتى الجيل الثالث، وبالتالي فإن هؤلاء الملوك قد ألغيوا من نسب داود الملوكيّ. لا بد أن متى قد عرف هذا التقليد، فكان من البديهي أن يلغي هؤلاء الملوك الثلاثة من نسب المسيح.
أما مجموعة الأربعة عشر الثالثة فلا نجد لها أثراً في العهد القديم، فما عدا الأسماء الثلاثة الأولى التي يمكننا أن نجدها في 1أخ 3، 17-19، لا يمكننا أن نعلم مصدر اللائحة بدقّة. لا بد أن التقليد الشفهيّ اليهوديّ قد حافظ في مكان ما على لائحة سلالة داود بعد العودة من السبى الى بابل، تقليد شفهيّ أو ربّما كان مكتوباً وفقد بعد دمار أورشليم.
كتاب نسب المسيح أبن داود إبن ابراهيم: نجد هذه الأسماء الثلاثة في لائحة متى تضع فاصلاً بين مرحلة وأخرى:
"إبن داود" هي عبارة تتخطّى مجرّد البنوّة الجسديّة، قاللّقب قد أخذ في القرن الأوّل، أي زمن كتابة هذا الإنجيل، معنى مسيحانيّاً، ابن داود هو المسيح الّذي سوف يأتي ليحرّر إسرائيل ويعطي الشعب الخلاص. هو الملك الّذي سوف يجلس على عرش داود ولن يكون لمُلكه انقضاء كتحقيق للنبوءة في 2 صم 7، 4-17. بمجئ "ابن داود" يُفتَتَح عهد الخلاص، ويحلّ ملكوت البرارة والسلام الأبديّ. متى يعلن هنا أن ابن داود قد وصل، دخل التاريخ عبر مريم العذراء ليحلّ على عرش داود ويخلّص شعبه من الخطيئة والموت ويعطي الكون السلام الدائم.
"إبن ابراهيم": إن كان الوعد لداود ينصّ على خلاص شعب إسرائيل فإن الوعد لإبراهيم يأخذ طابعاً أكثر شموليّة، فالوعد قد أعطي لإبراهيم أن "بنسله سوف تتبارك الشعوب كلّها" (تك 12، 1-3). إن تجسّد المسيح يتخطّى حدود اسرائيل الجغرافيّة ليطال البشريّة كلّها، كما أن ملك ابن داود امتدّ على الكون بأسره، وخلاصه اعطي للمسكونة. هذه الإشارة سوف تأخذ معناها الملموس في نهاية إنجيل متّى حيث يقول الرّب "أبن داود" ومحقّق الوعد لإبراهيم، لتلاميذه "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (مت 28، 19).
يبدأ متى إنجيل النسب منطلقاً من إبراهيم، لأنّ إبراهيم يمثّل بالنسبة للشعب اليهوديّ بداية العهد مع الله. إذا قارنّا لائحة متّى مع لائحة لوقا، نجد أن متّى اليهوديّ الأصل قد انطلق من ابراهيم كرمز العهد الّذي بدأ يتحقّق، بينما لوقا غير اليهوديّ فقد انطلق من يوسف وصولاً الى آدم ابن الله. إن هذا الإختلاف سبب انطلاق كلّ منهما من رؤية مسيحانيّة والتشديد على رؤية لاهوتيّة معيّنة. متى يكتب للمسيحيّين من أصل يهوديّ، لذلك أعطاهم ابراهيم كنقطة وصول ليعلن لهم أن انتظارهم الطويل قد وصل الى خاتمته بمجيء المسيح ابن داود ابن ابراهيم، أمّا لوقا، الّذي يكتب لكنيسة من أصل وثنيّ، فقد وصل بلائحته الى آدم ليعلن لمن هم من خارج شعب الميعاد أن التجسّد قد تمّ من أجل خلاص البشريّة بأسرها، ممثّلة بآدم أب الجميع.
ذكر النساء في لائحة النسب: رغم أن عادة اليهود كانت التشديد على دور الأم في إعطاء الهوّية، إلاّ أنّ العادة اليهوديّة كانت تذكر الرجال فقط في لوائح النسب والسلالة. من الملفت للنظر هنا أن نجد أسماء خمس نساء: تامار، راحاب، راعوت، إمرأة أوريّا ومريم العذراء.
