أحد زيارة العذراء لإليصابات
في أناجيل الطفولة كلّها، ولا سيّما في هذا النّص، يسعي لوقا الى الربط دوماً بين حياة أليصابات وحياة مريم، مشيراً الى التشابه بين الإمراتين والى الترابط بين مصير العجور ومصير الشّابة.
ومن جهة أخرى، يشير لوقا الى دور يوحنّا في عمل يسوع: يرقص فرحاً في بطن أمّه بسبب حضور يسوع، وأمّه تتكلّم باسمه: "من أين لي أن تأتي إليّ أم ربّي". هو إعلان مباشر الى أن ابن مريم هو أسمى من إبن أليصابات، لا بلّ هو ربّ إليصابات وابنها. هو تمهيد للأحداث التي سوف تتبع في المستقبل وهو رسم مسبق لوظيفة يوحنّا: هو الّذي يعدّ طريق الرّب ويشهد له.
(لو 1 /39-45)
الى جانب حقيقة هذا النّص من الناحية التاريخيّة، يجب أن نأخذ بعين الإعتبار واقع الجماعة المسيحيّة الأولى: يشير العهد الجديد في أماكن عدّة الى تجاذبات بين تلاميذ يوحنّا المعمدان من جهة، وبين تلاميذ المسيح من جهة أخرى. منهم من كان يظنّ أن يوحنّا هو المسيح، لذلك أشار يوحنّا نفسه الى أنّه السابق الّذي لا يحقّ له فكّ سير حذاء الرّب. ومنهم من كان يظنّ أن يسوع هو يوحنّا القائم من بين الأموات، وهذا ما نستنتجه من جواب التلاميذ على سؤال المسيح: "من يظنّ الناس أنّي أنا" حين قالوا: "منهم من يقول أنّك يوحنّا". هذا النّص له أيضاً دور تعليميّ، إذ يؤكّد للكنيسة الناشئة أن المسيح هو أسمى من يوحنّا، ليس بسبب تتلمذٍ ما تمّمه المسيح لدى معلّم آخر أقوى من يوحنّا، بل منذ كان جنيناً في بطن أمّه: هو لا يحتاج لتعليم من أحد ليصبح ربّاً، فهو الله نفسه يحلّ في حشا البتول.
في تلك الأيّام: يشير لوقا في هذه العبارة الزمنيّة الى سرعة مريم في الإنطلاق الى زيارة نسيبتها الطاعنة في السّن. وقد استعمل لوقا كلمة أخرى "مسرعة" ليشدّد على سرعة إنطلاقها. ما يلفت انتباهنا هو أن مريم لم تفكّر في ما قد حصل في أحشائها، لم تخف مما قد يحصل لها، ما قد يقوله الناس عنها، أو عن ردّ فعل يوسف خطّيبها. هي المرأة المؤمنة، تعلم أن الله لن يتركها، هو لا يخذلها مطلقاً. جلّ ما قامت به بعد بشارتها هو الإنطلاق. فعل الإنطلاق هذا هو مختصر حياة مريم، لقد بدأت مسيرة لن تنتهي طوال حياتها، مسيرة التتلمذ لإبنها.
لقد عرفت مريم أن الجواب الحقيقيّ التي يمكنها أن تعطيه لله الّذي تدخّل في تاريخها وحضّر لها "النصيب الأفضل" هو الإنطلاق نحو الآخر. إن النَعَم الحقيقيّة التي نقولها للرّب حين نقبله في حياتنا تجد ضمانتها وبرهانها في إنطلاقنا نحو الآخر، في خدمة الآخر ومحبّته.
لقد اختصرت مريم في زيارتها لأليصابات كلّ مسيرة التتلمذ المسيحيّ، فأصبحت معلّمة لنا في التتلمذ وفي الإيمان: لقد سمعت كلمة الله وأمنت بها، قبلتها في قلبها وحملتها الى الآخرين. في هذا العمل نجد دعوتنا المسيحيّة: يتدخّل الله في حياتنا، يدعونا، فنؤمن ونقبل الدعوة، نثق بالله، ونضع هذه الدعوة في خدمة الآخرين، نحمل اليهم كلمة الله ونبشّر بها، لا بالكلام فقط، بل خاصّة بالعمل، بالمحبّة وبالخدمة.
