الأحد الثالث من زمن الصليب
لقد تكلّمنا في عظة الأحد الماضي عن معنى هذا النّص، عن نوعه الأدبيّ الرؤيوي وعن الواقع التاريخيّ الّذي يعكسه. ولكن الإنجيل المقدّس لم يُكتب ليكون كتاب أدب أو تاريخ، فهو يتكلّم الينا شخصيّاً، ويدعونا الى أن نصبح واحداً من جماعة التلاميذ الذين كانوا يسمعون هذه الكلمات.
لا بدّ من فهم عميق للواقع السياسيّ التاريخيّ والإجتماعيّ للفترة التي كُتب فيها هذا النّص لنتمكّن من فهمه بعمقه، ولكن رسالة الإنجيل تبقى عقيمة دون ثمار إن لم نعرف كيف نجعلها تصبح من صميم حياتنا، تتوجّه الينا شخصيّاً، نتأمّل بها لنبني حياتنا الرّوحيّة وتصبح حياتنا مبنّية على أساس إرادة الرّب القدّوسة.
(متى 24: 23 - 31)
إن الهدف الأخير لكلّ نصّ إنجيليّ هو هذا: أن نتأمّل به بعد فهم معانيه الحرفيّة، وإدراك واقع كتابته التاريخيّة، لنصل الى مرحلة القراءة الرّوحيّة، وهي المرحلة التي نتشرّب فيها النّص روحيّاً، نقبله في حياتنا، في عقلنا وفي قلبنا، لنتحوّل نحن الى مثاله. هدفنا ليس أن نقولب النّص على شكلنا، بل أن نتحوّل نحن الى شكل كلمة المسيح التي يقولها لنا في الإنجيل.
فكيف نقرأ هذا النّص من الناحية الرّوحيّة؟ وماذا يقول لنا شخصيّاً اليوم، بعد الفين سنة على كتابته؟
الواقع الرّوحي لحياتنا:
يتكلّم الرّب في إنجيله عن دمار الهيكل، عن الحروب والويلات التي ضربت الشعب اليهوديّ ودمّرت المدينة المقدّسة. يتكلّم عن المسحاء الدجّالين وعن الأنبياء الكذبة، يحذّرنا من الخوف والقلق، ومن الإنجراف وراء كذبهم. فالخوف هو نقص في الإيمان، وإن نقص أيماننا بحضور الرّب في حياتنا، أصبحنا عبيداً لكلّ ما يمكنه أن يوهمنا الخلاص، فنبتعد عن مصدر خلاصنا ونموت.
ما هو الهيكل المهدّم اليوم في حياتي؟ اليس هو حياتي بأسرها حين أكون بعيداً عن الرّب؟
بالخطيئة أهدم هذا الهيكل، وقد شاء الله أن يجعل من حياتي أجمل خلائقه! لقد رسم في قلبي الخير، وزرع فيّ التوق الى الحياة الأبديّة، وأعطى وجودي معنى يتخطّى البعد الحيوانيّ والماديّ. لقد جعلني كائناً على صورته ومثاله، أميّز بين الخير والشرّ، مدعوّ الى اختيار الخير لكيما أشارك الخالق في خلاص خليقته.
حياتي، هيكل الله الرّوحي، هو اليوم هيكل مهدّم، مثل هيكل أورشليم المحروق. هيكل المقدس أحرقته الجيوش، وهيكل حياتي دمّرته الخطيئة. هيكل أورشليم دنّسه الغزاة بالأوثان، وهيكل حياتي قد دنّسته أنا بأوثان وأصنام كثيرة، وضعتها الى جانب الله في حياتي، لا بل قدّمتها عليه أحياناً:
فكم كنت في حياتي عبداً لأصنام المال، والشهوة واللّذة والتسلّط والعنف والقسوة؟ كم جعلت من نفسي صنماً يحجب صورة الله في داخلي، فبكبريائي إؤلّه ذاتي، وأجعل نفسي محور الوجود. أسعى الى مصلحتي الخاصّة وأنسى خير الإخوة، أنسى أن الله قد خلقني لأكون مثل هيكل أورشليم: علامة حضور الله ودليلاً على حبّه. فهل نحن فعلاً، من خلال حياتنا وشهادة عيشنا علامة لحضور الله في العالم؟
"أنا هو الرّب إلهك، فلا يكن لك إله غيري"، هل كنّا أوفياء لهذه الوصيّة؟ كم من المرّات نخون الله بعبادتنا لذاتنا، وللذّتنا، ولمصلحتنا، ولغننانا، وننسى الدعوة التي دعانا الله اليها: أن نكون على الأرض سفراء له، ننطلق لنعلن أنّه هو الغنى الأعظم، والخير الأعظم، والحبّ والحنان.
