أحد العنصرة
هو أحد العنصرة، أحد حلول الرّوح القدس على التلاميذ في عليّة صهيون. به تختتم الكنيسة زمن القيامة، لأن العنصرة هي ثمرة القيامة الأسمى في حياة الكنيسة، وتفتتح زمن العنصرة. بهذا العيد تفتتح الكنيسة المارونيّة زمنّاً ليتورجيّاً جديداً، هو زمن العنصرة، رمزاً للحقيقة الجديدة التي بدأت الكنيسة تحياها بعد حلول الروح على التلاميذ: زمن إعلان قيامة الرّب للكون بأسره.
(يو 14 /15-20)
هو إعلان بدأته جماعة الرّسل بعد حلول الرّوح، ولا يزال مستمرّاً حتى اليوم ويستمرّ الى نهاية الأزمنة، يوم تسجد كلّ ركبة، وتعلن كلّ شفة أن المسيح هو الرّب، وهو الرّب القائم من بين الأموات. فكما أن البشارة سوف تستمرّ الى حين مجيء الرّب، يوم تسطع في السماء علامة الصليب ويعاين مجده كلّ حيّ، يوم يقوم الأموات والّذين لا يزالون أحياء يُخطفون نحو السحاب، كذلك يستمر هذا الزمن الى عيد الصليب، رمز المجيء الإسخاتولوجيّ. فإن كان زمن القيامة هو ومن النصر الّّذي حقّقة الرّب بموته وقيامته، وزمن الصليب هو زمن الحصاد النهيوّي حين يأتي الرّب ليدين الإحياء والأموات، فزمن العنصرة هو زمن الكنيسة المبشّرة التي تكمل في التاريخ عمل سيّدها الخلاصيّ، زمن الرُسل المرسلين ليعلنوا إنجيل الرّب القائم، ويدعوا الكون للتوبة والعودة الى الرّب، لأنّ الساعة قد اقتربت.
العنصرة في العهد القديم:
إن العهد القديم العبرانيّ لا يتكلّم عن العنصرة، إنّما عن عيد الأسابيع (hag shabuot) وقد ترجمتها الكتب المقدّسة ذات التأثير اليونانيّ بكلمة "pentecoste" (را طو 2، 1؛ 2مك 12، 32).
نعرف من سفر الخروج (34، 22) أن عيد الأسابيع هو عيد زراعيّ يرتبط بالحصاد ويقتصر على تقدمة بواكير حصاد القمح: "وتَحفَظُ عيدَ حِصادِ بَواكيرِ غَلاَّتِكَ الَّتي تَزرَعُها في الحَقْل وعيدَ جَمعِ الغَلَّةِ عِندَ نِهايةِ السَّنَة، عِندَما تَجمَعُ غَلاَّتِكَ مِنَ الحَقْل" (23، 16)، وبحسب سفر تثنية الإشتراع كان العيد يقع بعد سبعة أسابيع من أوّل عملية حصاد للمحصول: "أُحسُبْ لَكَ سَبعَةَ أَسابيع. مِن وَقتِ شُروعِ المِنجَلِ في السُّنبُلِ القائم، تَبدَأُ في عَدِّ سَبعَةِ أَسابيع" (تث 16، 9).
تاريخ العيد في العهد القديم:
في بداية الأمر لم يكن لهذا العيد تاريخاً محدّداً، إذ كما قرأنا في سفر الخروج، كان يقع في الأسبوع السابع بعد بدء الحصاد، وبالتالي فقد كان يختلف بين عائلة وعائلة وبين منطقة ومنطقة. أما لاحقاً فصار للعيد تاريخاً محدّداً: هو اليوم الخمسون بعد عيد الفصح. ففي سفر اللاويين نقرأ: "واَحسُبوا لَكم مِن غَدِ السَّبت، مِن يَومِ إِتْيانِكم بِحُزمةِ التَّحْريك، سَبعَةَ أَسابيعَ تامّة. إِلى غَدِ السَّبتِ السَّابع، تَحسُبونَ خَمْسينَ يَوماً، ثُمَّ تُقَرِّبونَ تَقدِمةً جَديدةً لِلرَّبّ" (لا 23، 15). لقد اختلفت الفئات اليهوديّة حول التاريخ وطريقة الحساب، فالصدّوقيّون كانوا يحسبون غد السبت الأوّل بعد اليوم الأوّل من عيد الفصح، وبالتالي فالعنصرة كانت تقع دوماً نهار أحد، أمّا الفرّيسيّون فقد أخذوا "sabat" بمعنى الراحة لا بمعنى نهار السبت، وفهموها كغداة اليوم الأوّل بعد راحة الفصح، وبالتالي فعيد العنصرة كان يختلف بحسب اختلاف يوم بدء الفصح اليهوديّ.