إن يرد ذكر هذه النساء الخمسة في هذا الإنجيل هو ليس اعتباطيّاً أو نتيجة الصدفة، بل يحمل أكثر من رسالة لاهوتيّة أراد الإنجيليّ إيصالها:
- تامار (تك 38، 6-30)، قد صارت وسيلة خلاص سلالة داود من الإنقراض، وذلك من خلال اعتمادها حيلة الإيقاع بحميها يهوذا والإنجاب منه. لبست ثياب امرأة بغيّ وخدعت حماها الّذي خاف أن يطبّق الشريعة ويعطيها ابنه الأصغر ليعطي نسلاً لأخية الميت زوجها. حملت من حميها وأنجبت توأمين، فارص وزارح وبهذا صار ممكناً أن يأتي المسيح من سبط داود بواسطة فارص ابنها.
- راحاب البغي كانت تسكن أريحا حين أرسل يشوع جواسيسه الى المدينة ليروا إمكانيّة احتلالها. استقبلت الجواسيس وكذبت على ملك المدينة من أجل إنقاذهم، ومن ثمّ أمّنت لهم وسيلة الهرب من المدينة. سلمون، واحد من جنود إسرائيل، وربّما واحد من الّذين أنقذتهما راعوت، صار زوجها وولد منها بوعز والد يسّى وجدّ داود.
- راعوت زوجة بوعز ابن راحاب. هي المؤابيّة الغريبة زوجة إسرائيليّ. عادت الى أرض زوجها بعد وفاته وبعد أن فقدت ابنيها. رفض قريب لزوجها أن يقترن بها فنتزّوجها بوعز وولد منها يسّى أب الملك داود. هي الوثنيّة التي أمنت بالله وعادت الى أرض زوجها. لم تخشى الموت جوعاً ولا مخاطر الطريق، هي رمز الإتّكال على الرّب واتّباعه.
- إمرأة أوريّا، لا يسمّيها متّى باسمها مع أنّها أشهر من نار على علم. هي بتشابع أمرأة أوريّا الحثّي، إنقادت لنزوات داود الملك الذّي أغواها فحملت منه. أرسل زوجها الى الحرب وجعله في الصفوف الأماميّة ليُقتل، وأخذ بتشابع زوجة له. استحقّ عقاب الله فمات ابنه. تاب داود وقام بأعمال التكفير فنال الوعد من الله بأن من نسله يأتى من يسكن على عرشه الى الأبد. بتشابع هي أم سليمان الملك، صارت رمزاً للحكمة وموضع إكرام الملك ابنها. يعتبرها التقليد اليهودّي كاتبة الفصل 31 من كتاب الأمثال لتَنهي ابنها عن الزواج بابنة فرعون مصر.
إن الرابط بين النساء الأربعة هو:
- كنَّ كلّهن غريبات عن أرض أسرائيل: تامار من تمنة في أرض موآب، راحاب من أريحا ابنة أعداء إسرائيل، راعوت مؤابيّة وبتشابع حتّية الأصل. لم تكن تربطهنّ بشعب الله أية صلة، إنّما الله اختارهنّ لتصبحن والدات لأجداد المسيح. إن طرق الله لا تُستقصى، وفكره يختلف عن فكر البشر. لقد أعلن الله من خلال هذه النساء الأربعة أن مخطّط الله الخلاصي قد طال الجميع، وأن أبوّته الإلهيّة هي لكلّ البشريّة.
- لم تكنّ قدّيسات، فكلّهن ولدن بطريقة غير اعتياديّة: الأولى حملت من حميها لتكمّل الناموس، الثانية بغيّ عاشت حياة غير اخلاقيّة قبل أن تلتقي زوجها، الثالثة رقدت مع بوعز قبل الزواج منه، وبتشابع خانت زوجها وحملت من داود الملك. يقول القدّيس إيرونيموس: "النساء الأربعة المذكورات في إنجيل نسب متّى كلّهنّ غريبات، تامار، راحاب، راعوت وبتشابع. لم يذكر متّى النساء القدّيسات، بل ذكر النساء الّواتي كان الناموس يحكم عليهنّ، لكيما أن الّذي جاء من أجل الخطأة، وولد من سلالة خطأة، يحطّم خطيئة الجميع."
