الأحد الثاني عشر من زمن عنصرة
"وانتقل من هناك إلى نواحي صور."
جاء يسوع إلى منطقة محاذية للجليل، منطقة بأكثرها وثنية وهي صور.
(متى 15: 21 - 28)
أهمية منطقتي صور وصيدا: صور وصيدا هي عبارة لاهوتية أكثر منها جغرافية.إنها تدلّ على المناطق الوثنية.فمنذ حملت إيزابل ديانة البعل إلى مملكة إسرائيل (مملكة الشمال مع ملكها آحاب)، صارت هذه المنطقة منبع العبادة الوثنية في أرض الربّ. ذكر ألانبياء أشعيا، ارميا، يوئيل وزكريا في نبوءاتهم صور وصيدا إنّما من الناحية السلبية.هم شعب غضب الله عليه وهاتان المدينتان ستدمران مثل سدوم وعامور. كان المنطق اليهودي ينصّ على عدم الاحتكاك بهذه الشعوب فالشرّ يأتي منها ومن المقيمين في ضواحي صور وصيدا كأهل الجليل، ومن السامريين (الجليل كان ُيسمّى جليل الامم أو جليل الوثنيين رغم وجود عدد كبير من اليهود المقيمين فيه).بحسب الانبياء هذه المنطقة كانت بعيدة عن الله بسبب عبادة الاصنام وبالتالي كانت تشكلّ خطر على اليهود المقيمين خارج الحدود اليهودية الرسمية أي مملكة الجنوب(أورشليم واليهودية). في 897 ق.م. صار " إيثبعل " عظيم الكهنة ملكاً على صور الّذي صار ملكاً فتحالف مع آخاب ملك إسرائيل وأعطاه ابنته ايزابل زوجة ( 1 مل 16 : 31) وبها دخلت عبادة البعل إلى إسرائيل.
كان اسم " الجليل " يطلق على القسم الواقع في اقصى الشمال من اقسام فلسطين الغربية الثلاثة. وقد ذكر يوسيفوس حدودها بالتفصيل، وقد قسمها إلي الجليل العليا والجليل السفلي، وتحيط بها فينيقية وسوريا، ويحدها من الغرب مدينة بتولمايس ( عكا الحالية ) وجبل الكرمل. ويتبع جبل الجليل سوريا حاليا.
اما الجليل الأعلى فكان يضمّ الارض الممتدة إلي نهر الليطاني.
ان اختلاط السكان بعد السبي جعل العنصر اليهودي اقل نسبيا، وقد امكن لسمعان المكابي في عام 165 ق.م. ان ينقذ بقيتهم من تهديد جيرانهم، وذلك بان نقل كل الجماعة إلي اليهودية ( 1 مك 5 : 14 - 23 ). وبعد انتصار ارستوبوليس الاول على ايطورية، اجبر الكثيرين على اعتناق العادات الدينية اليهودية وان يخضعوا للشريعة اليهودية. ويكاد لا يوجد شك في ان اهل الجليل قد عوملوا بمثل هذه المعاملة، فبينما كان اهل الجليل يدينون بالديانة اليهودية ويعتزون بوطنيتهم فيها، كما يدل على ذلك تاريخهم اللاحق، فانهم كانوا خليطا غربيا من اراميين وفينيقيين ويونانيين وايطوريين. وفي تلك الظروف لم يكن متوقعا منهم التمسك بشدة بالعقيدة القويمة مثل اليهود انفسهم. ويفسر لنا امتزاج اصولهم السبب في اختلافهم في لهجتهم عن اخوتهم في الجنوب، الذين كانوا ينظرون للجليل واهلها نظرة احتقار واستعلاء (يو 1: 46، 7: 52). (دائرة المعارف الكتابيّة).
