الأحد السابع من زمن الصليب
كم هو مختلف هذا المجيء المسيحاني عن مجيء يسوع الاول المحتجب والفقير في مغارة بيت لحم. المجيء الآخر لن يكون ليضع الانسان امام خيارين: قبول المسيح او رفضه. هذا الخيار قد حققه المجيء الأول: فالمسيح تجسّد وبشّر ودعا اليه التلاميذ لينقلوا البشارة الى العالم كله، وتألم ومات وقبر وقام، واعطى الروح القدس لتلاميذه وبالروح اوحيت الكتب المقدسة: بهذا كله ترك المسيح لكل واحد منا مجال الاختيار: قبول المسيح أو رفضه. لا يمكننا ان نقول اننا لم نقابل المسيح تاريخياً وبالتالي فلا ذنب علينا، فالكتاب المقدس، وبخاصة العهد الجديد، هو كلام الله المباشر لكل منا: إن قبلناه نلنا الحياة، وأن لم نقبله ندان بحسب خيارنا.
(متى 25: 31 - 46)
متى جاء ابن الانسان... يجلس على عرشه... حينئذ يقول الملك: نرى الانتقال في التعبير في "انسان" و"ابن الانسان" الى صفات "الملوكية"، هو المسيح الديان، هو المسيح الاله- الانسان، المسيح الذي تعلّم عنه الكنيسة" اله واحد، اقنوم واحد، ذو طبيعتين كاملتين، واحدة الهية واخرى انسانية، دون انفصام ولا امتزاج".
هي الحالة الانسانية التي ارتقت بالمسيح كلمة الله المتجسد، الى اسمى المراتب التي دعيت اليها: التأله. دعوتنا الانسانية هي ان نشترك في الحياة الالهية التي نلناها بالتبني (غل 4)، وكما ان المسيح الديّان هو ابن الانسان، لأن انسانيته لم تكن قناعاً لبسه المسيح ليحجب ألوهته، بل أخذ جسماً حقيقياً من مريم العذراء، هكذا الجسد لا يعود الى العدم، وانسانيتنا نحن ايضا، من خلال المسيح، لا يمكنها ان تعود الى العدم، بل تَمثُل امام "منبر ابن الانسان" لتأخذ جزاء خيارها واعمالها الحرة، اما الاشتراك بالحياة الالهية، وهي الحياة الأبدية والنعيم الأسمى، وأما الانفصال عن الله، مصدر حياتنا ووجودنا وقمة سعادتنا، وهو الموت الأبدي والعذاب الجهنمي.
هو ليس عملاً انتقامياً من الله، فالله آب، والله محبة، ولا ينتقم اذ لا يدخله الشرّ، عذابنا الابدي هو النتيجة النهائية لخيارنا الحر، اذا اخترنا الانفصال نصل الى الموت.
وتُجمع لديه جميع الأمم:
كلمة "أمم" تعني عادة في الكتاب المقدس ليس فقط شعب اسرائيل، او ابناء الكنيسة laos(الشعب)، انما تشمل ايضا الذي حكم خارج حدود شعب الله المختار في اسرائيل القديمة، الشعوب الاخرى الوثنية، او الذين هم خارج شعب الله الجديد، اي الكنيسة. ان الدينونة هي عمل الملك الالهي، ومملكته تشمل كل قبيلة وعرق وشعب وأمة.
دعوة الله ليست حكراً على شعب معين، وحين اختار الله له شعبا في العهد القديم، لم يكن هذا الاختيار تفضيلياً، فاسرائيل ليست افضل من كنعان ولا من آرام، العبرانيين لم يكونوا اسمى من المصريين ولا من الحثيين او من الفينيقيين... لقد دعا الله له شعباً ليعلن اسمه في الشعوب كلها: "لتعترف لك الشعوب يا الله، لتعترف لك الشعوب اجمع" (مز67، 6)، وفي العهد الجديد دعا المسيح الكنيسة لتعلن انجيل الخلاص الى كل الأمم. اختيار اسرائيل، كما اختيار التلاميذ، لم يكن تفضيليا، انما اختار الله الأضعف ليخزي الاقوياء ويعلن قوّته وسموّه فوق آلهة الشعوب الاخرى الأكثر قوة عسكريّا، والأكثر تقدّماً وعلماً، واختيار الصيّادين كان ليعلن للعالم كله ان قوة الله هي التي تعمل من خلال ضعفنا البشري.
لذلك فكل الامم تُجمع امام المسيح الديّان، لأن كل الأمم مدعوة الى الخلاص، وكل انسان سوف يُدان على ما فعله وبحسب ما عرف وعلم، الخلاص ليس حكراً على المسيحيين، فالذين عندهم الناموس، فبالناموس يدانون والذين هم بلا ناموس فسوف يدانون بحسب الشريعة المكتوبة في قلوبهم "وهم وإن كانوا بلا ناموس، فهم ناموس لأنفسهم، وهم يبرهنون ان الناموس مكتوب في قلوبهم، وضمير يشهد، يوم يدين الله بيسوع المسيح خفايا البشر" (روم 2، 14-15).
الكل بالمسيح يخلص، والكل بالمسيح يدان، فان كان الخلاص اعطي للعالم بواسطة المسيح، فالكل يخلص فقط من خلال المسيح، اذا عمل بحسب الشريعة المكتوبة في قلوبهم.