- يدرج متّى هذه النساء في لائحة النسب لسبب عقائديّ أيضاً: في أيّام المسيح كان الجدل المسيحانيّ قوّياً بين تيّارين: التيّار الفرّيسيّ الّذي كان يعلّم أن المسيح سوف يأتي من نسل داود بحسب وعد الله لداود، والتيّار الصدّوقيّ الّذي ضمّ الى جانب الصدّوقيّين الأسينيّين أيضاً، وكانوا يقولون أن المسيح لن يأتي من نسل داود الملوكيّ بل من نسل لاوي الكهنوتيّ. فكيف يمكن للمسيح أن يأتي من نسل استمرّ في التاريخ بالزنى والخيانة؟ إن إصرار متّى على إدراج هذه الأسماء الأربعة في الإنجيل يشير الى اعتماده الرؤية اللاهوتيّة الوفيّة للكتاب المقدّس. لقد أعلن سلالة المسيح الداوديّة، وآمن أن الله قادر على استخراج الخير من الشرّ الّذي يمكن للإنسان اقترافه.
الإسم الخامس: مريم
بعكس النساء الأربعة السابقات، مريم لم تكن غريبة عن تاريخ شعبها، فهي ابنة صهيون الخارجة من أرض إسرائيل ومن مملكة يهوذا. لم تكن خاطئة ولم تقترف معصية وما خالفت مطلقاً ناموس الله بل كانت مثال الوفاء لله ومعلّمة في الطاعة لإرادته. هي التي سمعت بشارة الملاك وقبلت إرادة الله في حياتها، قبلت الكلمة التي تتجسّد في حياتها وفي حشاها، ووضعت نفسها في خدمة نسيبتها.
إنما القاسم المشترك مع النساء الأخريات يبقى أن ما تمّ في حياتهنّ كان بعكس ما خطّطن له شخصيّاً، فتامار كان من المفترض أن تحيا مع زوجها وتنجب منه، وراحاب كان مقدّراً لها أن تحيا في أريحا وتستمرّ في حياة الخطيئة، إنّما الله وضع في طريقها سلمون الجندّي الإسرائيليّ فعاشت الإرتداد وانضمتّ الى شعب اسرائيل، وراعوت كانت تحيا في أرض مؤآب مع زوجها وولديها وكان من المفترض أن تنهي حياتها هناك، لكن الله رسم لها مخطّطاً آخر، استخرج الخير من مآسيها، لم يكن السبب في موت زوجها وولديها، ولكنّه استخرج خيرها من هذا الشرّ الّذي يمكن أن يضرب إنسانيّتنا. انتقلت من مؤاب الى آرض اسرائيل وكان من المفترض أن تتزّوج قريب زوجها، ولكنّه رفضها فتزّوجت عوبيد وصارت جدّة داود. بتشابع الحتّية كان من المفترض أن تحيا مع زوجها وتنتقل ربّما الى مؤاب بعد انتهاء الحرب، ولكنّ الّرب استطاع أن يحوّل الشرّ الّذي اقترفه داود خيراً لشعبه، فوُلد سليمان من زواجها بداود بعد مقتل زوجها. أمّا مريم فكان مقدّراً لها أن تحيا على مثال كلّ نساء أسرائيل، تتزّوج يوسف خطيّبها، تنجب الأطفال وتعلّمهم ناموس الرّب وتسهر على عائلتها، لكن الله أعدّ لها مكاناً مميّزاً في مخطّطه الخلاصيّ، جاعلاً إيّاها أمّ الكلمة المتجسّد.
لقد عرفت مريم كيف تقدّم إرادة الله على إرادتها الخاصّة، وأن تضع مشروع الله في المقام الأوّل. إن هذا الأمر يستدعي شجاعة التخلّي عن أحلامنا الخاصّة، ويقتضي الإيمان، الثقة بالله الّذي يدبّر حياتنا ويقودنا نحو الخلاص.
هي دعوة لنا لنثق بالله ونؤمن بقدرته على تغير حياتنا، وبمحبّته لنا، هو الأب الحنون الّذي يرغب بأن يصل وجودنا الى ملء اكتماله وإعطائه معناه الأعمق. فلا نخاف من التضحية بمخطّطاتنا الخاصة والسير في الدعوة التي يدعونا الرّب اليها، حتّى ولو اقتضى الأمر أن نترك أرضنا، وأحلامنا ومشاريعنا ورغباتنا، فالرّب يحضّر لنا النصيب الأفضل.