كان الرومان قد بنوا في الجليل قيصرية فيلبّس وكان فيها الكثير من الرومانيين واليونايين وكان يوجد خطر الاشراك بعبادة يهوه الاله الأوحد الذي له وحده يليق وتحقّ العبادة بالنسبة لليهود. عند موت هيرودس الكبير في عام 4 ق.م. قام ابنه فيلبس - رئيس الربع - بإعادة بناء قيصريّة وتجميلها، وسماها "قيصرية فيلبس" تكريماً للقيصر طيباريوس، وتمييزاً لها عن قيصرية العاصمة فأصبحت "قيصرية فيلبس" مقراً لعبادة الإله "بان" و"القيصر" ومركزاً من مراكز الحضارة اليونانية. (دائرة المعارف الكتابيّة)
كان المؤرخ الشهير اليهودي جوزف فلافيوس يقول: "وكان أهل صور وصيدا هم من ألدّ أعدائنا".
هذا الاختلاف ليس فقط دينيّ بل أيضا سياسيّ وعسكريّ لان مدينتي صور وصيدا كانتا على مرّ التاريخ تتحالفان مع القسم الشمالي لإسرائيلّ ضدّ مملكة الجنوب أورشليم واليهودية.
يسوع المسيح خرج من بيئة الشمال في الناصرة (جليل الامم):"أمِن الناصرة يخرج شيء صالح؟"
كان جواب يسوع للمرأة قاسيا جدا فيسوع المسيح أراد أن يحقق ثورة تغيير لهذا المنطق اليهودي ويجب أن نقرأ هذا النص من هذا المنطلق.
• اليهود كان لديهم النظرة التي يظهرها يسوع لينقضها في ما بعد.
• هذا النص ُكتب بعد موت وقيامة يسوع المسيح بسبب حاجة الكنيسة، التي كانت آنذاك تمرّ بمشاكل. وعلى ضوء واقع الكنيسة الداخليّ يمكننا أن نفهم أكثر ما يريد النّص أن يقول. في هذه الفترة من كتابة النّص كان هناك مشكلتين:
• - بين اليهود والمسيحيين من جهة.
• داخل الكنيسة نفسها بين المسيحيين من أصل يهودي والمسيحيين من أصل وثني.
مرقس هو تلميذ بولس وبولس كان يلقّب نفسه برسول الامم ورسول الوثنيين في رسالته إلى أهل غلاطية.
حدثت مشكلة بين بولس من جهة وبطرس ويعقوب ويوحنا من جهة أخرى حول هويتهم اليهودية:
بالنسبة إلى الرسل يسوع المسيح جاء كتتمة لنبوءات العهد القديم لان الله وعد شعبه من خلال الآباء ابراهيم، اسحق ويعقوب بأنه سيأتي المخلص المسيح من الدين اليهودي وقد آمن الرسل أن الخلاص يجب أن يكون للكون كلّه ليس فقط لليهود انّما على أساس أن يبقوا على هويتهم اليهودية.
بولس كان يهوديّا ينتمي إلى المجتمع الفرّيسي وكان تلميذا لجملائيل، من أهم معلّمي الشريعة عند اليهود (راجع أع 22، 3). تتلمذ بولس على مبدأ الفكر الفرّيسي وفاق أترابه بالمحافظة على الشريعة اليهودية وكان بولس يضطهد المسيحيين لأنهم لم يحافظوا على الناموس كما أنّ.بولس لم يتعرّف على يسوع في حياته، رغم ذلك، بعد لقائه بيسوع المسيح على طريق دمشق ُولد بولس من جديد وأصبح انسانا مختلفا. فصار هو رسول الوثنيّين.
كان يعقوب وبطرس ويوحنّا صيادي سمك من الجليل.كانوا معتادين على رؤية وثنيين ومعتادين أيضا أن ُيعتبروا أدنى مستوى من يهود الجنوب. بعد موت يسوع المسيح بقيوا مصرّين على المحافظة على شريعة موسى (السبت والختان) مع أنهم يؤمنون بيسوع المسيح.
بولس كان على تناقض مع أفكارهم ومرقس كان رفيقه وكان يبشّر مجتمع روما الوثنيّ ويبشّر أيضا جماعة مسيحية في روما وهي ليست من أصل يهودي وبالتالي ليس من مصلحة مرقس أن يذكر ما قاله يسوع عن الوثنيين بأنهم كلاب، اذاً فلا بدّ أنّ هناك تفسير أبعد من الذي قاله يسوع.