نعم، هذا هو الهيكل المقدّس الّذي يفتّش الله عن بنائه، فالله لا يهتمّ بهيكل سقط ولم يبق منه سوى حائط تُهرق عليه الدموع. الهيكل الّذي يريد الله بناءه، الهيكل الّذي جعل الله نفسه يبكي من أجله، هو هيكل حياتنا المقدّس، رميناه بشرّنا لتدوسه الخطايا وتدنّسه المعاصي. فإذا قالَ لكُم أحدٌ ها هوَ المَسيحُ هُنا، أو ها هوَ هُناكَ فلا تُصدِّقوهُ،24فسيَظهرُ مُسَحاءُ دجّالونَ وأنبـياءُ كذّابونَ، يَصنَعونَ الآياتِ والعَجائبَ العَظيمةَ ليُضَلِّلوا، إنْ أمكَنَ، حتَّى الذينَ اختارَهُمُ اللهُ نعلم كلّنا أنّنا لن نصدّق شخصاً جاء يعلن عن نفسه أنّه المسيح، لأنّنا نعلم أن المسيح قد أتى. ولكن كم من المرّات نركض خلف مخلّصين شتّى علّنا نجد عندهم الخلاص؟ رغم إيماننا بالمخلّص الأوحد، نفتّش عن مخلّصين آخرين!
كم من المرّات نفتّش عن الحبّ، وإن كان عابراً، لنروي ظمأ قلبنا الى الحبّ والعاطفة؟ كم من المرّات نضع رجاءنا في شخص يوهمنا أنّه قادر على وهبنا الخلاص؟ نفتّش عن مياه الحياة في الآبار المشقّقة وفي المستنقعات الموحلة.
كم من مرّة قال لنا كبريائنا: "المسيح هناك"، مشيرة الى قوانا الذّاتيّة، فظننّا أنّنا بقدرتنا، وبسعينا، وبعملنا نقدر على الوصول الى السعادة. ننسى أن الله هو مصدر سعادتنا، وهو القادر وحده على إعطائنا الخلاص.
كم من مرّة أشار عنفنا الينا قائلاً: "ما نفع الله؟ أنت في عالم الذئاب، فإن لم تنهش الآخرين نهشوك"، فصارت شريعة الغاب شريعتنا، ندوس حقوق الآخرين ولا نلتفت الى من هم بحاجة الينا. لا نعير انتباهاً ليتيم، لأرملة، ولمحتاج. مسيح العنف الدجّال صار رفيقنا في مجتمعنا اليوم، مجتمع يعتمد على العنف وعلى القسوة وعلى رفض الآخر المختلف. غضب وعنف يرافقاننا أينما ذهبنا: في بيتنا، في عائلتنا، في الزيجات التي تتحطّم كلّ يوم أكثر فأكثر، في جدالاتنا السياسيّة، في عملنا، وحتى خلف مقود سيّارتنا. نظنّ أن بعنفنا نجد الخلاص، فيتحوّل الآخر الى عدوّ لنا بدل أن يكون واحد من إخوة المسيح الصغار الّذين نسعى الى خدمتهم، ويتحوّل مجتمعنا الى واحة حرب، كتلك التي يتكلّم عليها نصّ إنجيلنا اليوم، بدلاً من أن يكون مكان لقاء وحبّ لأبناء الله على الأرض.
كم من مرّة أصغينا الى صوت مسيح الوصوليّة الدجّال يقول لنا: "فتّش عن خلاصك في هذا العالم، واغتنم الفرصة لتستفيد"، نسمعه يقول لنا في عملنا: "إكتسب رضى الرئيس وإن كان على حساب صيت رفيقك"، يقول لنا: "إستعمل الإنسان ما دمت تحتاج اليه، وارم به حين تنتهي حاجتك"، يقول لك: "لا تكن أحمق وتستمع لصوت الضمير، فالكلّ يسرق، استفد من صندوق عملك، أليس هذا تعبك...؟".