فيميّز بعضهم عن بعض كما يميّز الراعي الخراف عن الجداء ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره:
لماذا الخراف والجداء؟ في فلسطين القديمة كانت تتم رعاية القطيع مؤلفا من خراف وجداء، فلا تفصل الا عند المساء، فالجداء تحتاج لدفء اكثر من الخراف، ولذلك كانت توضع في مكان مُقفل، من الطبيعي ان يكون مظلما، اما الخراف فكانت تترك في العراء، انما تحت حماية الرعاة المشدّدة (كما الرعاة الساهرون على قطعانهم حين بشّرهم الملائكة بولادة المسيح في لو 2، 8). وفي المقابل لقد كانت الخراف اكثر قيمة من الجداء بسبب ثمنها المرتفع وبسبب تعدد استعمال لحمها وصوفها. لذلك فقد كانت تراقب بشدة في هجمة الذئاب رغم انها كانت تُترك في المرعى.
كل هذه العناصر اصبحت اشارات رمزية: القطيع يبقى مجتمعاً طيلة النهار كما الانسان لا يميز في نهار الحياة بين بار وخاطىء، وفي المساء، مساء الحياة يُفصل الجداء عن الخراف، الأبرار عن الاشرار، فيوضع الجداء – الاشرار في المكان المقفل المظلم، بينما تترك الخراف – الابرار في المرعى، رمز الملكوت (مراع خصيبة يقيلني، عصاك وعكازك تعزياتي، عصا الراعي تدل على وجوده قرب الخراف، بصوت العصا على الارض يتشجع القطيع لأنه يعرف كيف يتجه، وان الراعي – المسيح (انا الراعي الصالح يو 6) موجود معه، وهذا الصوت نفسه يخيف الذئاب فتبتعد: هي حالة الملكوت).
الخراف الى اليمين والجداء الى اليسار:
هما اتجاهان رمزيان يعنيان إمّا:
- اليمين علامة جلوس الشخص الاكثر اهمية بعد الملك: (ووضع عرشا للملكة عن يمين الملك 1ملوك 2، 19، قال الرب لربي اجلس عن يميني [مز 110، 41].
- اليمين نسبة الى يد الله اليمنى معدد:
- الفرح: فرح دفاق هو حضورك، ولذة من يمينك الى الابد مز 11، 16.
- الخلاص للأبرار: خلص مختاريك، واجعل خلاصا بمينك مز 108، 7
- البركة التي تعطى لمن اختارهم الآب: تك 48، 14
بينما اليسار هو رمزيا المكان المعد لمن لا مكانة له.
- ويقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي ابي رثوا الملكوت المعد لكم منذ انشاء العالم. لقد تكلما سابقا عن انتقال متى اللغوي من "ابن الانسان" الى "الملك" و"العرش" والبعد الانتروبولوجي والكريستولوجي لهذا الانتقال اللغوي. انما ما يجب ان ننوه به هنا فهو استعمال معنى كلمة "ملك" في كلامه عن يسوع:
في انجيل الطفولة يستعمل متى كلمة "ملك" ويضعها على فم المجوس الوثنيين الآتين من الشرق، على الارجح من بلاد فارس، اي ايران الحالية. انما هذا اللقب جوبه بالرفض من قبل هيرودوس لذلك اراد الغاءه: "ارسل فقتل كل طفل في بيت لحم". لم يفهم العالم معنى ملكوت المسيح، نظروا اليه من وجهة نظر سياسية، هيرودوس رآه خطرا على مملكته، وهو الخارج من عائلة تقاتل ابناءها على المملكة فأبادوا الواحد الآخر. وفي نهاية حياته على الارض، جوبه يسوع الملك بالرفض والسخرية "ضفروا اكليلا من شوك، جعلوا قصبة في يمناه وجثوا امامه يسخرون منه ويقولون: سلام، يا ملك اليهود" (متى 27، 29).
انما في المجيء الاخير، يقول متى ضمنيا، لن يكون هناك مجال للرفض، فالمسيح سوف يعتلن لكل كائن كملك حقيقي وديان البشر، له تجثو كل ركبة ويسبّح كل لسان. مجيء المسيح الثاني سوف يكون بقوة الدينونة لا يضعف المزود ووهن الجسد المتألم.
تعالوا يا مباركي ابي:
المسيح الكلمة، به كان كل شيء. ومن دونه ما كان شيء مما كان يقول يوحنا (يو 1)، هو وسيلة الخلق، اذ كان على فم الله حين قال: ليكن، لأنه الكلمة، وكان في يد الله حين خلق، لأنه هو الفعل logos . هو الذي نال لنا التبني لأننا افتدينا بدمه ونلنا حالة البنوة كما يقول بولس (غل 4)، لذلك فالمسيح هو مقياس الدخول الى ملكوت الآب، به كان الخلاص، وبه ندخل الى السماء.