إن الإيمان هو دوماً فعل انطلاق نحو الآخر، هو خروج من وحدتنا وانعزالنا. أن نؤمن يعني أن نكون دائماً في علاقة مع الآخر المختلف: مع الآخر- الله، نؤمن به ونقبله في حياتنا مع كلّ ما يستلزم هذا الأمر من تضحيات ومجهود يوميّ، ونقبل الآخر- الإنسان، نقبل قريبنا رغم اختلافه ولأنّه مختلف. أحبّه كما أحبّني الله رغم اختلافي، رغم خطيئتي، رغم كبريائي.
انطلقت مريم الى جبال اليهوديّة، و"جبال اليهوديّة" هي استمراريّة لجبال أفرائيم التي نجدها في سفر صموئيل الأوّل الّذي يخبرنا عن دعوة صموئيل. وتجدر الإشارة الى الشبه المقصود بين ولادة يوحنّا وولادة صموئيل: المكان نفسه، الأب الكاهن، الوالدين العاقرين ودعوة الولدين النبوّية. لقد أُعطي داود الوعد بأنّ من نسله سوف يأتي من يحلّ على عرشه الى الأبد، ويوحنّا هو الّذي جاء يعلن وصول هذا الوريث. لذلك سارت مريم من الناصرة الى جبال يهوذا، مسيرة طويلة جدّاً حتى لمن يسيرها اليوم بالسيّارة أو بالقطار، مسيرة شاقّة وطويلة تعبّر عن رحلة الإيمان التي نسيرها كلّ يوم خلف الرّب: درب طويلة وشاقّة، لا ضمانات فيها ولا تسهيلات، مخاطر، ألم، خوف أحياناً، الشعور بالوحدة، التعب، إنّما يبقى الرجاء ضمانة خلاصنا، نعلم أن الله يقودنا ويعتني بنا وينتظرنا. هذه هي رحلة مريم من الناصرة الى جبال يهوّذا، تختصر مسيرة حياتها كلّها، مسيرة إيمانها، مسيرة نجحت في إنجازها فاستحقّت أن تكون التلميذة الوفيّة ومعلّمتنا في التتلمذ للرّب ابنها وإلهها.
حين سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها: لقد استعمل لوقا فعلا غير اعتيادي ليقول أن الجنين قد تحرّك، فعل استعمله العهد القديم ليصف داود الّذي كان يرقص أمام تابوت العهد (2صم 6، 16). كما قلنا سابقاً، هناك العديد من نقاط الشبه بين إنجيل لوقا وسفر صموئيل الأوّل، وهذا الشبه مقصود من الناحية اللاّهوتيّة، ليعلن لوقا أن يسوع الموجود في حشا مريم هو المسيح الوريث، الّذي جاء يجلس على عرش داود الى الأبد. وهنا نجد إشارة ثانية الى سفر صموئيل: تابوت العهد الّذي يعود الى أرض إسرائيل وداود يرقص أمامه. مريم هي تابوت العهد الّذي يحتوي وصيّة الله، كلمة الله المتجسّدة.
وامتلأت أليصابات من الروح القدس: لقد اختبرت أليصابات العنصرة مسبقاً، فدون عمل الروح القدس ما كان ممكناً أن تدرك حقيقة ما يحصل مع مريم. حلول الرّوح القدس جعلها تفهم، جعلها تؤمن، لقد اختبرت شخصيّاً عمل الرّب في حياتها، إنّما ما تراه أمامها يفوق كلّ تخيّل. أمكنها أن تفهم قدرة الرّب في أن يجعل رحمها العقيم يعطي طفلاً، فقد حصل هذا الأمر من قبل مع أمّها في الإيمان حنّة والدة النبيّ صموئيل في شيخوختها. لكن كيف يمكنها أن تؤمن أن البتول تعطي طفلاً، وأن العذراء تصبح أمّاً، فهذا الأمر لا يمكن لعلم أن يشرحه ولا لعقل أن يفسّره. وحده الروح القدس كان قادراً على إنارتها لتؤمن، وحده الروح القدس يعطي الإيمان، ووحده الإيمان يجعلنا نقبل حقيقة التجسّد.
