تأمّلات كهنوتية في أسرار النور
السرّ الأوّل: معموديّة يسوع في الأردّن
كم أحسُدك يا نهرا" قبل في داخله جسدَ يسوع، يا مياهًا مسّت طهارة جسم الإله فصارت أنقى من النقاء. يا مياهًا تعطي الحياة قبلت في حشاها نبع الحياة. ربّي وإلهيّ، أشاهدك من خلال نظرات يوحنّا، أراك الحمل الطاهر النقّي، دون وصمة معصية ودون خطيئة. رأيتك الحملَ الطاهر، يسير نحو الأردن حاملًا على كتفيه خطيئة الكون بأسره. تسير نحو معموديّة لستَ بحاجة إليها، لأنّك النقيّ الأزليّ والحمل الأبديّة برائته. رأيتك تنزل في مياه أنت خلقتها، وجعلت روحك ترفرف فوقها قبل أن تولد الشمس وقبل أن يخرج الوجود من صمت العدم. تسير نحو مياه الأردن، تحمل خطيئتنا، خطيئة كونٍ رفض الله وهزيء بمحبّته. نزلتَ إلى النهر لتقول لي: هلمّ أنت أيضاً، أغتسل من ماء الحياة، أدخل في حشاً يلدك من جديد. لقد حوّلت، ربّي، الماء إلى حشا يعطينا ولادة جديدة.
أنت المسيح الملك، نزلت إلى الماء لتقول لنا، أنتم أيضًا ملوك، وأبناء للملك الأبدي. هلمّوا، تعالوا اعتمدوا، إنزلوا في الماء عبيداً واخرجوا منها حاملين حريّة أبناء الله، أدخلوا أمواتاً بخطيئتكم، واخرجوا منها حاملين الحياة الأبديّة، أدخلوا إلى معموديّتي متألّمين، مجروحين، مكسوري القلب والكيان، واخرجوا كائناً جديداً، يطلق لله نشيداً جديداً، نشيداً يجهله العالم، نشيد التحرّر والتبنّي، نشيد التحوّل من متسوّلين لحبٍّ لا تجدوه إلى كائن حرّ، إلى ملوكٍ وأبناءً لملك الأبد.
أنت المسيح النبيّ أتيت، كنبيّ الآب، تعلن للكون إرادة الله في العالم. بالمعموديّة جعلتنا أيضاً أنبياء، بالمعوديّة أزحت خوفنا، وضعفنا، وجُبننا، وخيانتنا، وأعطيتنا القدرة على أن نصبح للآب أنبياء، أنبياء العهد الجديد: نعلن في حياتنا، في مجتعنا، في وطننا، في كنيستنا، في عالمنا، في الكون بأسره، ما هي إرادة الله. نقول لكلّ إنسان: لا تخف الموت، لا تخشى السقوط، لا تفتّش عن آلهة مزيّفة، فالله هو أبوك، هو يحبّك، وهو الّذي يعطي الخلاص.
أنت الكاهن، كاهن الآب السرمدّي، جئت تعيد لنا علاقةً كسرناها مع الله أبينا، جئت تصير نقطة الوصل بيننا وبين الآب. وبالمعموديّة أعطيتنا أن نصير كهنة، نعيد نحن أيضاً إخوتنا إلى العلاقة مع الآب. نحن أيضاً، بكهنوت المؤمنين الّذي نناله بالمعوديّة، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، أطفالاً وشيوخاً، من كلّ شعب ولون وأمّة ولسان، صرنا بمعموديّتك كهنة نحوّل حقيقة عالمنا، نضع في مادّة العالم الميّتة قوّة روحك المحيي، نحوّله من عالم مادّي ميت إلى مادّة يملأها الروح. بمعموديّتك يصبح عالمنا قربانة عظيمة، يحوّلها روحك إلى إناء يحتوى وجودك وحبّك وجمالك.
يا من نزلت في مياه الأردنّ لتعطيني الحياة، إجعلني أذكر دوما" وعودي لك، بأن أكون رغم ألمي فرحاً، ورغم يأس العالم مملوءاً رجاء، ورغم ضعفي نشيطاً في نشر إنجيلك، ورغم خوفي شجاعاً في التبشير بك. إجعلني أذكر دوماً أنيّ ابن ملك، فلا ألقي جواهر أبي في طرقات الضلال، وأنيّ نبيّ العهد الجديد، فلا أُعلن إلاّ إرادتك في حياتي، وأنيّ كاهنٌ تكرّس بماء العماد، فلا أسعى إلا إلى القداسة، إلى الحبّ، إلى الخدمة، إلى مجّانيّة العطاء.