رثوا ملك السماء:
لا يستعمل متى عبارة شاركوا في ملك السماء، او اسكنوا في الملكوت، انما يقول: رثوا، اي خذوا ما كان للاب كمُلك لكم. الا يعني هذا ان الآب قد مات لكي يرث الابن؟ قد ندخل هنا في جدل طويل حول موت الآب، الضابط الكل والقادر على اعادة كل خاطىء الى العدم، انما لم يفعل هذا، بل احتجب امام حرية الانسان، لم يفرض رغبته في ان يعود اليه كل خاطىء ويحيا، بل احترم قرار الانسان وخياره، فالانسان مخلوق على صورة الله، حر في اختيار مصيره، فما كان من الله ازاء هذه الحرية ان احتجب وترك للانسان حرية الاختيار، عاضداً اياه بالنعمة ليختار الحياة. لذلك قد يوافق متى في ناحية من النواحي FREUD و MARX القائلان بضرورة موت الله ليحيا الانسان، فالله قد احتجب وترك الانسان يقرر مصيره بحريته، فاما يختار المسيح الحياة او يرفض المسيح ويختار الموت. وباختيار الانسان للمسيح ولد الى حياة الابد وولد في الله، وملك مع الله كوريث للملكوت، وفي ولادة الانسان رغبة الله وفرحه. موت الله الكلمة، المسيح المتجسد، قد أهّل الانسان ايضاً ليكون وارثاً فالانسان، باستحقاقات المسيح، الابن الطبيعي للآب لأنه مولود منه ومساو له في الجوهر والطبيعة، قد اصبح وارثاً لله الآب، يشترك في حقوق الابن الطبيعية.
المعد لكم منذ انشاء العالم: ان مشاركة الانسان في الحياة الالهية هي غاية الله في خلقه على صورته ومثاله.
ان الله برحمته شاء خلق الانسان ليعطيه بالتبني الحياة الالهية، ورغم خطيئة الانسان الاصلية اعطاه الله الوعد بالخلاص من خلال نسل المرأة (تك 3)، وكلمة بالعهود والانبياء والمرسلين، ولما بلغ ملء الزمن، ارسل ابنه مولودا من امرأة (غل 4، 4) ليتاح للانسان العودة في مخطط الله الخلاصي له: التأله.
لنفهم هذه الآية علينا ان نقرأ سفر الامثال 8، 22-031 الحكمة، التي هي المسيح، الكائنة منذ الازل ومهندسة خلائق الله تتكلم، منذ الازل اقمت، من قبل انشاء العالم، هذه الحكمة الازلية تدعو الانسان الى سماع كلمة الله ليحيا. هي الحكمة الازلية التي ارادت خلاص الانسان واشراكه في ملكوت الله والحياة الالهية.
بالنسبة لليهود في زمن المسيح، هذه العبارة كانت تستعمل للكلام عن الادوات التي اعدها الله منذ البدء كخلاص للانسان: ان كان الله قد خطط لخلاصنا منذ البدء، فلا بد انه قد حضر، منذ الازل العدة لذلك: لذلك كانوا يعتقدون ان الله قد حضّر منذ الازل العمل الذي سوف يقوّم بدلاً عن اسحق، والمن السماوي الذي سوف يشبع جوع شعب الله في الصحراء، والمسيح الذي سوف يخلّص شعبه، والتوراة التي سوف تهدي الشعب الى طاعة الله وبالتالي الى الخلاص (1).
متى، اليهودي الاصل وابن بيئته، قد نشأ على هذه الافكار وبالتالي فهو يقول هنا ان الله قد حضّر منذ الازل لخلاصنا بواسطة مسيحه الذي يرسله، الحمل الذي يموت بدلا عن اسحق وعنا، والمن السماوي الذي ينجينا من الموت، وكلمة الله، التوراة الحية التي تعطينا الوصية الجديدة، وصية المحبة. ان ارادة الله في ان نشترك في الحياة الالهية، لا بد انها سابقة لخطيئتنا، وتجسد المسيح كان ضرورياً لذلك.
لأنني كنت جائعا فأطعمتموني:
الفعل اليونانيّ المستعمل هنا جاع يستعمل لحالة الجوع بسبب الحاجة والفقر، وليس بسبب تأخر الطعام مثلا او اي سبب آخر. هو المرادف دوماً لحاجة ماسة لدى المحتاج، والنتيجة تكون الموت. هي ليست فقط مجرد عمل رحمة مع فقير لمساعدته على تخفيف حدة الجوع، بل هي اعطاء الحياة وانقاذ من الموت.
هي اعادة لما صنعه الله لشعبه في ما مضى: قات الله شعبه ووفّر له حاجته من الخبز، واعطاه المنّ من السماء في الصحراء وفي ملء الازمنة تجسد المسيح كلمة الله واعطى الانسان المن الجديد، الخبز المحيي جسده الحق والسري ليأكله فينال الحياة.
هي ليست فقط الحاجة الجسدية اذا، فالافخارستيا لا توفر لنا الزاد الجسدي، بل الطعام الروحي الذي يقينا من الموت الابدي ان كنا نستحقه، لذا لا يجب ان نفهم كلمات المسيح بأنها تتعلق باعطاء الخبز المادي للآخر لانقاذه من الموت، خبر الكلمة الموحاة، اي بشارة الانجيل ليحيا، وخبز الافخارستيا ليحيا الى الابد.