في هذه الفترة أعطى اليهود للعيد اسم "esseret pessah" "عنصرة الفصح" وكلمة esseret تعني ختام، ومن هذه التسمية أخذنا نحن كلمة "عنصرة".
بعد دمار أورشليم عام 70 على يد الرومان، لم يعد ممكناً إقامة هذا العيد، بسبب استحالة القيام برحلة الحجّ الى الهيكل أوّلاً، ولأن الحصاد لم يعد ممكناً، تحوّل معنى عيد الأسابيع من عيد زراعيّ يشكر فيه الشعبُ الهَهم على عطاياه، الى عيد يذكر فيه كلّ يهوديّ نعمة إعطاء الوصايا على جبل سيناء. هذا المفهوم الجديد كان يتطوّر في زمن كتابة يوحنّا لإنجيله، وبالتالي فقد كان مفهوم إعطاء الوصايا في فكره اللاهوتيّ.
العنصرة في العهد الجديد:
في 1 قور 16، 8 يقول بولس: " وسأَظَلُّ في أَفَسُس إِلى العَنصَرة"، وهنا يدور الكلام على الأرجح حول العنصرة اليهوديّة، فبولس ينتظر العنصرة ليذهب الى أورشليم لكي يكون الجميع حاضرين هناك. فلا شيء مؤكّد حول أن العنصرة، كعيد مسيحيّ، كان قد انتشر في أفسس في ذلك الوقت المبكر من حياة الكنيسة.
أما العنصرة المسيحيّة فيتكلّم عنها لوقا: " ولَمَّا أَتى اليَومُ الخَمْسون، كانوا مُجتَمِعينَ كُلُّهم في مَكانٍ واحِد، فانْطَلَقَ مِنَ السَّماءِ بَغتَةً دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة، فمَلأَ جَوانِبَ البَيتِ الَّذي كانوا فيه، وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس، وأَخذوا يتكلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهِم، على ما وَهَبَ لهُمُ الرُّوحُ القُدُسُ أن يَتَكَلَّموا " (أع 2، 1-4). وفي أع 1، 9 يقول لوقا: "ولكِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض. ولَمَّا قالَ ذلكَ، رُفِعَ بِمَرأىً مِنهُم، ثُمَّ حَجَبَه غَمامٌ عن أَبصارِهِم". إن حدث العنصرة يرتبط بقصّة الخلاص التي تممّها يسوع، وتأتي كتتميم للوعد الّذي أعطاه لتلاميذه ساعة صعوده الى السماء بأنّه يبقى معهم الى منتهى الأيّام، بواسطة الرّوح المعزيّ والمقوّي الّذي يتكلم فيهم. إن حدث العنصرة يلد الكنيسة المُرسَلة، تصبح بواسطة الرّوح وبمعونته شاهدةً لحضور الرّب في العالم.
العنصرة في حياة الكنيسة:
إن عيد العنصرة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعيد االفصح، فالعنصرة هي ثمرة الفصح، ولولا قيامة الرّب من بين الأموات لما وُجِد هذا العيد في حياة الكنيسة. العنصرة هي قمّة حدث القيامة، فالربّ يسوع القائم من بين الأموات، المرتفع الى السماء والجالس عن يمين الله الآب، يؤكّد استمرارية عمله الخلاصيّ في حضن الكنيسة من خلال روحه القدّوس المرافق والمعزّي. فالقيامة والصعود والعنصرة هي احداث ثلاثة تتكامل لتصل الى إعطاء ثمرة الرّوح القدس في داخل الكنيسة. فالكنيسة كلّها تقتبل نعمة الرّوح من خلال جماعة الرّسل الموجودون في عليّة صهيون.