السرّ الثاني: أولى آيات يسوع في عرس قانا
هل أقف يوماً أمام عرشك وأكتشف أن خمري قد نفذت ولم أنتبه؟ هل أقف يوماً أمام ديّان يكشف لي كم من سنين اهدرت في التفتيش عن خمر الفرح في أجران مياه موحلة؟ هل أندم ساعة لا يعود للندم نفعٌ حين أنظر عيناك تكشفان أمامي كم أهدرت في سنين عمري من خمر النعم أعطيتَه أنت لي، فاحتقرتُه، ورميته، ولم أعلم يوماً قيمته؟
كم من سنين قضيتُها أفتّش عن هذه الخمرة الجديدة: تعبت من مذاق خمرةٍ بائدةٍ، كريهةٍ، عابرةٍ، لا تروي رغبة قلبي، رغبة الفرح، رغبة الرجاء، رغبة القداسة، رغبة الخلود، رغبة مذاق الأبديّة؟ كم من وقت أضعتُ وأنا أفتّش عن فرح القلب في لّذات عابرة، في شهوة السلطة، في الجشع إلى المال، في الوصول إلى وظيفة، في لهوٍ رخيص؟
في نقص خمرة عرس قانا، أبصرتُ الخمرة تنقصُ في عرس خلاصي، خفتُ، ارتعدتُ، ارتجفتُ واوشَكَت شمسُ الرجاء تغيبَ عن وجودي. في نقص ذاك العرس رأيت نقص حياتي، في اضطراب أهل العرس أبصرتُ يأسي. في زقاق النبيذ الفارغة أبصرت كلّ ما صنعته بداي حتى اليوم، رأيت الفراغَ، شاهدتُ كلّ ما ظننتُه ذا قيمةٍ يتهاوى، رأيت أبراج كبريائي العاجيّة شغلت شبابي في بنائها تهوي، تتكسّر، تتلاشى.
عندها، حين أصبحت كالطفل بين يديك، دون كبرياء احتجبُ خلفَه ودون خمرة زائفة أتباهى بها. عندها فقط أدركتُ أنني فشلتُ، وأن قواي وحدها لا تنفع. عندها فقط عرفت أنّك وحدك قادر على أعطاء حياتي معناها العميق، وأدركت أن خمرتك وحدها قادرة على ملء فراغ قلبي وضياع كياني. ولكن كيف أعود؟ فدربك مختلف عن دروب العالم التي اعتادت عليها قدماي، وتعليمك غريبٌ، عميقٌ، مختلف!
كيف أعود وكبريائي يقول لي: لا تفقد ما تبقّى لديك من خمرة عتيقة. كيف أعود وخوفي من أن أسمعك تقول لي "إذهب عنّي" يكبّل قوّتي؟
عندها سمعت صوتها، صوتَ صبيّةٍ شجاعةٍ، طفلةٍ حكيمةٍ، أمٍّ بتول وعروس. سمعتُ صوتَها يهمس في داخلي، يقول لي "تشجّع وافعل ما يأمرك به ابني، تشجّع ولا تخش أن تعطيه قلبك، فهو قادر أن يملأك قلبك فرحاً. لا تخف من أن تقول له "لقد نفذ خمر رجائي"، فهو وحده يقدر أن يحوّل ماء يأسك إلى خمرة فرح جديدة، لا تتردد، إذهب إلى ابني، فهو يحوّل فراغ ماضيك إلى مستقبل تملأه الوعود، إذهب اليه فعنده الخلاص، إذهب اليه، فهو لا ينظر إلى قباحة الأمس بل إلى جمال الغد برفقتك، إذهب اليه، وافعل ما يأمرك به".
قلت لها "سيّدتي، جميلتي، أميّ، يا عذراءً مباركة وقدّيسة، أخجل منه وأخاف الرفض، أبقيني معك، ضميّني بين يديك، وأجعلي منّي ابناً لك"، وسمعت صوتها العذب يقول لي "أنا له بكلّيتي، ودون ابني لا معنى لوجودي، إن بقيتَ معي وخفتَ ابني، فهو فشل الخلاص. أنا هنا لأرشد التلميذ إلى ابني، لأقول له دوماً "أبني وحده يعطيك الخلاص، فاذهب اليه ولا تتردّد"، عندها أتيت إلى ربّي.