واجبنا كمسيحيين ليس بدافع الشفقة بل بدافع المحبة، والمحبة تتأسس على العدالة، فخيرات الارض هي ملك للجميع، ولا يحق لي، لا من واجب الشفقة، انما من واجب المحبة العادلة ان اشبع وأترك اخي جائعا، لأني عندها اكون سارقا لبخور الارض. ان المشاركة في الخبز، مشاركة الفقير، هي انقاذ لصورة الله ومثاله من الموت بسبب قلة العدالة، هي جريمة الانسان ضد الله الحاضر في الجائع، جريمة سببها احيانا الطمع واحيانا السياسة، وفي غالب الاحيان الجهل وعدم الاكتراث
ومسؤوليتي كمعمّد لا تصبح اقل ان كان هكذا الجوع روحياً، فواجبي الاول كمعمّد لبس المسيح واصبح مسيحاً آخر يشترك في كهنوت العماد العام، ان أقي الآخر من الموت الروحي كاسراً معه خبز الكلمة ومقدماً له حقيقة الافخارستيا، ليس بالكلام فقط، انما خاصة بتحوّلي امامه الى حقيقة افخارستية، الى حضور فعلي للمسيح، من خلال المحبة والخدمة والتضحية.
دعوتي هي ان احمي الانسان، كل الانسان، بكافة ابعاده من الموت، جسديا اولا، وروحيا خاصة، لا يمكن ان احمي الجسد من الموت واتركه يموت روحيا، والا اكون قد حفظت الجسد للموت الابدي، ولا يمكن ان اتغاضى عن الحاجة المادية بسر الحاجة الروحية، "اعطه الخبز اولا ليحيا، ثم بشّره".
كنت عطشاناً، فسقيتموني:
ما قلناه عن الخبز نقوله عن الشرب ايضا، وما قلناه عن الجوع نقوله عن العطش قد تكون العادة اليهودية الاصلية هي تقدمة الماء على الطرقات لأولئك الذين هم في حجّ نحو اورشليم، نحو هيكل الله المقدس، تحت وطأة حر فلسطين. اعطاء الماء لعطشان هو اعطاء القدرة على الاستمرار في مسيرة الحج نحو لقاء الآب، هو مساعدة الانسان، أخي في البنوة الالهية، على اكتشاف وجه الله وارادته في حياته. دون تقديم الماء – المساعدة لبعضنا البعض، لا يمكن ان نصل الى نهاية الحج.
هو واجب مادي طبعا، انما هي خاصة مسؤولية روحية ملقاة على عاتقنا، كلنا مسؤولون عن الآخر، لأننا نحيا في جماعة، وواجبنا الاقدس هو ان نجعل الآخر يكتشف الله، او بالاحرى نساعده على اكتشاف الله من خلال توفير الامكانات الاساسية:
من واجبي ككاهن ان اساعد على ولادة المسيح في نفوس المؤمنين من واجبي كزوج وزوجة ان اوفر دوما حضور الله في عائلتي وأكون قرب الشريك في طريقه نحو اكتشاف الله.
من واجبي كوالد ووالدة ان اعطي، ليس فقط ماء ماديا لابني، بل ايضا ماء الحياة الروحية، وان اسعى لأن تكون متوفرة. فابني في زيارة حج، يجب ان يكتشف البعد الروحي في حياته ويخلق علاقة صداقة مع المسيح، ومن مسؤولياتي ان اكون موجودا قربه على طريق الحياة، لأعطيه الماء ساعة يعطش، فأولد في حياته القوة والفرح من جديد. "انا عطشان" قالها المسيح على الصليب، حتى الله احتاج الى ان نعطيه الماء، انما هذه الماء يطلبها هو ليس لأجله بل لأجل الانسانية كلها الممثلة في جسده المتألم المعلّق على الصليب. "انا عطشان" هي صرخة الانسانية، وهي مسؤولية تلقى على عاتق كل منا، في ان نقدم "كأس الخلاص" لكل محتاج.
كنت غريبا فأويتموني:
الغريب في مجتمع اسرائيل كان يعاني من مشاكل جمة في حلوله في مدينة ما، فما من احد يثق بالغريب، وان كان فقيرا لا مال لديه ليحل في فندق كان عليه ان ينام في العراء معرضا لقساوة الطبيعة.
هذا الغريب الذي يتكلم عنه المسيح لا بد ان يكون فقيراً معرّضا للموت لأن لا مكان يُستقبل فيه. بالنسبة للمنطق المسيحي، البيت، مثل الخبز، يجب ان يكون في خدمة الانسان الآخر، ففي خطر الضياع لا بد ان يتحول بيتي الى مضافة لهذا الغريب. هذا التعليم يجد جذوره في تعاليم العهد القديم: في سفر ايوب نقرأ: "ما من غريب كان عليه ان ينام في الطريق، لأني شرّعت ابوابي للمسافرين" (31، 32) والعهد الجديد يشدد ايضا على اهمية ضيافة الغريب:
"لا تنسوا ضيافة الغرباء، فمنهم دون ان يعلم قد استضاف ملائكة" (عب 13، 2)، ومن مواصفات الارامل المقبولات لخدمة الكنيسة ضيافة الغرباء (طيم 5، 10).
انما اهمية الغريب تكمن في بعد الغربة الروحي، المسيحي هو المغترب في هذا العالم، في العالم انما ليس من العالم، "فنحن سفراء المسيح، كما لو ان الله يعظ بنا" (2 قور 5، 20) وان كان المسيحي سفيراً، فلا بد ان ينتسب الى مملكة الملك الذي ارسله.
الكنيسة ايضاً غريبة عن هذا العالم، وبالتالي فللذي يقبلها في بيته اجرا في السماء، لذلك يسمي بولس غايوس "مضيفي ومضيف الكنيسة كلها" (روم 16، 23) ويستعمل كلمة "غريبي" ليقول مضيفي. غايوس قد استضاف بولس والكنيسة المحلية في بيته للصلاة وكسر الخبز، فأصبح غايوس مضيف الكنيسة كلها. اذاً فحتى من الناحية الليتورجية، اضافة الغريب هي ايضا اضافة الكنيسة كلها، اي اضافة المسيح نفسه من خلال قبول جسده السري "الكنيسة كلها" في بيته، اي في حياته الخاصة وفي تاريخه.