ستعيش الكنيسة هذه الصعوبة بين بولس من جهة وبطرس ويعقوب ويوحنا من جهة أخرى وسينعقد مجمع أورشليم لتفتح الطريق واسعة أمام تبشيرالوثنيين.في هذا المجمع تقرّر عدم المحافظة على ناموس موسى وأي شخص يمكن أن يصبح مسيحيّا دون أن يمرّ بالدين اليهودي ودون أن ُيختتن: الوثني الذي يؤمن بيسوع المسيح يعتمد فيصبح مباشرة مسيحيا دون الحاجة الى المرور بشريعة موسى.
كُتب الإنجيل إلى كنيسة روما التي كانت تواجه مشكلة بين جماعتين:
- جالية مسيحية من أصل وثني وروماني.
- جالية مسيحية من أصل يهودي.
المسيحيون من أصل يهودي يقولون عن المسيحيين من أصل وثني أنهم غير مختتنين وبالتالي غير طاهرين وأنهم هم الافضل لان لديهم ناموس موسى، والرومانيون يشددون على كونهم تعرفوا على يسوع المسيح وقد أصبحوا مسيحيين فكانت أولى الخلافات في الكنيسة.
يذكر الانجيلي في هذا النص حدثا قد جرى مع يسوع المسيح لكي يوصل رسالة إلى جماعة اليهود الموجودة في روما بأن لا تعتبرالمسيحيين من أصل وثني بأنهم كلاب. الكلب في العهد القديم هو رمز للشيء النجس ورغم ذلك يقول يسوع كلب صغير اي الاليف الذي يعيش في المنزل وليس الكلب المتوحش الموجود في الصحراء والذي يأكل الجثث. يدلّ الكلب في الكتاب المقدس، على الحقارة، جليات يقول لداود في صراعه معه: “ألعلى أنا كلب حتى إنك تأتي إلى بعصا؟” (1صم 17 ،43). ويقول داود لشاول الملك “وراء من أنت مطارد، وراء كلب ميت؟” (1صم 24 ،14) ويقول مفيبوشث لداود: "من هو عبدك حتى تلتفت إلى كلب ميت مثلي؟” (1صم 24 ،14). راجع أيضاً 2صم 9، 8 و 2صم 3 :8 و 2مل 8 :13.
يعلن هذا النص للمسيحيين من أصل يهودي المتفاخرين بأنفسهم بأن يسوع المسيح قلب المنطق اليهودي وكان إلى جانب تلك المرأة. هي رسالة إلى الجماعة المسيحية من أصل يهودي أن لا تعامل الجماعة الاخرى بإزدراء. حتى لو الخلاص أتى من الشعب اليهودي، لان الله في العهد القديم عندما دخل في عهد مع شعبه من خلال الآباء ابراهيم,اسحق ويعقوب,قال لابراهيم سيصبح نسلك بعدد نجوم السماء ورمل البحار وبنسلك تتبارك الامم كلّها، بمعنى أن الخلاص سيصل إلى الشعوب كلّها وكلّ الشعوب ستتعرّف على الله وتدخل في عهد معه. الكنيسة أصبحت إسرائيل الجديدة لأنها تمثل الشعب الذي دخل في علاقة حبّ مع الله بغضّ النظر عن جذوره، كلّ شخص يدخل في علاقة مع الله ُيصبح من شعب الله المختار. المعمّدون اليوم هم شعب الله المختار وليس عليهم أن يكونوا أعلى مستوى من غيرهم انمّا أن يكونوا في خدمة يسوع المسيح وفي خدمة الشعوب كلّها لكي تتعرّف الشعوب من خلالهم على يسوع المسيح.