السرّ الثالث: يسوع يعلنُ مجيء ملكوت الله
ثلاث سنين قضاها الناصريّ مبشّراً، يجول دروبَ أرض الأجداد، من الجليل إلى السامرة، من اليهوديّة إلى عبر الأردن، من أورشليم إلى صيدا وصور. ثلاث سنوات تقدّست بها أرضنا من مسّ قدميّ خالقها ومخلّصها. انطلق يحمل رسالة الآب وينشر كلمته في آذان سامعيه وقلوبهم.
لم يحمل لهم ناموس موسى والوصايا العشر، لم يؤنّبهم لأنّهم لا يغتسلون خمس مرّات في النهار، لم يهتم إن كانوا يقومون بالحج إلى أورشليم ثلاث مرّات في السنة. لم يعلن لهم أن قد اقترب الخلاص من المحتل. لم يبشّهم بالعقاب الآتي ولا أخاف قلوبهم بالغضب والقصاص والعذاب والموت. لقد إنطلق في مدن الآباء التي انتظرت طويلاً خلاص الرّب ليعلن لهم أن ملكوت الله قد اقترب، لا بل أنّ ملكوت الله حاضر بينهم. هو الفقير المتجوّل، لا حجر يلقي عليه رأسه، هو الفقير لا إلى المال، فالمال لا يشتري الملكوت، ولا إلى الحنان، وحنان الله يسكنه وحناه مريم يرافقه. ليس فقيراً إلى الأصدقاء، فحيثما حلّ وجدهم: في الأبرص وجدهم، في النازفة وجدهم، في المخلّع والعشّار، في الزانيّة يغفر لها، في الأعمى الملقى على قارعة الطريق، في الأطفال وجدهم. فقره الدائم هو إلى شجاعة تلاميذٍ لا يخافون مشاركته البشارة، حاجته إلى رجال ونساء يعلنون، بالكلمة وبالعمل، بالقناعة وبشهادة الحياة، أن ملكوت الله قد هو بيننا.
المسيح لم يبشّرنا بملكوت ما وراء الموت، بل صار هو الملكوت، حلّ بيننا ورمى في عالمنا بذرة ملكوته لتنمو بصمت وببطء إن نحن اعتنينا بها: فملكوت الله يشبه حبّة خردل سقطت في الأرض، فصارت شجرة عظيمة. ملكوت الله يشبه الطفل الصغير الّذي احتضنه يسوع، يحتاج إلى عناية وسهر وتضحية لينمو ويكبر.
لقد رمى يسوع بذرة الملكوت في قلبنا، لنحوّل كوننا إلى مثال ملكوته: فإن كانت السماء بحر حبّ لا ينتهي، فالعالم، على مثال الملكوت، لا بدّ أن يمتليء حبّاً. إن كان الملكوت اتّحاداً دائما بالرّب مصدر سعادتنا الأبديّة، فالكون يصبح ملكوتاً إن جعلنا من الرّب ملكاً على قلوبنا وعيالنا ومجتمعنا ووطننا والكون بأسره، وأتّحدنا به برباط حبّ وصلاة. إن كان الملكوت عطاء دائماً فبعطاءنا نحوّل كوننا إلى صورة الملكوت. لهذا فتّش الرّب عن تلاميذه، لهذا يفتّش اليوم عنّا، يحبّنا، يثق بنا، يريدنا أن نكمل ما بدأه، يرغب أن ننمي في عالمنا بذرة ملكوت زرعها ورواها بدمه فوق الصليب.
فلنحوّل قلوبَنا إلى ملكوت صغير، يحلّ فيه الرّب ويستريح، لنحوّل عائلاتنا إلى ملكوت صغير، يشع سلاماً وحبّاً وتضحيّة وصلاة، لنحوّل وطننا إلى ملكوت صغير، بالإتفاق والمحبّة وقبول الآخر والتعاون، بنبذ الحقد وبنشر السلام، لنترفّع عن كبريائنا، لنرذل غضبَنا، لنترك حقدنا، لنرمي خلفنا انتقامنا، ولنعلن للكون بأسره أنّنا بناؤون نبني ملكوت الله على الأرض، وأنّنا زارعون نبذر في كوننا ثمار السلام.