وهذه الحقيقة تبرز اكثر من خلال الفعل "آوى" (sunagein)الذي يترجم "جمع معاً" الذي لا بد ان يكون ترجمة knash الآرامي، جمع، وهو ذو استعمال ليتورجي وكنسي. لم يقل استقبل انما جمع ليعطي طابعاً كنسياً وليتورجيا ايضا، هي قبول حقيقة الكنيسة المغتربة في واقع حياته، وبالتالي قبول كونه هو ايضا غريبا عن منطق العالم الحاضر، وايمانه بالحقيقة التي اعلنها المسيح: ملكوتنا ليس من هذا العالم". حقيقة رفضها من رفض المسيح الملك كما قلنا سابقا.
وعرياناً فكسوتموني:
ان فكرة الجسد العاري ما بعد خطيئة آدم وحواء يختلف عن المنطق الحسن الذي كان يمتاز به قبل الخطيئة. فصورة الانسان العاري اصبحت رمزا للطبيعة البشرية المهدد وجسدها دوما والمحتاجة الى نعمة الله ومساعدة الجماعة لتحيا. في ايوب نرى ان العراء هو رمز لضعف الانسان امام الموت: عرياناً خرجت من جوف امي وعريانا اعود" (ايوب 1، 21).
- من الناحية الاجتماعية يمثّل العري حالة من الفقر المدقع مادياً وروحيا، فالرداء يدل على مستوى صاحبه، واعطاء الرداء لأحد آخر يمثل اسمى تعبير للصداقة وللدخول في عهد مع الموهوب اليه (اصم 18، 2-3، 1 ملوك 19، 19).
- هو دخول في عهد حب وزواج، مبسط ذيل الحداء على الامرأة يعني الزواج منها (تت 23، 1). اعطاء الثوب لعار هو اذاً اكثر بكثير من مجرد عمل خير شفقة، هو الدخول في عهد معه، اي الدخول في علاقة محبة عميقة مع الآخر. نحن سوف نُدان على المحبة، والمحبة ليست الشفقة بل هي محبة المسيح لشعبه الذي دخل في عهد حب معه، لذلك "فمن طلب ثوبك فاعطه رداءك ايضا" يقول المسيح لتلاميذه.
- الثوب هو ايضا من علامات حضور الله في حياة الانسان، لذلك قطع يعقوب نذراً قائلا: "ان كان الله معي في الرحلة التي اقوم بها، واعطاني الخبز لآكل والثوب لألبس..." (مك 28، 20).
لم يستعمل متى فعل ballein لبس، بل فعل periballein ذا المعنى الاعمق، فمن ناحية الجذر اللغوي نرى الفعل يتألف من peri: "حول" و ballein: "وضع"، "رمى". وبالتالي فالمعنى يكون وضع حول، جلبب، وهو فعل يُستعمل في إطار مجد وعظمة (رؤ 19، 8؛ لو 23، 11 يسوع الملك المتألّم، مر 16، 5 الملاك في قبر يسوع القائم من الموت). هو الفعل الذي استعمله اشعيا (58، 7) ليصف عمل الرحمة الذي يعطي صاحبه الحياة الابدية، الصوم الحقيقي الذي يرضي الله، وحزقيال ايضا في المعنى ذاته (خر 18، 7)، ويعقوب فينذره (تك 28، 20).
الباس العاري هو اذاً اعادة الاعتبار الى الانسان، اعطاءه الحياة من جديد، الباسه الكرامة الاهلية التي يملكها الانسان باعتباره ابناً لله.
ومريضاً فزرتموني:
المزمور 38 يلخّص نظرة المجتمع اليهودي الى المريض، هو الخاطىء المضروب من الله، والمنبوذ من جماعة اسرائيل، حتى من يعدّون اقارب واصدقاء تركوه وحيدا.
المرض هو مقدمة لموت بالنسبة للانسان، لأن المرض هو فرصة تأمل في الموت الذي لا بد انه يقترب. ألم الحدث هذا يضاف اليه الم موت من نوع آخر، موت العزلة. المريض وحيدا يعاني من صمت يشبه صمت القبر، صمت مثوى الاموات.
زيارة المريض هو ايضا اعطاءه الحياة، اخراجه من صمت القبر ومن وحدة العزلة. المسيح طلب من التلاميذ السهر معه لأن بدأ يعاني الم الموت مسبقا، هو موت الوحدة. وعلى الصليب يبدو المسيح كصاحب المزمور 38، متألم مجروح وقف الناظرون اليه بعيدا، وحده على الصليب.
كما ان المسيح كان جانبنا في ألمنا، لا بل حمل آلامنا معاً، كذلك دعوتنا تقضي علينا ان نعيد عمل المسيح، لا فقط ان نزور المريض بل ان نحدث عنه. هكذا هو عمل المسيح الآخر.
تحدث عنه ليس بالضرورة جسديا، انما بحمل آلامه، بمشاركته اوجاعه، بعدم تهميشه. بزيارة المريض، نحن نعيده الى وسط جماعة شعب الله، تقول له: انت لسنا خارجا، انت لست معزولا، انت في قلب الجماعة والجماعة تحمل معك آلامك. هو ايضا عمل اعطاء الحياة الى اخ يسوع الصغير، من خلال اخراجه من صمت قبر وحدته.
