أحد بشارة زكريا
يفتتح لوقا إنجيله بطريقة مميّزة تختلف عن الإنجيليّين الآخرين، فهو يهدي إنجيله الى "الشريف تيوفيلوس". يشرح له من أين استقى محتوى الإنجيل الّذي كتبه، الغاية من كتابته. هذه الإفتتاحيّة هي بغاية الأهميّة لنا اليوم: الشريف تيوفيلوس يمثّل كلّ واحد منّا، وثيوفيلوس إسم يونانيّ يعني "محبّ الله"، "صديق الله". ها الشخص هو ناطق باسم كلّ واحد يسعى الى صداقة الله والى محبّته، يقدر أن يجد في الإنجيل رسالة خلاص ووسيلة قداسة. والصفة التي يعطيها الإنجيليّ للقاريء هي "الشريف" آو "النبيل": هو المسيحيّ الّذي نال بواسطة المعموديّة الطهر من الخطيئة، وعاد الى علاقة الصداقة مع الله، دخل من جديد في عهد حبّ وبنوّة معه، وصار الإنجيل واسطة يقدر من خلالها أن يميّيز كم أن الله يحبّه، ويرغب بخلاصه.
(لوقا 1 /1-25)
بهذا المعنى نفهم أن الإنجيل هو ليس سيرة حياة يسوع، نقرأها كما نقرأ حياة قدّيس أو مذكّرات إنسان عظيم، بل هو رسالة حياة يوجّها الربّ الينا اليوم، ومن خلاله نقدر أن ندخل في علاقة من يسوع الحاضر من خلال الأنجيل والكنيسة والأسرار.
ما يجمع كلّ واحد منّا نحن مع لوقا الأنجيليّ هو أنّنا، مثل لوقا، لم نتعرّف على المسيح التاريخيّ، فلوقا لم يكن من تلاميذ السيّد، لم يسمع كلامه شخصيّاً، وبالرغم من هذا فقد صار التلميذ الأمين، يحفظ كلمة الرّب ويحفظها في قلبه، ويبشّر بها الآخرين.
ولكن كيف يمكننا أن نصدّق إنجيل شخص لم يتعرّف الى المسيح شخصيّاً؟ هذا ما يوضحه لوقا في مقدّمة الإنجيل: "كَمَا سَلَّمَها إِلَيْنَا مَنْ كَانُوا مُنْذُ البَدْءِ شُهُودَ عِيَانٍ لِلْكَلِمَة، ثُمَّ صَارُوا خُدَّامًا لَهَا"، هذا هو دور الكنيسة الوفيّة لتعليم سيّدها، حافظت على كلمته وتناقلتها من جيل الى جيل، كما تسلّمتها من الّذين كانوا، منذ البدء، شهود عيان للكلمة، أي الرسل الّذين اختبروا الحياة مع السيّد، عرفوا إرادته في حياتهم وفي حياة كلّ إنسان، وسلّموها بأمانة الى خلفائهم. هو ما ندعوه "التقليد الرسوليّ المقدّس"، تقليداً تناقل كلمة السيّد وتعليمه عبر العصور والأجيال، وحافظ بأمانة على إنجيله، ليصل الينا نحن اليوم أيضاً. لوقا لم يعرف المسيح بالجسد، وبالرغم من هذا كتب الإنجيل، واثقاً بهذا التقليد الرسوليّ، فالروح القدس هو الّذي يعطي الكنيسة نعمة الوفاء لتعليم الرّب عبر الأجيال، وهو ضمانة حضور الرّب معنا اليوم من خلال الكلمة ومن خلال التقليد. ليس للرسل الّذين عرفوا المسيح أية أفضليّة، فهم سمعوا كلمات الرّب ونحن نسمعها اليوم مثلهم، يوحنّا سمع ولمس وعاين، فكتب أنجيله، ولوقا لم يعاين الرّب، ولم يسمعه بالأذُن اللّحميّة، ولم يضع إصبعه في جنب المسيح القائم، ولكنه رأى ولمس وسمع من خلال اختبار الكنيسة، إختبار لا يقلّ قيمة عن اختبار الرسل أنفسهم.