ومسيح الّلذة الدجّال، ألم يقل لنا مرّات ومرّات أن إستفد؟ إستعمل جسد الآخر وحياته وكرامته، وضعها في خدمة سعادتك وإن كانت عابرة؟ ألا يقول لشبيبتنا "فتّش عن سعادتك في المخدّرات، فالعالم دونها ألم ومشاكل، ومعها تحصل على الخلاص"؟ ألا يقول لكثيرات منّا: "ما المانع من الإجهاض، فأنت سيّدة حياتك، وأنت القادرة على إتّخاذ قرارك وإن كان على حساب كائن بريء"؟
مسحاء كثيرون يجوبون حياتنا، يهدمون هيكلنا، يشوّهون فينا صورة الله ويضلّوننا كلّ يوم. يَصنَعونَ الآياتِ والعَجائبَ العَظيمةَ ليُضَلِّلوا، إنْ أمكَنَ، حتَّى الذينَ اختارَهُمُ اللهُ، نحن، يجترحون المعجرات، يذهلون عقولنا بأضاليلهم، وبقوّة إقناعهم، وبالغنّى العابر الّذي يقدّمونه لنا ليضلّوننا، نحن الّذين اختارهم الله. إختارنا لنعلن قيم الحبّ والإحترام والتعاضد وكرامة الإنسان. إختارنا لنكون مبشّرين لإنجيل المغفرة والمصالحة والمحبّة. إختارنا لنشهد للحقّ وللحقيقة وللعدالة. هل نحن أوفياء لهذا الإختيار؟
حَيثُ تكونُ الجِيفَةُ تَجتَمِـعُ النُّسورُ
حيث يكون الجسد المائت، المُثخن جراحاً، المهشّم، المهان المحتقر، هناك تجتمع النسور. هو جسد المسيح المائت من أجلنا والقائم حبّاً بنا. هو يسوع الّذي بذل حياته في سبيلنا ليعلّمنا أن منطق العنف لن ينتصر، بل هو قادر على صلب كلمة الحقّ وقتلها في المجتمع. مات ليقول لنا أن منطق الإستفادة لا يعطي الخلاص،بل موت الآخر وامتهان كرامته، وليقول لنا أنّنا بامتهاننا كرامة الآخر، نمتهن كرامة المسيح من جديد، نقتله، نصلبه، نهينه، ونضعه في قبر إيماننا البارد.
يقول لنا أن مسيح اللّذة لا يعطي خلاصاً، فالمسيح الحقّ لم يسع الى سعادة عابرة، بل مات ليعلّمنا أهمّية البطولة في السعي الى سعادة لا تنقضي، وإن كانت سعادة قائمة على بذل ذاتنا في سبيل الآخرين: اليست سعادة دائمة هي سعادة طفل أنقذناه من الموت جوعاً، أو أسهمنا في إدخاله المدرسة؟ أهي دون قيمة سعادة عائلة ساعدناها للتخطّي ضائقتها ومشاكلها؟ أهي سعادة عابرة سعادة خاطىء أظهرنا حبّ الله له بمساعدته وبوقوفنا الى جانبه؟ هو منطق الملكوت، يبدو ضعيفاً أمام لذّات العالم العابرة، ولكنه منطق يبقى على الدوام، ويستمرّ في حياة الأبد.
النسور هي الكائنات المحلّقة، هي رمز المخلوق الساعي الى ما يتخطّى حدود هذا العالم. "على أجنحة النسور حملتك" يقول الله في العهد القديم. هي دعوتنا، أن نكون نسوراً محلّقة في رحاب الأبديّة، لا تلطّخ جمال أجنحتها بوحول الخطيئة وبتراب الزوال. دعوتنا الإنطلاق الى منطق الآبديّة، وتحويل عالمنا الى صورة الملكوت. فإن كان الحبّ هو ملكوت الله، فدعوتنا أن نحيا الحبّ اليوم، لنجعل من عالمنا صورة مسبقة لملكوت الله. نحن نسور اجتمعت حول جسد مكسور لخلاصنا، إجتمعنا حول المسيح الحقيقيّ الّذي مات من أجلنا ليعطينا الحياة، ونجتمع كلّ يوم حول جسده المكسور في القربان، سرّ حضوره في العالم، لننال منه زاد الحياة، قوّة تحملنا الى الملكوت، لنحلّق ونطير، ونعلن من سماء إيماننا، أن يسوع هو المسيح الحقّ، أمامه يسقط كلّ مسيح دجّال. فمنه الخلاص، وله المجد، وأمامه سوف تنحني كلّ ركبة حين يآتي كالومض في الليّل، يجمع المشارق والمغارب في طرفة عين، فيقوم أمامه الأحياء والأموات، ليسمع منه من آمن به: "تعال إليّ يا مبارك أبي"، وليسمع منه من اختار مسحاء الكذب: "اليك عنّي يا دجّال".