مباركة أنت بين النساء، ومبارك ثمرة بطنك: هنا يخرجنا لوقا من إطار الكتب التاريخيّة، وتحديداً سفر صموئيل، ويعيدنا الى سفر الخروج. من خلال استعمال اليصابات لكلمة "إمرأة" و"ثمرة" يتّضح لنا هدف لوقا اللاّهوتي: مريم هي حوّاء الجديدة بدل حوّاء القديمة. حّواء الأولى نالت اللّعنة والشّقاء والولادة بالألم. حوّاء الجديدة، مريم البتول، نالت البركة، فهي "المباركة بين النساء"، نالت البركة ونعمة الأمومة الحقّة. حوّاء القديمة قتل ابنها أخاه وابن مربم قدّم ذاته بدلاّ عن إخوته. حوّاء ماتت بسبب رغبتها المتكبّرة في أكل ثمرة الحياة، ومريم العذراء أطاعت الرّب فحلّت ثمرة الحياة في أحشائها، ثمرة دعتها اليصابات "مباركة"، لأنّ جميع الأجيال تسجد لها، ثمرة جسد الرّب يسوع ودمه الّذي تكوّن في مريم العذراء. إن كان الرّب يسوع هو الثمرة المباركة، فمريم تصبح شجرة الحياة الجديدة، المزروعة في وسط الجنة تقدّم ثمرتها للأجيال كلّها، والأجيالُ كلُّها تكرّمها من أجل الثمرة التي تعطيها.
من أين لي أن تأتي اليّ أم ربيّ؟: هذا السؤال نجده أيضاً في سفر صموئيل الثاني، وهو ما يؤكّد ما قلناه سابقاً، فداود قد صرخ أيضاً: "من أين لي أن يحلّ تابوت الرّب عندي؟" (2صم 6: 9).
هنا يجد الإكرام لمريم معناه الحقيقي، مريم تُكرّم لأنّها تابوت العهد، حاملة الإبن. عقيدة الكنيسة الكاثوليكيّة تتّضح على ضوء صرخة اليصابات: "من أين لي أن تأتي اليّ أم ربيّ". مريم تكرّم لأنّها أمّ المسيح وحاملته، وجود مريم لدى اليصابات هو وجود المسيح لديها، ووجود مريم في حياتنا يعني وجود الرّب معنا.
ما أن وقع سلامك في أذني أرتكض الجنين في بطني فرحاً: يعيد لوقا مرّة أخرى ما قاله لنا في الآية 41، بصيغة المتكلّم، إنّما مع إضافة صغيرة ومهمّة. لقد أعطت اليصابات سبب ارتكاض الجنين في بطنها: "من الفرح". إن لقاء الرّب لم يجلب لأليصابات ولا لطفلها الخوف او القلق، بل جلب الفرح. وحلول الرّوح القدس على أليصابات جعلها تميّز سبب ارتكاض الجنين. إن لقاء الرّب لا يمكن إلاّ ان يجلب الفرح. لقاؤنا مع الرّب لا يمكنه أن يجلب الحزن لأنّ الربّ يحلّ في قلبنا ليحرّره، هو وحده القادر على ملء قلبنا وإعطائه الفرح، السعادة الحقيقيّة، سعادة رغم المصاعب، رغم المشقّات، رغم التضحيات. حياة أليصابات وحياة مريم لن تكونا بعد اليوم سهلتين، فهما تبدآن معاً درب تضحية وألم، إنّما الفارق بينهما وبين الأخريات هو الفرح الّذي يعطيهما إيّاه وجود الرّب، والثقة التي يملأها بها الرّب قلبيهما. هذا هو الإيمان: أن أحيا السعادة رغم الألم، والمصاعب ومحن الحياة المختلفة.