كَانَ في أَيَّامِ هِيرُودُس، مَلِكِ اليَهُودِيَّة، كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا، مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، لهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ اسْمُها إِليصَابَات:
يبدأ لوقا إنجيله في هيكل أورشليم ويختتمه في الهيكل إذ ينهي روايات ظهورات الرّب القائم بقوله: وكانوا كل حين في الهيكل يباركون الله (لو ٢٤، ٥٣). إختيار لوقا لهيكل أورشليم كبداية أحداث إنجيله ونهايته ينطوي على دلالة لاهوتيّة أساسيّة لفهم هذا الإنجيل، فلوقا لا يأخذ رواياتي البشارة لزكريّا ولمريم كحدث منفصل في التاريخ، بل يشدّد على أن تاريخ الكنيسة الّذي بدأ يتكوّن من خلال هذه البشارة هو تاريخ مرتبط بتاريخ شعب الله وبالعهد الّذي قطعه الله مع إسرائيل، وثبّته بالأنبياء والمُرسلين، وفي ملء الزمن، أرسل الله ابنه ليقطع مع الشعب عهداً أبديّاً بدم الإبن الّذي سوف يراق في أورشليم. لا يمكننا أن نفهم بشرى التجسّد إذا ما فصلناها عن مستقبل هذا الطفل الّذي يبشّر به الملاك، أي عن ضرورة موته في أورشليم تكفيراً عن خطايانا كلّنا.
منذ الآيات الأولى يبدأ لوقا بالتشديد على هذه الحقيقة بطريقة غير مباشرة، من خلال افتتاحه لإناجيل البشارة في مدينة أورشليم، وفي الهيكل الّذي سوف يكفّ عمله، لأنّ الهيكل الحقيقيّ، الهيكل الّذي حلّت فيه ملء الألوهة، قد تجسّد ليكون هو ذاته التقدمة الطاهرة والمقبولة لدى الله عن كلّ واحد منّا. لذلك يعطي لوقا نصّ البشارة هذا بعداً يرتبط بالعهد القديم، فنجد تعابيراً مشتركة بين هذا النّص وسفر التكوين، وتحديداً حين أرسل الله ملاكه يبشّر إبراهيم بحبل قريب لسارة زوجته. الى جانب التعابير المشتركة، نجد التصميم ذاته: إبراهيم وسارة قد طعنا بالسنّ، والملاك يأتي كمرسل من لدن الرّب يعلن لإبراهيم ولادة إسحق، الإبن الّذي يجسّد تحقيق وعود الله لإبراهيم بأنّه سوف يكون أباً للشعب الّذي يقيم معه الرّب العهد، إي الشعب الذّي يأخذ وظيفة إعلان إرادة الله في العالم. إبراهيم سوف يقول لملاك الله: "أيولد ولد لابن مئة سنة؟ أم سارة تلد وهي ابنة تسعين سنة؟" (تك ١٧، ١٧). هذا التشابه بين النّصين قد قصد به لوقا تعليم القاريء أن ما يحدث مع زكريّا في هيكل أورشليم هو استمراريّة لعمل الله الخلاصيّ، فولادة يوحنّا هي إعلان مسبق لمجيء المخلّص، كما كان إسحق إعلاناً مسبقاً لمجيء داود الملك، الّذي من نسله يأتي المسيح يملك على عرش داود الى الأبد، مسيح الحبّ والسلام.
بشارة الملاك لزكريّا هي محطّة جديدة في تاريخ الله مع شعبه، مع كلّ واحد منّا، يقول لنا أنّه لم يملّ ولن يملّ من محاولة إنهاضنا من جديد بالرغم من خياناتنا المتكرّرة. يدخل حياتنا ويحوّل عقمنا الى حياة، لأنّه القادر علي إعطائنا الحياة.
يجدر بنا التنبّه الى أسماء الشخصيّات الأساسيّة، فالإسم في الكتاب المقدّس هو ليس فقط وسيلة تميّز وتعرّف على حامل الإسم، بل ينطوي على مشروع حياة: إبراهيم يعني أب الجموع، موسى يعني المُنتشَل من المياه وهو الّذي ينتشل الشعب من عبوديّة المصريّين، بطرس هو الإسم الّذي أعطاه الرّب لسمعان ليعلن من خلاله مخطّط الله في حياة صيّاد الجليل، يسوع يعني الله يخلّص، وهو الإسم- الهويّة للطفل الّذي سوف يولد من مريم ليخلّص شعبه... الإسم هو إذاً مشروع حياة يُعطى لشخص اختاره الله ليكون مشاركاً في مخطّطه الخلاصيّ.
والأسماء في هذا النّص تعبّر عن المشروع الإلهيّ: زكريّا، أي الله يتذكّر، هي علامة وفاء الله لشعبه واعتنائه بخلاصه، هو الله الحاضر دوماً في حياتنا، لا ينسانا ولا يتركنا، يهيّء لنا الخلاص حتى لحظة نظنّ أنّنا قد "طعنّا في السنّ" مثل زكريّا، أي أن حياتنا قد مرّت دون معنى ولا هدف. الله لا ينسانا مطلقاً، يل يعمل في لحظة لا نتوقّعها، لأنّه يعلم ما هو الأفضل لنا.