يسّى ولد داود الملك: رغم أن اللائحة كلّها تحتوي أسماء ملوك، إلاّ أنّها المرّة الوحيدة التي يذكر فيها متّى اللّقب، وهذا دون شكّ لأهميّة شخص داود في نشأة السلالة الداوديّة من جهة: فهو الملك رأس السلالة الملكيّة وهو أب المسيح المنتظر، فمن نسله سوف يأتي المخلّص. هذه الإشارة الى هويّة داود الملكية تهدف أيضاً إلى إعطاء الصفة نفسها للمسيح الخارج من سلالة داود، إنّما هو ملك ليس على إسرائيل فحسب، بل على البشريّة بأسرها.
في الآيات 7-10 نجد تحريف لإسمين في اللائحة، فبينما نجد في العهد القديم الملكين آصا وعمون، نجد متّى يقول: "آصاف وعموص". إن آصاف كما نعلم هو منشد أو كاتب للمزامير، نجد اسمه في مطلع بعض المزامير مثل المزمور 50 والمزامير 73- 83... أمّا عاموص فهو نبيّ من أنبياء إسرائيل. يرى بعض الشرّاح أن هذا الأمر هو مجرّد خطأ لغوي تمّ بسبب عمل ناسخ مخطوط الإنجيل، ويرى آخرون أن هذا الخطأ هو خطأ مقصود، أدرج فيه متّى هذين الإسمين ليعطي من خلالهما للمسيح ميزة الحكمة والنبوءة.
أسماء ملوك ما بعد السبيّ: كما أسلفنا، لا نعرف مصدر هذه اللائحة إذ لسنا نجد سوى ثلاثة من أسماء ملوكها في العهد القديم، وهي لا بد ناتجة عن تقليد يهوديّ متناقل وربّما شفهيّ فقدنا أثره اليوم ونعلم عن وجوده من خلال لائحة النسب التي يعطيها متّى ولوقا في إنجيليهما.
تبدأ هذه الحلقة الأخيرة بالملك يقنيا، إنّما في العهد القديم نجد اسمه يهويقين، وهو أوّل ملوك السبّي، تمّ ترحيله مع الملكة الأمّ وزوجته وأولاده الى بابل، وصار اسمه "الملك المسبيّ". الى جانب اسمه نجد اسمي شلتئيل وزربابل. أماّ اللائحة من أبيود الى يعقوب أب يوسف خطّيب مريم فلا نجدها في أيّ مكان في العهد القديم.
ويعقوب ولد يوسف خطّيب مريم التي منها وُلد المسيح: في طريقة أدبيّة ماهرة يدرج متّى اسم مريم هنا الى جانب اسم يوسف. الرابط الوحيد بين يسوع ويوسف هي مريم. من ناحية البنوّة الجسديّة يبقى يوسف غريباً تماماً عن يسوع المسيح، أمّا بالنسبة للبنوّة الشرعيّة فيوسف هو أب يسوع رسميّاً تجاه المجتمع والله، وذلك من خلال التبنيّ. إن هذا التبنيّ لم يتمّ رسمياً أمام المجتمع، لأن يوسف لم يرد أن يشهر مريم أمام المجمع لئلاّ يعرّضها لخطر الموت، لذلك فبالنسبة للمجتمع فإن يوسف هو والد يسوع الجسديّ، لكن فعل التبنيّ قد تمّ بين يوسف والله نفسه حين ترائى الله له في الحلم وأعلمه عن حقيقة الطفل وطلب منه أن يأخذ امرأته والطفل ويحميهما من خطر هيرودس. لذلك يربط متّى المسيح بداود بواسطة يوسف ابن داود، ويظهر بنوّة يسوع الإلهيّة من خلال استعمال صيغة المجهول الّذي يُدعى في القواعد اليونانيّة: "المجهول الإلهيّ"، حين يكون الله هو فاعل الفعل، تُستَعمل صيغة المجهول احتراماً للجلال الإلهيّ. حين نقول "التي منها وُلد المسيح" نفهم "التي ولد الله منها يسوع الّذي يُدعى المسيح".
