أحد البيان ليوسف
أمّا ولادة يسوع المسيح فهكذا كانت: نجد بعض المخطوطات القديمة تحذف عبارة المسيح، وتقول "ولادة يسوع" فقط. إنّما ذكر المسيح في هذا الموضع هو بغاية الأهمّية من ناحيتين:
(متى 1 /18-25)
- أوّلاً من ناحية النسب: إن ارتباط يسوع بيوسف من ناحية الأبّوة الشرعيّة بالتبنيّ، ومن ناحية مريم، من نفس سبط يوسف على الأرجح، هو ارتباط ببيت لحم وبالملك داود. لقد وعد النبّي ناتان داود بأنّ من نسله يخرج من يجلس على العرش الى الأبد، وبالتالي فإن الإشارة الى المسيح هي إشارة تتخطّى مجرّد الولادة الجسديّة لتأخذ البعد النبويّ: لقد تحقّقت النبوءة ووُلد المسيح.
- ثانياً من ناحية البعد اللاّهوتيّ: المسيح في بداية إنجيل متىّ يعطي البعد الإنسانيّ، بعد التجسّد بينما "الكلمة" في بداية إنجيل يوحنّا تجسّد البعد الإلهيّ الأزليّ، الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس. إن هذه الكلمة الأزليّة قد أخذت جسداً في حشا مريم.
بينما كانت مريم مخطوبة ليوسف، وقبل أن يتساكنا، وُجدت حبلى من الرّوح القدس: لا يجب أن نفهم عبارة "مخطوبة" هنا بمفهومنا المعاصر، أي كفترة تعرّف واختبار، بل هو زواج بالمعنى القانونيّ، يتمّ إثر اتّفاق بين العريس أو أهل العريس وأهل العروس، يُدفع فيه المهر الى أهل العروس، وتبقى في بيت ذويها الى حين تُقام مأدبة العرس العلنيّة، تذهب النساء العذارى لمرافقة العريس الى عروسه، ثمّ يرافق الزوجان الى المخدع الزوجيّ. إنّما مفاعيل الزواج القانونيّة تبدأ مع الإتّفاق الأوّلي مع الأهل، وتصبح الفتاة زوجة الخطّيب الشرعيّة.
لقد تمّت البشارة لمريم وحبلها بيسوع بين فترة الخطوبة ويوم العرس العلني، حين كانت مريم لا تزال مع أهلها ولم تساكن يوسف بعد. من هنا كانت مشكلة يوسف إذ أبصر عروسه حبلى وهو لم يعرفها بعد.
يختلف الشرّاح في سبب حيرة يوسف: منهم من يقول أن يوسف كان يدرك برارة مريم، ولم يشكّ في طهارتها مطلقاً، فعلم أن هناك أمر يفوق الطبيعة قد حصل معها، فخاف من الدخول في هذا المشروع. لذلك أراد "تخليتها"، أي إعطائها كتاب الطلاق وإعادتها الى ذويها دون أن يعلن السبب، ليحميها من خطر الموت رجماً. شرّاح آخرون يتبنّون موقفاً اكثر واقعيّة: لقد أراد يوسف تخلية مريم لأنّها كانت تحمل ابناً من خارج زواجها معه، ولم يرد أن يشهرها لأنّه كان بارّاً ولم يرد أن يعرّضها لخطر الموت.
مهما كان دافع يوسف، يبقى التشديد على كونه بارّاً، أي أنّه كان رجلاً مطواعاً لإرادة الله في حياته، يسير على هدي الناموس ويعلم أن الله أعطى الناموس لخير الإنسان لا لموته، لذلك حافظ على الناموس دون تعريض حياة مريم للخطر. أليس هذا هو التعليم الّذي سوف يعطيه يسوع في المستقبل؟ اليس هذا هو "السبت للإنسان لا الإنسان للسبت"؟. لقد نشأ يسوع الطفل في مدرسة يوسف، "كان ينمو بالقامة والحكمة والنعمة" في الناصرة، ولا بدّ أنّه قد تعلّم أن الرحمة هي صفة الله وأن الإنسان هو قيمة مطلقة، لأنّه على صورة الله ومثاله.