أليصابات: الله قد أقسم. لقد أقسم الله لنوح بعد الطوفان أنّه لن يعود يدمّر الأرض مرّة أخرى، رغم الخطيئة التي سوف يقترفها كلّ واحد منّا، ورغم خياناتنا المتكرّرة لله ولعهده. "أقسم الله" هو اسم يشير الى عظمة صبر الله وطول أناته، فهو يصبر، يغفر وينتظر. لقد أقسم الله عبر إبراهيم أن شعبه سوف يكون مثل عدد رمل البحر، أي أنّه سوف يشرك الأمم كلّها في خلاصه. لقد أقسم الله أن شعبه سوف يكون كاهناً الى الأبد على رتبة ملكيصادق، أي إنّه سوف يقيم شعبه وكيل خلاص للشعوب بإسرها، ويجعل منه وسيلة قداسة للكون وللبشريّة.
يوحنّا: الله تحنّن، هو اسم المولود يجسّد حنان الله نحونا، يحبّنا ويعمل على خلاصنا. الله هو ليس إله العقاب والغضب، بل يتجلّى لشعبه من خلال يوحنّا إله الحنان والرحمة. البشارة بولادة يوحنّا هي علامة إضافيّة لحبّ الله لكلّ واحد منّا، فهو الرحمة المتجلّية لنا، ولكنّه أيضاً الرحمة التي لا بدّ أن تتجلّى من خلالنا لكلّ من يحتاج للشعور برحمة الله وبحبّه في حياته. هي دعوة لنا لنتحوّل الى علامة حيّة للرحمة التي أظهرها الله لنا، رغم عدم استحقاقنا.
جبرائيل: في الكتاب المقدّس، الملاك يمثّل حضور الله نفسه في حياة الإنسان. جبرائيل يعني "قوّة الله"، قوّة تتجلّى في حياتنا، حين نشعر أنّنا فاشلون، وأنّ حياتنا، مثل حياة زكريّا واليصابات، قد مرّت دون معنى، ودون ثمار. جبرائيل هو حضور الله الى جانبنا يقوّينا، يعطي حياتنا معنى، يحوّل عجَزنا الى شباب وعقمنا يثمر خلاصاً وحياة وسعادة.
قصّة زكريّا واليصابات تشبه قصّة ابراهيم وسارة، إسحق ورفقا، يعقوب وراحيل، القانة وحنّة، كلّهم اختبروا العقم في حياتهم، فقدوا الأمل بثمرة حبّهم، شعروا بضعفهم، بفشلهم، بمحدوديّتهم، وبحاجتهم الى حضور الله يقويّهم. وحين كفّوا عن التفتيش عن خلاصهم بقوّتهم الخاصّة اعترفوا بحاجتهم الى تدخّل الله، لأن قوّة الله وحدها، "جبرائيل"، تقدر على إعطائهم معنى لحياتهم.
وكَانَا كِلاهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ الله، سَالِكَيْنِ في جَمِيعِ وصَايَا الرَبّ وأَحْكَامِه بِلا لَوْم
لم يضرب الله الزوجين بالعقم بسبب خطيئة اقترفاها، فالله هو ربّ الحنان، هو أب والأب لا يضرب أولادهم ولا يجعلهم يحيون العقم، لا يمكن لإله المحبّة أن يجعل اولاده يحيون شعور الفشل القاتل، ويُفرغ حياتهم من معناها. ولكنّها كانت قناعة المجتمع كلّها، يظنّون أن العقم هو عقوبة الهيّة. قد يمكن أن نفهم عقليّة أشخاص عاشوا في الماضي، ولكنّ السنا مثلهم نحن اليوم؟ كم من المرّات ننظر الى الله كإله قاس، نخاف منه، نخشاه، علاقتنا به هي علاقة العبد مع سيّده لا علاقة الإبن بأبيه. نشوّه كلّ يوم صورة إله المحبّة، ونحوّل علاقتنا به الى علاقة رعب، فتصير روحانيّتنا وسواساً، وصلاتنا فرضاً، والتزامنا واجباً. كم نتصرّف مثل جيران اليصابات حين ننظر الى الآخرين بفوقيّة، نرى في ضعفهم خطيئة، ندينهم، نحتقرهم، نهمّشهم، نرفضهم أو نتكلّم عنهم. وننسى أن كلّ إنسان هو مشروع خلاص إلهيّ، يدخل الله حياتهم في لحظة لا أحد يتوقّعها، كما دخل في حياة اليصابات فحوّلها من حياة عقم وألم، الى حياة فرح بالثمرة التي أعطتها، ثمرة سوف تكون صوتاً يسبق الكلمة، صوتاً يصرخ في العالم، ويعلن أن قد اقترب تجسّد الكلمة. فهل نقدر أن نرى هذا ممكناً في حياة من نحتقرهم كلّ يوم؟