- الروح القدس يقود الكنيسة اليوم كما قادها منذ البدء لكيما تبقى شاهدة أمينة لحضور الرّب ولتعلن إنجيله في المسكونة بأسرها.
- الروح القدس يعطي الكنيسة القدرة على عيش التوبة الدائمة، من خلال توبة كلّ واحد منّا، لتبقى الكنيسة عروساً أمينة لا عيب فيها ولا وصمة، تحمل إنجيل المسيح وتبشّر بقيامته وتأوّن خلاصه في عالم اليوم.
- الرّوح القدس هو الّذي يعطي الكنيسة القدرة على الإستمرار في الإيمان الّذي قبلته، فما من أحد يقدر أن يعلن أن يسوع هو الرّب إلاّ بدفع من الرّوح القدس. والكنيسة، عروسة المسيح، تعلن إيمانها بالرّب دوماً ودون انقطاع، بنعمة الرّوح القدس الّذي يوليها سلطة التعليم والتقديس والرعاية. هو الّذي يلهمها دوماً التعليم الصحيح، ويعطيها القدرة على المحافظة على وديعة الإيمان.
- الرّوح القدس هو روح الرّب وهو روح الكنيسة، فهو الّذي يعطيها الحياة والقدرة على الإستمرار شاهدة للمسيح يسوع. هو الّذي يزيّنها بالمواهب، هو الّذي يعضدها في وظيفة التعليم، هو الّذي يحقّق قدرتها على التقديس، وهي تقود شعب الله بهدي دائم منه. فالروح القدس الّذي تكلّم في الأنبياء، وألهم كتّاب الكتب المقدّسة، هو نفسه يلهم الكنيسة اليوم لتكتشف كلّ يوم أكثر فأكثر هويّة يسوع، وحضوره وعمله في عالم اليوم.
- الرّوح القدس هو الّذي يعطي ابناء الكنيسة القدرة على اعتناق منطق الملكوت، فبالرّوح القدس لا يحيا المسيحيّ بعد بحسب الجسد، وبحسب منطق العالم الحاضر، بل يحيا في العالم كمواطن للملكوت، يسعى الى زرع كلمة الله في العالم، إنّما دون أن ينسى أن موطنه هو حيث الرّب يسوع قائم عن يمين الآب. بالروح القدس يتحوّل المعمّد من كائن يحيا بحسب الجسد وقوانين الجسد، الى كائن يحيا على قناعات الرّوح، يحيا في الجسد ولا ينغلق وجوده على بعد الجسدي وعلى واقعه الماديّ، يحوّل جسده كلّ يوم أكثر فأكثر الى آلة يعزف أنغام الرّوح القدس، يصير جسده هيكلاً يليق بالروح القدس الّذي حلّ فيه في المعموديّة وعضواً مقدّساً يكمّل جسد المسيح السرّي ويساعدها في الوصول الى القداسة.
العنصرة في حياة المؤمن:
- الروح القدس هو يسكن فينا، يحوّلنا الى هياكل للرّوح القدس: " أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟ " (1قور 3، 16). لا يحقّ لنا أن نجعل جسدنا أداة للخطيئة وللشهوّة، بالمعموديّة صرنا هياكل للرّوح القدس، وروح الرّب لا يتساكن مع روح الشرّير. علينا أن نختار بين روح الرّب وروح الخطيئة، أن نعي حجم المسؤوليّة الملقاة على كاهلنا بأن نصون دوماً اجسادنا لتكون هياكل تليق بالرّوح الّذي يعطينا إيّاه الرّب.
- الروح القدس هو الّذي يصليّ فينا: " وكَذلِكَ فإِنَّ الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب, ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف" (روم 8، 26) الصلاة هي العلاقة مع الرّب، علاقة البنوّة والصداقة. فقط بالرّوح القدس ندخل في صداقة الله، نصليّ ونصرخ اليه بدالّة الأبناء.