وفيما هو يفكّر في هذا ظهر له ملاك الرّب: يظهر لنا متى هنا الفرق بين فكر الإنسان وفكر الله، لقد فتّش يوسف عن الحلّ بقواه الخاصّة وبمنطقه الإنسانيّ، حلّ على إنسانيّته ورحمته لا يتطابق ومخطّط الله، لذلك كان تدخّل الله في حياته، ليشركه في مخطّطه ويجعله مؤتمناً على يسوع إبن الله الوحيد ومخلّص الكون. لقد كان يوسف مطواعاً، وضع نفسه في خدمه مخطّط الله، وثق بالله وعلم أنّه صادق، علم أن فكر الله يتخطّى فكر البشر. كم من المرّات في حياتنا نحيا هذا الإختبار نفسه، نجد أنفسنا ممزّقين بين إرادتنا الخاّصة وما يطلبه الله منّا، بين الرغبة والواجب، بين سهولة اللّذة وشجاعة إتّباع الله. لم يتردّد يوسف إزاء تدخّل الله في حياته، هو رجل الإيمان، والإيمان لا يقدّم توضيحات كثيرة، بل يتطلّب المغامرة، يتطّلب شجاعة الثقة بأن الله حاضر، يعمل في حياتنا، وهو الّذي يحضّر لنا النصيب الأفضل.
في الحلم:
هل أبصر يوسف حلماً جعله يغيّر رأيه؟ ألم يقدر الله أن يوصل رسالته الى يوسف بطريقة أكثر مصداقيّة؟ فنحن نعلم أن الحلم ليس حقيقة، بل هو من نسج الخيال حين ينام عقلنا. كم من المرّات نحلم ونرى في نومنا أشياء وأحداث، منها ما هو جميل ومنها ما هو مخيف أو مقلق، إنّما نعلم أنّه مجرّد حلم. هل بنى يوسف مستقبله كلّه على هذا الحلم؟ هل بنت الكنيسة عقيدتها على حلم نجّار ناصريّ؟ هل بنى متّى محتوى إنجيله على حلم رجل في سبات عميق؟
إن الحلم في الكتاب المقدّس يحمل دوماً بعداً رمزيّاً ولاهوتيّاً: على مثال الرؤيا، يتخطّى الحلم معناه الحرفيّ ليحلم معنى لاهوتيّ. فالعديد من الأحداث الخلاصيّة قد أعلن عنها في "الحلم" أو في "السبات العميق": حين أخرج الله حوّاء من ضلع آدم، أوقع الله آدم في حلم عميق. يعقوب أبصر الله في الحلم، رأى السلّم التي تربط الأرض بالسماء، رمزاً للعهد الّذي يربط الإنسان بالله، رمزاً للتجسّد الّذي سوف يكون تحقيقاً لسلّم يعقوب، يربط الأرض بالسماء. يوسف الصدّيق أيضاً كان "رجل الأحلام"، يظهر له الله مخطّطه وخلاص شعبه في هذا السبات العميق. إن الحلم هنا يتخطّى البعد العاديّ للكلمة ليأخذ بعد الإنسان الخارج من حياته الجسديّة والمنفتح بالروح على الحضور الإلهيّ. هو ليس اختباراً نفسيّاً بل روحيّاً: الحلم في الكتاب المقدّس هو حالة الإنسان الواعي، المنفتح بكلّيته على الحضور الإلهي، والّذي يقبل إرادته في حياته.
على مثال يوسف القديم، دخل يوسف في البعد الإلهيّ لوجوده، علم أن الله يدعوه الى بعد أسمى من مجرّد أن يكون نجّاراً متزوّجاً يمضي حياته في قرية نائية شمال إسرائيل، علم إن الله يوكل اليه كلمته، ابنه الوحيد وابن مريم البتول.
يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك: مرّة أخرى يشدّد متى على سلالة يوسف الداودية، ليعلن أن وعد ناتان لداود بدأ يتحقّق، فالخارج من نسل داود جاء يملك على عرشه الى الأبد.
مريم امرأتك: إن تدّخل الله في حياة مريم، وحبل مريم من الرّوح القدس، لم ينفي حقيقة أن مريم هي "أمرأة يوسف". في حياة عائلة الناصرة يأخذ الزواج بعداً مميّزاً. دون شكّ أن يوسف لم يعرف مريم جسديّاً لا قبل ولادة يسوع ولا بعدها، إنّما هذا لم يمنع الله أن يقول له: "مريم إمرأتك". فالزواج لا ينحصر فقط بالبعد الجسديّ، بل أن الرّب يدعو الزوجين الى عيش عظمة الحبّ بكافّة أبعاده. إن يوسف ومريم لم يعيشا البعد الجسديّ لأنّهما قبلا دعوة مميّزة تجعلهما يشاركان في مخّطط الله الخلاصيّ، إنّما عاشا دون شكّ معنى الزواج بشكله الأعمق: إحترام الواحد للآخر، الخوف على الآخر والقلق عليه، التفتيش عن خير الآخر. لقد عاش يوسف ومريم حقيقة الزواج بحياة مقدّسة، حياة أصبحت مثالاً لكلّ مسيحيّ دخل في رباط الحبّ والزواج. من زوجي الناصرة نعلم أن الزواج هو انفتاح على الحياة، فكما انتبه يوسف ومريم على ابن الله، كذلك كلّ زوجين، يدخلان في علاقة حبّ ويقبلا نعمة الحياة، يعلمان أن هذه الحياة هي ليست ملكهما، بل ملك لله، هما الراعيان، يحبّان، يعتنيان، ينمّيان، ويقودا الأولاد على طريق السيّد، يعلّماه أن يقبل دعوة الله له ولا يشكّلا حاجزاً أمامه. يعلمان أيضاً أن الزواج هو البحث عن خير الشريك، من ناحية تأمين الحاجات الجسديّة طبعاً، من مأكل وملبس ومسكن... من الناحية النفسيّة: تأمين الإستقرار المعنوّي للشريك، إعطائه السعادة والأمل، إنّما خاصّة من الناحية الرّوحية: السير معه على طريق الملكوت من خلال عيش حياة الصلاة الدائمة، جعل عائلتهما كنيسة منزلية، واحة صلاة يكون الله موجوداً فيها باستمرار.