مريم، يا من انتظرت ابنها، وسهرت على عمله، يا من تصلي اليوم من أجل من يكملون عمله وينشرون ملكوته، كوني لنا رفيقة وعلّمينا كيف نكون على مثالك، نحمل ملكوت الله في قلوبنا. آمين.
السرّ الرابع: يسوع يتجلّى أمام تلاميذه
ربّي وإلهي، قلّ لي، أفهمني، لماذا تجلّيت؟ ألتُعلن للتلاميذ أنّك إله؟ كلا، فألوهتك لن يفهموها دون رؤية الصليب. لماذا صعدت إلى جبل عال كما فعل موسى؟ التقول لتلاميذك أنّك موسى الجديد؟ انت أكبر من موسى، أنت خالق موسى. لماذا التجلّي، لماذا الصعود؟ لماذا الجبل ولماذا التلاميذ؟
تجلّيك لم يكن لتُظهر للتلاميذ حقيقتك، بل حقيقتهم. تجليّت، وأظهرت جمال الألوهة المحتجب في خبايا إنسانيّتك، لتظهر للإنسان جمال الحقيقة الأبديّة المزروعة في كيانه. صعدت الجبل، بعيداً عن ضجيج المدن، وصخب الأسواق، ابتعدت حتى عن ألم أحبّائك المرضي، أوقفت التبشير بملكوت السموات، تركت الفرّيسيين والصدوقيّين في جدل نواميسهم وقوانينهم، وصعدت إلى جبل الروح الشاهق، صعدت إلى حالة الإنسان المصلّي، ارتقيت فوق حقيقة المادة والمكان والزمان، وأظهرت للتلاميذ حقيقة الوجود، وأهمّية اللّقاء بالله سبب وجودنا وغاية حياتنا. صعدت وأصعدت معك الكلّ، نقلتَنا من حالة الكائن المنغلق على المادة والألم والموت، ورفعتنا إلى حالة الإنسان المتجلّي، الّذي يُظهر في وجوده وفي حياته حضور الله وجمال الروح.
صعدت إلى ذلك الجبل لتقول لنا ما هو الأساسيّ في حياتنا وما هو الثانويّ، وحده اللّقاء بالله يعطينا جمال الوجود، وحده الإتّحاد بالخالق يجعل داخلَنا مليئاً جمالاً، وحده الإختلاء بالآب، بالصلاة، بالتأمّل، بقراءة الكتب المقدّسة التي تجلّت حقيقتها يوم تجلّيك في شخص موسى وأيليّا. تجليّت لتقول لنا: "كفوا عن السعي وراء الثانوي متناسين الأولّي في حياتكم، فماذا ينفع التبشير بالله كلّ يوم إن كنّا لا نتكلّم معه، ولا نصليّ له، ولا نفكّر بحضوره في حياتنا؟ كيف نعلن حبّ الرّب إن كنّا لم نختبر هذا الحبّ في عشقنا للمسيح ولسرّ المسيح وكنيسته؟ ماذا ينفعنا إن ربحنا الكون كلّه وفقدنا أنفسنا؟ وماذا نُعطي فداءاً عن أنفسنا؟ ماذا نقول له حين نقف أمامه، بإيدينا الفارغة وقلوبنا المنهكة؟ أنقول له: بشّرنا باسمك طيلة حياتنا؟ سيقول لنا: "لم تصلّي لي يوماً، لم تتحدّث معي، لم تقرأ كتابي، لم تقل لي يوماً أحبّك، فكيف بشّرت باسمي؟ وأي إله أوصلت لإخوتي؟". صعدت إلى ذاك الجبل، لتقول لنا: إصعدوا أنتم أيضاً، تسلّقوا جبل الله لتختلوا بإلهكم، لتسمعوا إرادته، وتحصلوا على قوّة الروح تحملوها إلى الآخرين، إصعدوا لتأخذوا الطعام الرّوحيّ، ففاقد الأمل لا يعطي أملاً، وفاقد الرجاء يبشّر باليأس، والّذي يجهل الله، فبمن يبشّر.
وحين نصبح على قمّم جبل الروح، أعطنا الشجاعة لننزل من جديد، أعطنا القوّة لننطلق مرّة أخرى إلى وادي الألم نزرع فيه الرجاء، أعطنا القوّة لنترك لذّة الإختلاء، لنعانق من جديد أحزان إخوتنا، ونضمّد جراح جسدهم وروحهم. أعطنا فرح العودة من جبال الله إلى وديان هذا العالم، حاملين في قلبنا وفي وجودنا فرحاً لا يقدر العالم أن يعطيه، فرح الرجاء وسط الألم، فرح القيامة من قبور مشاكل أيّامنا، فرح اللّقاء، فرح الصلاة، فرح التأمّل، فرح أن نكون أبناء الله، وأن يتجلّى جمال الله في وجودنا.
