الأحد السادس من زمن الصليب
زمن الصليب هو زمن الإنتظار، هي الفترة التي تتأمّل فيها الكنيسة في كيفيّة السهر وترقّب عودة السيّد. لقد تأمّلنا في صورة العبد الصالح الّذي ينتظر عودة سيّده، تأمّلنا بالعذارى الحكيمات اللّواتي حافظن على قنديلهم مشتعلاً وهم ينتظرون عودة السيّد. أمّا إنجيل هذا الأحد فهو أنجيل الترقّب الفاعل، لا الترقّب الخمول. هو ترقّب العبد المتاجر بوزنات سيّده، عالم أنّ لا بدْ أنّ يعود.
(متى 25: 14 - 30)
لقد أسلم السيّد كلّ ماله للعبيد، لم يسلمهم جزء مما يملك ليتاجروا به، بل أسلمهم كلّ ما يملك، كلّ بحسب طاقته. يعلم السيّد طاقات كلّ واحد منّا، يعرف مواهبنا وقدراتنا، يعرف محدوديّتنا وإعاقاتنا، يعرفنا، يحبّنا، يقبلنا، ويطلب منّا أن نسعى لنحقّق إنسانيّتنا بحيب طاقاتنا وقدراتنا، نسعى لأن نعمل في حقل الرّب. لا يهتّم الرّب بكم نقدّم، ما يهمّه هو إن كنّا قد حاولنا. لا يفتّش الرّب عن معجزات أصنعها، بل يريد الحبّ في قلبي، يريد رغبة تملأ قلبي لأعمل معه في خدمة الكنيسة في سبيل خلاص الإخوة.
أسلمهم كلّ واحد بحسب طاقته: هو عمل الله في حياة شعبه يختصره الرّب في مثله هذا، الوزنات الخمس تذكّرنا بالعهد القديم، بالتوراة ذات الكتب الخمسة. هي شريعة موسى أُعطيت للإنسان لكيما يصل الى الخلاص مع سائر شعب الله. ولكن الشعب لم يستجب لرغبة الله في حياته، ولا رأى في الناموس وسيلة خلاص، يسير على هديها ليصل الى الرّب، بل حوّل الناموس الى وسيلة قتل ودينونة للآخرين، وحدهم الأبرار علموا كيف يحافظون على وزنة الكتب الخمسة هذه، فاستحقوا من خلالها التبرير.
وآخر أعطاه الرّب وزنتين: رمز آخر لحقيقة خلاصيّة أعطاها الرّب للإنسان، الوزنتان هما العهدان: القديم والجديد، بالقديم دخل الله في علاقة مع شعبه، دخل في عهد معه، في عهد حبّ أبدّي، يصبح من خلاله الله اله إسرائيل الأوحد، ويصبح الشعب شعب الله المختار، أي الشعب الّذي اختاره الله ووضعه في خدمة خلاص الشعوب كلّها ليوصل اليها كلمة الحياة. لكن الشعب الّذي حصل على هذه الوزنة دفنها، رفضها، أهملها، لم يشأ أن يعمل بها وقرّر أن ينفصل عن الله بإرادته، فوصل الى حالة الموت. وفي العهد الجديّد عاد الرّب مرّة ثانية ليجدّد عهده مع شعبه ويعيدهم الى صداقتهم والى حبّهم الأوّل فأرسل ابنه متجسّداً من مريم العذراء ليعيدهم الى صداقة الله. الوزنتان هما عهدان اسلمها الله الينا، بنعمته أعطانا وسيلة أن نكون عمّالاً في حقله، ينشرون بشرى الإنجيل في الكون، يعلنون انتصار الحبّ على الحقد، والرجاء على اليأس، والمغفرة على والإنتقام. من قبل هاتين الوزنتين في حياته يعلم أنّه مدعوّ للخلاص، ويعلم أنّه يحمل همّ المشاركة في إعلان رسالة الخلاص.
وآخر أعطاه الله وزنة واحدة، هي وزنة الكنيسة الواحدة، جسد المسيح السرىّ التي تعطي الخلاص لبني البشر لأنّها الأم والمعلّمة، تحتوى علي الأسرار، تصنع الإفخارستيّا والإفخارستّيا تصنعها، تسعي لأن تكون في خدمة الإنسان، كلّ إنسان. الوزنة الواحدة هي المعموديّْة التي نلناها بنعمة من الربّ لنصبح أولاد الله بالتبنّي، ونضحي قادرين على أن ندعو الله: "أبانا". لا يحقّ لنا أن ندفن هذه الوزنة في الأرض، لا يحق لنّا إن كنّا مؤمنين بأنّنا تلاميذ، أن نقول: لا دخل لي بكلّ هذا. لا يحق لي أن أخاف من مستلزمات البشارة المسيحيّة وأقول: هو ليس عملي، هو عمل الكهنة والمكرّسين. فالله سلمني وديعة الأيمان، لم يعطني ما لا أستطيع حمله، بل أعطاني بالنعمة أن أكون رسولاً له، أبشْر باسمه، أعمل لمجده، أضحّي لأجله وأشهد له حيثما حللت: في عائلتي أشهد له، في عملي أشهد له، في كلامي، في تصرّفاتي، في أفكاري، في كلّ لحظة أشهد له ولإنجيله من خلال شهادة الحياة ومن خلال الحبّ لكلّ إنسان. هكذا أشارك في رسالة المسيح، هكذا أتاجر بوزنة الرّب التجارة المليئة ربحاً.