لقد خاف يوسف على مريم وابنها، فقام وقادها الى مصر هرباً من خطر هيرودس المجنون، هو الأب غير الوالد قبل ابن الله في حياته وجعل من نفسه خادمه لمخطّطه. شجاع هو يوسف، ليس فقط لأنّه كسر تقاليد شعبه وأعرافه، بل لأنّه دخل في مغامرة الإيمان، دون ضمانات ملموسة ودون تأكيدات حسيّة، قبل كلمة الله وسار في هديه، عالماً أنّ الله قد أعدّ له النصيب الأفضل.
عندما استيقظ يوسف من الحلم فعل كلّ ما أمره به الملاك: هو الإنتقال من حالة الإيمان الى حالة العمل، هو وضع الإيمان موضع التطبيق. سهل أن نقول "أؤمن"، إنّما الإيمان نعبّر عنه حين نضعه موضع العمل. بأخذه مريم الى بيته، دخل يوسف في صميم مخطّط الله الخلاصيّ، صار المؤتمن على الكلمة والراعي لإبن الله الوحيد.
لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر: إن هذه الآية قد سببت الكثير من الجدل بين اللاهوتيّين على مرّ القرون، فماذا تعني هذه ال"حتى"؟ هل أن يوسف عرف مريم بعد ولادة ابنها البكر؟
يجب أن نعي أوّلاً أن هدف متّى الرئيسيّ كان في التشديد على أن لا دخل ليوسف بولادة يسوع، فهو لم يعرفها قبل ولادة ابنها. هو تشديد على بنوة يسوع الإلهيّة: لقد حُبل به بقوّة الروح القدس فقط. إنّما هذا لا يعني أن يوسف قد أضحى زوج مريم بعد ولادة ابنها. فالتقليد الكنسيّ الّذي يرقى الى أيّام الرسل قد علّم دوماً أن مريم لم تعرف رجلاً، بل بقيت بكليّتها ملكاً لله وهيكلاً مقدّساً له.
الى جانب التقليد وتعليم الكنيسة، يشرح القديّس أفرام هذا الآية قائلاً: "إن داود قد قال: "قال الرّب لسيّدي إجلس عن يميني حتّى أجعل أعدائك موضعاً لقدميك" لم ينزع السيّد عن يمينه بعد أن وضع أعدائه تحت قدميه"، كذلك يوسف، لم يعرف مريم حتى ولدت ابنها البكر، ولم يعرفها كذلك بعد ولادتها.
إن عبارة حتّى باليونانيّة (eos) نجدها أيضاً في الكتاب المقدّس في مواضع أخرى، مثل 2صم 6، 23 نجد العبارة التالية: "وبقيت ميكال، ابنة شاول دون أولاد حتى (Eos) يوم وفاتها. هنا نفهم أن عبارة eos لا تعني حدثاً في الماضي ينتهي مع بداية الحدث التالي، بل هو حدث يبدأ في الماضي ويستمر، لذلك كما أن ميكال لم تلد حتى وفاتها، ولم تلد بعد وفاتها، وكما أن الربّ أجلس السيّد عن يمينه ووضع أعداء السيّد تحت قدميه ولم يترك السيّد يمين الرّب بعدها، كذلك نفهم أن يوسف الّذي لم يعرف مريم قبل ولادة طفلها، لم يعرفها كذلك بعد ولادته. إن الكنيسة تعلّم منذ القديم أن مريم هي دائمة البتوليّة، قبل الولادة وبعدها، كتابوت العهد الّذي احتوى وصايا الله ولم يلمسه أحد، وكباب الهيكل الّذي يبقى مغلقاً لأنّ منه يدخل السيّد وحده.