المرأة المنعوتة بالكلب، اعلان صارخ أن هذه المرأة شعبها ليسوا بكلاب، والنتيجة أنّها وصلت إلى الخلاص. يسوع المسيح لم يصنع أعجوبة هنا ولكن قلب هذه المرأة منفتح على الله جاهز للقبول بما يقدّمه لها.قال لها يسوع:"من أجل قولك هذا,إذهبي، فقد خرج الشيطان من إبنتك". مع يسوع، إنفتحت مائدة الملكوت للوثنيين وانتهى سلطان الشرّ المتمثّل باستعباد الطفلة الصغيرة له. الايمان أوصل هذه المرأة إلى الخلاص وهنا محور النصّ. الرسالة الموجهة إلى اليهود هي أن هؤلاء الاشخاص قد آمنوا، تذكّروا أن ابراهيم آمن فحُسب له ذلك برّا. هذه المرأة تعرف محدوديتها,اعترفت بأنها أدنى من اليهود لانها لم تكن من شعب الله المختار القديم ولأن عهد ابراهيم لم يصل اليها كما وصل إلى اليهود، وهي ُتقرّ انها أدنى منهم لأنها لم تعبد يهوه وبالتالي فقد أعلنت ايمانها بيهوه بدخولها في العهد مع الله بواسطة يسوع المسيح.
البقايا أو الفتات المتساقطة عن طاولة البنين
إنه إعلان مسيحاني وكريستولوجي.ربّ المائدة هو يسوع المسيح، إنه فيض الخلاص المسيحاني الذي يتحدّث عنه أشعيا وهذه المرأة الوثنية تستشهد بأشعيا بطريقة غير مباشرة، هذا الفيض لا يقف عند حدود الشعب اليهودي، سيفيض للأمم كلّها.
هذا النصّ هو ذو بعدٍ مسيحانيّ، بعد جامع للكنيسة كلّها. كنيسة المسيح تتخطّى حدود إسرائيل. اننا نؤمن بكنيسة جامعة، مقدّسة ورسولية. الجامعة هي التي تجمع كلّ الاقطار والافكار والتقاليد والثقافات. تصبح الكنيسة بإختلافها الحضاري والثقافي جسد يسوع المسيح.
لقد أعلنت بشارة فرح لهؤلاء الاشخاص، لأهل فينيقيا في الإطار الأصليّ للنّص، ومن خلال هذه الإمرأة للشعوب بأسرها. يسوع المسيح أتى ليخلّص كلّ البشر.استعمل مثلا شائعا عند اليهود(دعي البنين أولا يشبعوا...) ليثبت خطأ هذا المثل ولكي ينفيه.
"فسقطت عند قدميه"
جاءت هذه المرأة ووقعت على قدميه في وضع توسّل، هي إمرأة وثنية تسجد له، على مثال يائيرس اليهودي الذي خرّ على قدميه وابتهل إليه بإلحاح أن يشفي ابنته. لم تتراجع رغم كلام يسوع الذي بدا في ظاهره وكأنه يرفض طلبها.
الارتماء عند القدم هو ليس فقط علامة الخضوع انّما هو اعلان أن يسوع هو المعلّم. مار بولس يقول:"وتتلمذت عند قدميّ جملائيل" (أع 22) فمن عادة المعلّم الفرّيسيّ أن يجلس التلاميذ حول رجليه.
المرأة الكنعانية الوثنية هي محطّة من محطات خروج يسوع المسيح من داخل جماعة إسرائيل الى الامم كلّها. لا يحق لأيّ شعب أن يحتكر المسيح لأن يسوع المسيح أضحى جسدا ملقى في الخارج وهذا الجسد هو الافخارستيا، انه رمز الكنيسة. الكنيسة هي جسد يسوع المسيح والمسيحيون المعمّدون هم أعضاؤها. على مثال مار بولس، ذكر مرقس جسد يسوع المسيح المرمي خارج حدود أورشليم.رفض اليهود ليسوع أعطى الخلاص للامم كلّها.
جواب يسوع لهذه المرأة هو اعلان أن هذه الوثنية هي التي أصبحت في الداخل والاشخاص الذين هزئوا بها هم الذين أصبحوا في الخارج. مرقس كان يعلن رسالة خلاص للوثنيين ومتّى أكمل وأعلن ان اليهود هم أصحاب الميراث، والخلاص يأتي من اليهود انما هذا الخلاص هو بحاجة إلى الايمان. بمجرّد أنك إبن إبراهيم بالجسد فقد نلت الخلاص ولكن أين هو إيمانك؟ عندما تعلن إيمانك تنتقل من حالة الشخص البعيد عن مائدة الابناء الذي لا يحق له الاشتراك بخبز البنين، لتصبح من ضمن عائلة يسوع المسيح ولك الشراكة التامة في خبز مائدته.