فَاضْطَرَبَ زَكَرِيَّا حِينَ رَآه، واسْتَولَى عَلَيْهِ الـخَوف. فقَالَ لهُ الـمَلاك: "لا تَخَفْ، يَا زَكَرِيَّا، فَقَدِ اسْتُجيبَتْ طِلْبَتُكَ
لقد قضى زكريّا حياته يطلب، يصلّي ويتضرّع، وحين حلّت لحظة استجابة صلاته، اضطرب وامتلأ قلبه خوفاً. لم ينقص زكريّا الإيمان النظريّ، فقد كان يعلم أن الله موجود، وكان يؤمن بعمله في تاريخ شعبه. ما كان ينقص في زكريّا هو الإيمان بعمل الله في حياة هو. لقد آمن الكاهن طوال سني حياته باله عظيم، عالٍ، محجوب عن أنظار البشر، فكان لا بدّ من لحظة دخوله قدس الأقداس ليعلم أن الله يدعوه الى علاقة تتخطّي الإيمان النظريّ والجماعيّ، الله يريد من زكريّا الإيمان باله يدخل في علاقة شخصيّة معه، علاقة أب بابنه، علاقة صديق بصديقه، علاقة حبّ لا تنتهي. لقد تجلّت رحمة الله في حياة زكريّا، رحمة طالما طلبها زكريّا، صلاة كان يردّدها قبل لحظات مع تقديم البخور: "لتقم صلاتي كالبخور أمامك، ورفع يديّ كتقدمة المساء". وحين استجاب الله، خاف الشيخ، لم يكن يتوقّع أن يدخل الله في حياته، خاف من ضعفه ومن عدم استحقاقه، خاف من نواقصه، فكان جواب الله له: "لا تخف". كلمة سمعها فاطمئن قلبه، كما سمعها قبله إبراهيم (تك ١٥، ١) ويشوع بن نون (يش ١، ٩)، وأشعيا (أش ٤١، ١. ٤)، وسوف يسمعها التلاميذ تخرج من فم الرّب القائم. هي كلمة يجب أن نسمعها نحن أيضاً، حين يلمس الرّب قلبنا، ويظهر عظمته في حياتنا من خلال الأحداث اليوميّة. يطلب الله منّا، كما طلب من زكريّا، أن لا نخاف حضوره في حياتنا، فهو لم يأت ليحرم قلبنا الفرح، ولا ليحّطم أحلامنا ومشاريعنا، بل يدخل حياتنا ليعطينا ملء الحياة، ليعطي وجودنا معنى، ويحوّل عقم وجودنا الى حياة وفرح ورجاء.
هذه البشارة اليوم هي كلمة الله لكلّ واحد منّا: نحن زكريّا، يدعونا الله أن نؤمن، وأن ندخل في علاقة شخصيّة معه، أن نحوّل صلاتنا من مجرّد واجب وعادة الى لقاء حبّ وثقة.
نحن اليصابات، يقول لنا الرّب أنّه قادر على تحويل واقعنا من واقع يأس وموت الى واقع حياة ورجاء. الله يقدر على إعطاء رحمنا الرّوحيّ جنين قداسة، ويقدر على تحويل شيخوختنا من حالة تعب يسبق الموت الى حالة رجاء ومصدر حياة ورجاء لنا وللآخرين.
نحن يوحنا أيضاً، يرسل الله علامة رجاء وأمل للآخرين كما أرسل يوحنا الى حياة العجوزين فبدّل واقعهما. يدعونا اليوم الى حمل رسالة فرح وتشجيع لكلّ من نلتقي به ومن يضعه الرّب على درب حياتنا. يدعونا لنتجسّد في حياة الآخرين كيوحنّا آخر، كيوحنا السابق للمسيح، يأتي ليعدّ له الطريق، ويدعونا لنهييّء الآخرين لقبول المسيح في حياتهم.
هي دعوة لنا لنثق بالله، ونحمله في حياتنا، ليعلم الجميع، من خلال شهادة حياتنا ووفائنا، أن الله حاضر، وأنّه لا يزال يعمل.