وسجيناً فجئتم اليّ:
ان السجن في منطق الجماعات الاولى لم يكن له نفس المعنى الذي عندنا اليوم، ولاسيما ان الانجيل قد كتب في ايام الاضطهاد، وكان المسيحيون يرمون في السجن كمرحلة اولى من طريق عذاب شاقة غالبا ما تنتهي بالاستشهاد.
مرحلة السجن كانت مرحلة انتقالية، وزيارة سجين كانت محفوفة بالمخاطر خاصة اذا كان السجين مسيحيا، لأن الزائر كان يخاطر بأن يسجن ايضا لأنه مسيحي. هو وضع مشابه لوضع المجتمعات التوتاليتارية او الديكتاتورية في عالمنا المعاصر. اذاً فكرنا مثلا بوضع الكنيسة الفرنسية بعد الثورة مباشرة، او بوضع الصين الحالية او عهود الظلم والالم التي طالت المسيحيين في الاتحاد السوفياتي السابق وبلدان شرق اوروبا. العدد الأكبر من المسيحيين لم يكن يجرؤ على المجاهرة بهويته فكم بالاحرى زيارة مسيحيّ مسجون (1).
هذه الدعوة هي للوقوف الى جانب من يتألم في سبيل المسيح، ليس مجرد زيارة لمجرم او جانح، انما هي ايضا انقاذ نفس من الموت اعطاء القوة لمن يُضطهد في سبيل ايمانه، ومساندته للحفاظ على القضية (الايمان) التي يحملها. زيارة السجين هي اخراج الانسان من سجن مادي وضعه فيه الانسان، يخرج منه بطريقة روحية ونفسية عن طريق وقوف الكنيسة الى جانبه.
هي تذكير بأن علينا ان نحمل اثقال بعضنا البعض، ولو كان الثمن المخاطر بحياتي وبحريتي.
وعلى النطاق الانساني كم من المرات نترك السجين وحيدا، ليس فقط السجين ماديا، انما خاصة من هو سجين معتقداته واهواءه وضعفه وخطيئته. سجين تقاليده الاجتماعية او تعصبه الاعمى. زيارة هذا النوع من السجناء يعني العمل على تحطيم كل القيود التي تعيق نمو الشخص البشري ونضجه، وهي مسؤولية كل معمّد مرسل ليعلن حرية ابناء الله.
ان كان بعض المسيحيين الاول تحاشوا زيارة اخوتهم خوفا من الدخول هم ايضا الى السجن، فنحن نتحاشى الالتزام بمشروع تحرير الانسان المعاصر خوفا من تقييد انفسنا بمستلزمات هذه العملية. تحرير الآخر يستوجب مني الالتزام والتضيحة وبذل الذات، وهي كلها سجون او قيود تقيّدنا عن راحة انسانية او جسدية او نفسية، ودعوتنا الحقيقية هي تحرير الانسان، كل انسان وكل الانسان، ولو استلزم الامر التضحية بحريتي الخاصة.
- فيجيب الابرار ويقولون... متى... متى... واتينا اليك؟
- فيجيب الاشرار ويقولون... متى رأيناك... ولم نخدمك؟
يجب ان نتنبه في مقارنتنا لجواب الفئتين الى أمرين اساسيين:
- شكل الجواب
- مضمون الجواب
في ما يتعلق بشكل الجواب نرى آل اليمين يعيدون حرفيا ما قاله السيد، بترداد قد يبدو للوهلة الاولى مملاًّ من الناحية الادبيّة، بينما نجد آل اليسار يرددون باختصار هذه الكلمات نفسها، ولا يكتفون باختصارها، انما يحرّفونها ايضا في سبيل مصلحتهم الخاصة.
بتردادهم الحرفي لكلمات المسيح، يقول متى ان الابرار كانوا يعلمون ماذا يفعلون، ولم يكونوا خائفين في مواجهة الحقيقة، لم يكونوا يخدمون لغاية خاصة، انما كان عملهم طبيعيا، فالمسيحي لا يعمل الخير رغبة في الوصول الى غاية، ولو كانت الغاية ملكوت السماء، بل يقومون بواجبهم لأنهم يحبون المسيح، ولأن حب المسيح اصبح طبيعيا في كيانهم، يقومون بالخير لأن الخير اصبح فيهم، ولأنهم قد لبسوا بالعماد المسيح، الخير الاعظم. انه حب مسيحي اسمى، ليس خوف العبد او الخادم، بل شجاعة الابن.
اما جواب آل اليسار فعمد متّى على اظهاره شديد الاختلاف عن جواب الابرار: هو سريع النمط، لا يرتكز على نمط متى... ولم، متى... ولم، بل متى... و... و...؟ هذا النمط السريع يعطي الانطباع الادبي بأن المتكلم يبتغي الاسراع هربا او تهربا. يقول متى بطريقة غير مباشرة ان الاشرار يخافون مواجهة حقيقتهم، فيسردون المشكلة ولا يذكرون الواجب الذي كان عليهم القيام به.