مجموعة الأجيال الأربعة عشر الثلاثة: إن هذا التقسيم الثلاثيّ للأجيال الأربعة عشر تبدو بغاية الأهميّة بالنسبة لمتّى، لذلك حوّر في اللائحة الثانية لاغياً ثلاثة أسماء كما أوردنا، ومعطيا عشرة أسماء لا يوردها العهد القديم في اللائحة الثالثة، ليؤمن هذا التناسق بين أقسام لائحة النسب الثلاثة التي يعطيها. كما أنّه جهد في تنسيق فترات تاريخيّة متفاوتة جدّاً في ثلات لوائح متاسقة العدد: ففترة ما قبل داود تمتد حوالي 700 سنة، بينما فترة داود الى السبي فتقتصر على 400 سنة فقط، بينما فترة ما بعد السبيّ الى حين ولادة المسيح فهي حوالي 600 سنة، إنّما جهد متّى في تنسيقها على أربعة عشر جيلاً على مثال اللائحة الأولى. فلماذا العدد 14؟ نعلم كلّنا أن العدد 7 هو رمز الكمال في الكتاب المقدّس، وإذا قسّمنا لوائح الأسماء الى 7 أسماء بدلاً من 14 نجد مجموعة تتكوّن من 6 مجموعات، ومع ولادة المسيح ندخل في المجموعة السابعة، أي في عدد الكمال. مع ولادة المسيح ندخل في الزمن المسيحانيّ، الزمن الكامل، حيث تنتهي إنتظارات شعب الله وشعوب الكون بأسرها، لأنّ المخلّص قد وصل.
إنّما لماذا قسّم متّى اللوائح الى 14 بدلاً من 7 إن كان الرقم 7 هو رقم الكمال؟ لأنّ الرقم 14 هو رمز الملك داود، فالقيمة الرقميّة للأحرف التي تكّون أسم داود (يُكتب في العبريّة دَوِد) هي 14 (د= 4 + و= 6 + د= 4). إن الرمز بأسره يدور حول الوعد الّذي أُعطي لداود بأن منه يأتي المخلّص، الملك الّذي يجلس على عرشه الى الأبد.
قيمة التاريخ في نظر الله: إن هذا الإنجيل هو الدليل الأكبر الّذي يقدّمه متّى لكلّ واحد منّا على أن الله هو سيّد التاريخ، قادر على الدخول اليه وتحويله من تاريخ خطيئة متواصلة الى نعمة وقداسة. لقد دخل الله الى تاريخنا عبر باب مريم، لم يبتعد عن تاريخنا بسبب خطايا البشريّة، لم يقرّر تدمير التاريخ وإعادة الخلق، بل حلّ في داخله ليحوّله الى مثاله، ليغيّره من تاريخ ألم وخطيئة وموت الى تاريخ نعمة، الى تاريخ تتداخل فيه الألوهة بالإنسانيّة، يدخل في تاريخ احتوى زناة وخطأة، مجرمين ولصوص، إنّما أيضاً احتوى على أبرار وقدّيسين، على أبطال في القتال إنّما أيضاً على أبطال في الجهاد الرّوحيّ. إن تاريخنا هو تاريخ صراع متواصل، صراع أشخاص قاوموا الخطيئة وسعوا للخلاص، خطأة تابوا وآخرون قضوا دون توبة. هذا هو تاريخنا، تاريخ لم يضع الله له خاتمة، بل سمح له بالإستمرار، دخل فيه ليعطيه الخلاص.
إنّه تاريخ البشريّة إنّما هو أيضاً تاريخنا الشخصيّ، تاريخ كلّ واحد منّا. هي قصّة الخطيئة التي نقترفها فتجرحنا، نغوينا بسمّها الحلو المذاق والفتّاك، هي قصّة طمعنا، قصّة سعينا الى السلطة والنفوذ، الى الغنى والّلذة، هي قصّة طردنا لله من حياتنا ووضعه خارجاً، هي قصّة كبريائنا وكذبنا وزنانا. هذا الإنجيل يقول لنا أن تاريخنا الخاص، على ظلمته وخطيئته، هو ليس تاريخاً ملعوناً، بل هو تاريخ مجاهد، قادر على قبول الله في داخله إذا ما تاب. نحن مدعوّون لنجعل من تاريخنا فعل ندامة متواصلة، أن نسمح لله بالدخول ليكون شريكاً في قصّة حياتنا، بل ليكون الملك على حياتنا، عندها فقط نصبح مسيحيّين، عندها فقط يمكننا أن نعطي المسيح للآخرين. لقد أعطت سلالة داود المسيح للعالم، ونحن مدعوّون لأن نعطي المسيح الى تاريخنا اليوم، من خلال قبولنا له في حياتنا والسماح له بتحويلنا على مثاله.