لم تخف أليصابات من إخبار مريم بما حلّ بها، والإعلان هذا هو نتيجة حتمية للمسة الرّب لقلبها. فكما كان الإنطلاق الى الخدمة ردّ فعل مريم على بشارة الملاك لها، كان إعلان اليصابات لما حصل معها هو فعل إيمان واعتراف بعظمة تدخّل الله في حياتها. لا يمكن لنا أن نبقى صامتين بعد أن يلمسنا الرّب، ففرح لمسته هو فرح ينطلق نحو الآخر، لا يقدر أن يبقى مغلقاً على ذاته. هو فرح مُعدٍ، يخرج منا ليملأ الآخرين.
طوبى لها من آمنت، إن كلمة الله لها ستتم: إن ترجمة هذه الآية قد وجدت اختلافاً بين الشرّاح، إذ يمكن فهمها من ناحية السبب: "طوبى لها من أمنت لأنّ كلمة الله لها ستتم" وبالتالي يصبح إتمام وعد الله لها يرتبط بإيمانها، ويمكن فهمها بمعنى أن تمام وعد الله هو سبب طوبى مريم وفرحها، وبالتالي تصبح الترجمة: "طوبى لها من آمنت إن وعد الله لها سيتمّ". مهما كان المعنى المقصود، فهو يوصلنا الى نتيجة واحدة: إن إيماننا هو الّذي يجعلنا نحافظ على وجود الله في حياتنا ويقوّينا لنحافظ عليه، ومن ناحية أخرى، أن كلمة الله في حياتنا هي التي تعطينا الطوبى، أي السعادة الحقة، وتعطي وجودنا معناه العميق.
إن حدث الزيارة هو مثال لكلّ مؤمن، وهوصورة عن اختبارنا الشخصيّ مع الرّب. نسمع كلمة الرّب ونقبل مخطّطه في حياتنا، فننطلق الى الخدمة: لا إيمان دون أعمال، فالأعمال هي تجسيد لإيماننا تماماً كما كان المسيح تجسّد لإرادة الله المخلّصة.
لا إيمان دون عمل الروح، فالروح القدس هو الّذي يجعلنا نميّز إرادة الله في حياتنا، هو الّذي يملأ أقصى رغباتنا كما ملأ حشا أليصابات وجعلها تثمر بعد عقم طويل.
لا إيمان دون فرح، فالفرح يميّز وجودنا كمؤمنين بالمسيح. لا مكان للحزن في إيماننا، فالمسيح جاء ليعطينا الفرح، وليكون فرحنا كاملاً كما يقول المسيح في إنجيل يوحنا. هو ليس فرح من لا همّ له ولا مصاعب، بل هو فرح يخرج من الرجاء المسيحيّ نفسه، نتألّم، نُجرح، نجرّب، نجاهد، بقلب يملأه الفرح، لأنّنا نعلم أن الرّب لن يخذلنا، فهو دوماً حاضر في حياتنا.
لا إيمان دون شهادة، ليس بالأعمال فقط، بل بالإعلان، كما أعلنت اليصابات عمّا حصل معها بسبب حضور الرّب الى بيتها والى حياتها. هذه الشهادة هي حالة صلاة دائمة نحياها، نشهد من خلالها للآخرين عن معجزات الرّب التي أتممها في تاريخنا الشخصيّ وفي حياتنا.
يبقى هذا الإنجيل إنجيل الشهادة للحياة، ولقيمة الحياة منذ لحظة تكوّنها الى لحظة انتقالها الطبيعي الى بيت الآب. نجد هنا الجنين والصبيّة والعجوز، كلّهم يتساوون في القيمة، كلّهم أحياء، موجودون، يحقّقون دورهم: لقد شهد الجنين لوجود الرّب قبل أن يولد، وشهدت العجوز لأعاجيب الرّب في حياتها، والبتول قد حملت الرّب الجنين وانتقلت به الى الآخرين. هي قيمة الحياة تتجلّى كقيمة مطلقة لا يحقّ لأحد المساس بها، فهو كائن، مخلوق على صورة الله، ابن لله، ذو قيمة مطلقة ويحمل معه مخطّطات الرّب الخلاصيّة. هل كان من الممكن أن تجهض اليصابات يوحنّا؟ هل كان ممكناً أن تجهض مريم يسوع؟ هل يحقّ لنا أن نجهض إرادة الله في حياتنا؟