مضمون الجواب: انما ما يلفت هو انهم سردوا لائحة الحاجات كلها ولم يردّدوا لائحة الواجبات التي كان عليهم القيام بهاّ! هي ايضا طريقة غير مباشرة يقول من خلالها متى ان الاشرار علموا المشاكل، اي انهم كانوا يعلمون حاجة اخوتهم، هذه المعرفة عبّروا عنها من خلال السرد الدقيق لها، انما احجموا عن القيام على مداواتها، لذلك رفضوا ذكر ما وجب عليهم فعله. العنصر الوحيد الذي يقولونه "ولم نخدمك (diakonein) يستعلمون فعلا لم يستعمله يسوع، يستعملون فعلا مبهما "نخدمك"، واستعمالهم لهذا الفعل قد يُفهم ايضا بمعنى الخدمة الليتورجية والروحية. يستعملون ما لم يقله المسيح للهرب من الاقرار بما كان عليهم القيام به.
لقد عبّروا فقط عن استعدادهم "للخدمة" [وما خدمناك] لو انهم كانوا عرفوا حاجات المسيح. وقد تكون هذه الخدمة ليتورجية او روحية. لقد قصروا مساعدتهم للفقير على البعد الروحي او الليتورجي، وأهملوا الشق الجسدي والانساني العميق. علاقتهم مع السيد، على عكس علاقة الابرار، هي علاقة خوف وعبودية. الأبرار عملوا الخير دون مقابل، انما الأشرار اعلنوا عن استعدادهم "للخدمة" لو كانوا عرفوا حاجة السيد.
الفرق بينهم آل اليمين وآل اليسار، هو ان آل اليسار حبهم مشروط، وعلاقتهم بالسيد علاقة عبودية لا غير.
كل ما فعلتموه لواحد من اخوتي، الاصغر بينهم...(elaxiston)
"يقول يسوع: لاخوتي الصغار، انما للاصغر بين اخوتي، elaxiston هي التصغير المطلق، هو الاصغر ليس عمرا، انما هو الاصغر معنويا، هو الاضعف والافقر والاكثر جوعا وعطشا وعريا. محبة الانسان، كيما يخلص، لا يجب ان تكون لا انتقائية ولا نخبوية. لا يمكنني ان اختار من اساعد، بل افتش عن الاصغر واعطيه الحياة. لا يحق لي ان افتش عن النخبة من الاشخاص كي ادخل في علاقة محبة معهم، دعوتي هي ان احب من لا قيمة له، فان اعطيه الحياة.
يلفتنا ايضا استعمال كلمة "أخ" وهي تعني امرين:
* اخوة البشرية الشاملة من خلال المسيح، فكلنا اصبحنا ابناء لله بالتبني من خلال بنوة المسيح الطبيعية للآب. افتدائنا ادخلنا في علاقة عضوية مع البشرية كلها، اصبحنا عائلة واحدة، او بالاحرى عدنا عائلة واحدة كما كنا قبل خطيئة والدينا الأوّلين. عمل المسيح الخلاصي حدد البشرية المخلوقة على صورة الله ومثاله، وصحّح العلاقة بين الاخوة: فلم تعد علاقتنا مبنية على مثال علاقة قايين وهابيل، لم تعد النظرة الى الانسان الآخر كخطر ممكن على حياتي اسعى دوما الى الغاءه جسدياً او نفسيا ومعنويا، انما اصبح يسوع المسيح مثلا للعلاقة بين البشر: هو اعطى حياته لنا ليحررنا من قيودنا: اعطى خبزه حين كنا جائعين للحياة الحقة، اعطانا كأسه، ماء الحياة السرية حين كدنا نموت ظمأ للخلاص، اعطانا ذاته ثوب مجد حين لبسناه بالمعمودية، افتقد ضعفنا بحنانه وداوى جراح بشريتنا الخاطئة المريضة، اعادنا بالتبني من غربة الخطيئة والعصيان الى ديار الآب، لم يأونا كغرباء انما جعلنا ورثة ملكوت ابيه، نحن الذين "كنا حينا غرباء عن الموعد، ضالين مشتتين لا رجاء لنا (افسس) وحطم القيود الكثيرة التي كانت تقيد بشريتنا: قيود الناموس والتقاليد البالية، قيود الخطيئة ونتائج الخطيئة في حياتنا، قيودا كانت كلها تمنعنا من الانطلاق على دروب الحرية نحو بيت الآب. لم يطلب منا المسيح الا ما اعطاه لنا، ولم يطلبه لنفسه، بل طلبه لأخوتنا الذين ينتظرون خلاص الله لهم من خلال اعمالنا، لأننا نتمم في التاريخ عمل المسيح الخلاصي.
- اخوة العماد، اي المسيحيين: نرى ان الماثلين امام محكمة المسيح هم الامم، وليسوا ابناء شعب الله، هم الوثنيين او ايضا ابناء الشعب المختار الذين لم يقبلوا كلام الله فاصبحوا أمماً. دينونة غير المسيحيين هي على قبولهم ليس فقط المسيحيين كأشخاص، انما منطق المسيح وقيمه. دينونة العالم البعيد عن الله ستكون على اساس قبولها لمنطق المحبة الشاملة والمجانية أو عدم قبوله. اعطاء الذات للآخر من خلال رد الحياة له هو منطق لا يقبله العالم الا اذا قبل منطق المسيح، منطق التضحية بالذات في سبيل الآخر. وعالم اليوم، العالم الذي نحيا فيه، هو عالم استهلاك، عالم يتبنى منطق القوة والعنف، ويعطي القيمة المطلقة للقوة الاقتصادية، وبالتالي فان الضعيف او الفقير يبقيان مهمّشين. لا خلاص للعالم الا بارتداده الى منطق السيد المسيح.