- الرّوح القدس هو الّذي يجعلني أحافظ على حقيقة كوني إبناً للآب "والدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إِلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: "أَبَّا"، "يا أَبتِ"" (غل 4، 6). لم نعد عبيداً بعد موت الرّب من أجلنا، إذ أدخلنا في حالة البنوّة، صرنا به أبناء لله بالتبنّي، والرّوح القدس الحالّ والمصلّي فينا هو ضمانة استمراريّة هذه الحالة، فهو الذي يدخلنا في حالة العلاقة الدائمة مع الله ابينا. ضمانة حقيقة البنوّة الإلهيّة هي كوننا نسير بهدي الرّوح القدس "إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا" (روم 8، 14).
- الروح القدس يعطينا الحريّة الحقيقيّة. كلّنا نفتّش عن الحريّة، نفتّش عنها بالطرق الخاطئة، فبدل من التحرّر نكبّل أنفسنا بسلاسل وقيود. نفتّش عن الحرّية بالشهوة أو بالخطيئة أو بالسياسة أو بالتسلّط. نفتّش عن الحرّية الجنس أو بالمخدّرات أو بالحياة السطحيّة. نفتّش عن الحريّة تاركين خلفنا كلّ علاقة عائليّة أو اجتماعيّة لنغرق في لذّة اللّذة العابرة، وحين نعود الى ذاتنا، نجد أنفسنا مستعبدين أكثر فأكثر، ونجد هيكل الرّوح، جسدنا، مثخناً جراحاً، وقلبنا فارغاً عطشاناً، وروحنا قد جفّت وبدأت تموت. نحن لم نتلقّ روح العبوديّة بل روح البنوّة: "لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إِلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ!. وهذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله". (غل 8، 15)، " لأَنَّ الرَّبَّ هو الرُّوح، وحَيثُ يَكونُ رُوحُ الرَّبّ، تَكونُ الحُرِّيَّة" (2قور 3، 17). إن كنّا نسير بهدي الرّوح فلن نسقط في فخاخ العبوديّة من جديد، بل يصل إنساناً الى ملء الحريّة التي يفتّش عنها.
- الرّوح القدس هو الّذي يعطي الإنسان المطواع ثمار الخلاص، " فثَمَرُ الرُّوح هو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف.وهذهِ الأَشياءُ ما مِن شَريعةٍ تتَعرَّضُ لَها " (غل 5، 22- 23). بواسطة هذه المواهب يمكن للمسيحيّ أن يغيرّ المجتمع الّذي يحيا فيه، من مجتمع يسوده العنف والحقد والدمار، الى مجتمع تتصوّر فيه صورة الرّب يسوع. دون الروح القدس لا يمكن للعائلة أن تجد الإستقرار، ولا المجتمع المحبّة ولا العالم السلام. بالروح القدس يسير العالم الى الهدف الّذي خلقه الله ليصل اليه: أن يعلن جمال الخالق ومحبّته من خلال موهبة السلام التي يشهد لها.
- - الرّوح القدس هو الّذي يجعل يسوع حيّاً وعاملاً فيّ، " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي" (غل 2، 20). دون الرّوح القدس لا يمكنني أن أكون شاهداً للمسيح، وشهادتي للمسيح ليست بالكلام، بل بأن يكون يسوع حالاًّ في داخلي، أن لا أحيا حالة انقسام بين رغباتي وبين إرادة الرّب يسوع، الروح القدس هو الّذي يصنع هذه الوحدة فيّ، فبه وحده أقدر أن أحيا ما أؤمن به، ودون الرّوح اصبح منقسماً على ذاتي، أرغب بالخير وأصنع الشّر، أبشّر بقيم الإنجيل وداخلي مملوء حقداً وخطفاً وشرّاً.