قبول الأخوة هو اذاً قبول لمنطقهم، فالانسان يمثل ما يحتوي الانسان يُقبل أن يرفض على اساس مبادئه وقناعاته وتاريخه، اعطاء الخبز للانسان، اعطاءه الحياة، هو قبول هذا الانسان وتبنّي قناعاته. قبول الامم لأخ المسيح هو بالحقيقة قبول العالم (الذي لم يعرف بعد قناعات المسيح ومبادئه) لمنطق المسيح.
"الأصغر بين اخوتي" هي مفارقة كبيرة تحتوي على فكر غريب عن فكر العالم العنيف: العالم يقيس الانسان بحسب قدرته وقوته، والمسيح يعلن ان المسيحي قد يبدو الأصغر والأضعف. المسيحي المسالم قد يبدو الأصغر بين اقوياء العالم، وقدرته قد تظهر معدومة ازاء قوى العالم السياسية والعسكرية والاقتصادية، انما في الحقيقة هو سلام جبّار، وضعف حوّل العالم ولا يزال قادراً على تحويله، هو ضعف الخميرة التي دون جلبة ولا ضجة تخمّر العجينة كلها لتعطي خبز الحياة، وهي حبة الخردل التي تبدو للوهلة الأولى اصغر الحبوب واقلها قيمة، انما هي تنمو رويداً رويداً، دون اعلان ولا دعاية، وتتحول الى شجرة عملاقة تتفيأ ظلالها طيور السماء، اي الكائنات المدعوة للتحليق في سماء الألوهة.
بهذا نفهم معنى "كل ما فعلتموه للأصغر بين اخوتي فلي قد فعلتموه".
هو أبعد ما يكون عن تعاطف عابر أو شعور بالشفقة، فالمسيح يعلن انه واحد مع الذي يقبل تعاليمه ويلتزم بمبادئه وقبول العالم للتلميذ، هو قبول لمنطق المسيح.
اذهبوا عني يا ملاعين الى النار الابدية المعدّة لابليس وملائكته
الملاعين: اللعنة هي عكس البركة، والبركة في الكتاب المقدس هي علامة رضى الله على الانسان، ومن نتائجها اعطاء الثمر، فابرهيم باركه الله وكانت العلامة اعطاءه نسلا لا يحصى، وآدم وحواء باركهما الله وقال لهما انميا واكثرا، وآباء العهد القديم حين نالوا البركة اثمروا ونموا.
داود حين باركه الله وعده ناثان بالمسيح يأتي من نسله، وحين عمل عكس ارادة الله مات ابن الخطيئة، لم ير النور، رمزا لعتم الخطيئة ولعدم قدرة الانسان على اعطاء الحياة دون البركة الالهية. موت الابكار في مصر هي علامة عدم البركة لعصيان ارادة الله، والتينة حين لعنها المسيح يبست...
الملعون هو الذي فصل ذاته عن ارادة الله وعصى وصاياه ينسب الموت لنفسه كساقية فصلت ذاتها عن الينبوع. آل اليسار اختاروا رفض الله فكانوا ملعونين اي ان اعماله كانت دون ثمر، وهم كانوا غير مؤهّلين لا لإعطاء الحياة ولا لدخول ملكوت الحياة الابدية.
النار الأبدية، نار الانفصال عن الله مصدر وجودنا وغايته، وخيرنا الاسمى. هذه النار كانت معدّة في الاصل (لاحظ استعمال زمن الماضي التّام: الى النار التي كانت قد أُعدَّت) لابليس وملائكته. هي اذاً حالة لم تكن معدة للانسان، فطبيعة الانسان خيّرة حسنة، ومكانه بيت الآب. ذهاب الانسان الى النار الابدية هي حقيقة مخالفة لطبيعة الخلق، سببها لا ارادة الله انما حرية الانسان التي فصلته عن الخالق.
الشيطان، ملاك في الاصل معاين لله وعارف للحقيقة، رفض الطاعة وقرر بحريته وبعقله المطلق (وهو عقل مطلق لا يحده جسد) الانفصال عن الله. ان كان عقل مطلق فهو اذاً يعرف عاقبة الأمور، لذلك سقط ولا مجال لعودته، فهو لأنه غير جسدي وخارج الزمان، فان خياره مزامن لعاقبة خياره. انما ماذا يعني متى بكلمة "بملائكته"؟ قد تعني امران.
- اما أتباع ابليس، وبالتالي فقط كان رئيس ملائكة، وهذا التفسير يمكننا اعتماده اذا اخذنا aggelos بمعنى ملاك.
- اما الأشرار اذا اخذنا aggelos بمعناها الاساسي "مُرسَل" و"رسول" المرسل يحمل رسالة سيده ويتمم ارادة سيده، واذا قبل الانسان ارادة الشرير اصبح رسول الشرير ومشاركاً له في الاثم. آل اليسار، بقبولهم ارادة الشرير، اصبحوا ناشري عصيانه وتعاليمه من خلال رفضهم لمنطق المسيح، عاملين على مقاومته. بهذا يصبحون، مثل سيّدهم، دون ثمار، اي غير مؤهلين لاعطاء الحياة ولا لقبولها، لذلك لا يمكنهم دخول الحياة الابدية.