- الروح القدس هو أداة إيصال البشارة، لأنّه خالق للحوار الحقيقي. الرّوح يعطي الإنسان القدرة على السماع والفهم. لسنا نعرف أن كان الرسل في العنصرة قد تكلّموا اللّغات الغريبة أو أن السامعين قد سمعوا الرسالة عينها، كلّ بحسب لغته. فلوقا يقول الأمرين معاً " فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس، وأَخذوا يتكلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهِم، على ما وَهَبَ لهُمُ الرُّوحُ القُدُسُ أن يَتَكَلَّموا" (أع 2، 4) و "تَجَمهَرَ النَّاسُ وقَد أَخَذَتْهُمُ الحَيرَة، لأَنَّ كُلاًّ مِنهُم كانَ يَسمَعُهم يَتَكَلَّمونَ بِلُغَةِ بَلَدِه" (أع 2، 6). وهذا الإبهام المقصود من لوقا يعلن أن الرّوح هو الّذي يعطي القدرة على الإعلان وعلى القبول. دون الرّوح لا يمكن للرسول أن يعلن إنجيل يسوع، ودون الرّوح عينه تبقى آذان السامعين مغلقة. الروح القدس في ذلك اليوم في صهيون قد ألغى الحاجر الّذي خلقه كبرياء الإنسان في بابل، بدّد حيرة القلوب التي تضع الإنسان ضدّ أخيه، ويفتح الحدود. شعب الله الّذي تكوّن على جبل سيناء، قد نمى في العنصرة ويتخطّى كلّ حدود الدول والشعوب. إن شعب الله الجديد، أي الكنيسة، قد ضمّ الشعوب كلّها" (بندكتوس السادس عشر، عنصرة 2005).
العنصرة هي عيد الوحدة الإنسانيّة: اتّحاد الإنسان بالله خالقه من خلال تحوّله الى هيكل للرّوح القدّوس، فتنتهي كلّ عداوة مع الله بسبب الخطيئة ويعود الإنسان الى حالة البنّوة، الى حالة البرارة، الى الحبّ الإلهي. وهي وحدة الإنسان مع الآخرين، حين تصبح إنسانيّتنا كلّها هيكلاً للرّوح القدس، حين يعود التواصل ممكناً رغم اختلاف اللّغات، والثقافات والتطلّعات والإختبارات. فما يوحّد البشر هو اكثر بكثير ممّا يفرّقهم، إذ يوحّدهم الرّوح القدس، الإله المحيي والمعزّي. هو رباط وحدة الحبّ بين الآب والإبن يصبح رباط وحدة الحبّ بين الإنسان والله، وبين الإنسان وأخيه. والوحدة الثالثة التي يحقّقها الرّوح القدّوس، روح الله الخالق، هي وحدة الإنسان الداخليّة، فلا يعود الإنسان منقسماً بين ما يريد وما يفعل، بين قناعاته وتصرّفاته، بين أقواله وأعماله، بل يصبح كائناً موحدّاً داخلياً، غير منقسم ومشرذم، إنسان يسعى بكلّ مكوّناته الى أن يكون وفيّاً للدعوة التي دعي إليها. حين تنتهي عبوديّة الخطيئة في داخله ويحرّره الرّوح من سلاسل الحقد والإنغلاق على الذّات، فيتصالح مع ذاته، ومع الآخر، ومع الله، وتصبح حياته نشيد شكرٍ لله بواسطة الرّوح الساكن فيه والصارخ فيه "أبّا، يا أبي".
إن مريم الحاضرة مع الرّسل تقتبل الرّوح، هي مثال لنا، لكلّ تلميذ، في كيف نحيا طاعة الإيمان لإرادة الرّب في حياتنا. هي التي حلّ عليها الرّوح في عنصرتها الخاصّة فقبلت كلمة الله تحلّ متجسّدة في أحشائها، هي تعلّمنا كيف نكون تلاميذاّ نحمل الرّب الى الآخرين في صمت الإيمان وقداسة الحياة. هي الصامتة التي جعلت نفسها رهن إرادة السيّد فأعطت الكون يسوع، إنجيل الحياة الأبديّة، وجعلت من حياتها نشيد مديح دائم وأبدّي للرّب في مسيرة تتلمذ دائم على دروب الروح القدس.