مريم، يا ملكة تجلّت في حياتها قوّة الله وجمال كلمته، علّمينا أن نصعد دوماً إلى جبل الصلاة، جبلاً ارتقيت اليه كلّ يوم، في صلاة لا تنتهي من أجل أولادك، أعطينا قدرة أن يشعّ جمال الله فينا كما أشعّ في داخلك، وأن تتجلّى قدرته في حياتنا كما في حياتك، جمال نمى في حشاك وأشعّ بأنواره على العالم بكونه. آمين.
السرّ الخامس: يسوع في العشاء الأخير، يعطينا جسده ودمه
في الليلة التي سبقت آلامه، أخذ الخبز وبارك مقدّساً الآب، وكسر وأعطى التلاميذ، خذوا كلوا، قال لهم، كلوا جسد الحمل الحقيقيّ الحامل خطيئة العالم. كلوا جسداً يعطيكم حياةً وكفوا عن البحث عمّا يعطيكم الفراغ.
هل كانت المرأة التي صنعت الخبز ذاك المساء أن خبزها سوف يحوي جوهر الخالق والفادي؟ أعلم الزارع الّذي بذر القمح في حقله البعيد، والحصاد الّذي جنى تعب الزارع وانتظاره، أن قمحه سوف يضحي سوف يصبح أعظم من الكون؟ طوبى لإنسانيّتنا، قد صارت شريكة المسيح في ذبيحته، طوباها أرضنا فقد صارت والدة لنعمة الله العظمى: أوليس هذا الخبز وليد أرضنا المباركة وجنى تعب الإنسان؟
وبعد العشاء، أخذ الكأس وبارك مقدّساً الآب معطي الوجود، وأعطى التلاميذ وقال: إشربوا شراب الحياة، إشربوا دماً روحيّاً مقدّساً يحوّلكم بدل دم الذبائح تريقونها على مذابح هياكلكم. خذوا دمي، وفي الدم الحياة، خذوا حياتي، قال لهم، ومع الكأس اشربوا أحلام الله فيكم، وإرادته في حياتكم.
كل طعام يأكله الإنسان يحوّله الإنسان إلى كيانه، وحده القربان يحوّلنا إلى صورة الله. نأكل، فنتّحد، فنتحوّل. نتحوّل نحن إلى نعمة الله في القربان، نصبح نحن أيضاً مدعوّوين لأن نكون ذبيحة كاملة لله الآب. نتناول لنتحوّل، وإن لم نتحوّل، يفشل فينا خلاص الله.
القربان في حياتنا هو الغذاء وهو الدليل، على مثاله نتحوّل، لنصبح مثل القربان، حاوين وجود الله في حياتنا. والكأس التي أخذها التلاميذ من يد المعلّم هي كأس الخلاص، خلاص البشريّة بأسرها. نحملها، نتناولها، نتّحد بها، لنصبح بدورنا كأس الخلاص لإخوتنا وأخواتنا. نصبح بالقربان الّذي نتّحد به، علامة الخلاص لشعب الله، ودليلاً لحضوره في وسطهم.
بالقربان نصبح هياكل لله حيّة، فينا يحلّ الربّ حقيقة وسرّياً بجسده ودمه، يحوّلنا إلى مثاله، يجعل من كلّ واحد وواحدة مسيحاً آخر، ينطلق إلى الخدمة، إلى التبشير، إلى إعلان حبّ الله لنا. بالمناولة نصبح بيوت قربان حيّة تحتوي المسيح، فهل نكرّم هيكل الله هذا؟ هل نحافظ على بيت قربانه نقيّاً ناصعاً دون وصمة خطيئة؟ هل نليق بحمل الجسد هذا، وهذا الدم؟
مريم، هيكل حلّ في داخلها الرّب بجسده ودمه، مريم التي أعطت الكون المسيح بالجسد، ووقفت تنظر دمه يسيل من أجلنا على الصليب، مريم الحاضرة دوماً عن يمين مذبح ابنها، تشير الينا "تقدّموا"، تقول لنا "بالنقاوة تقدّموا، واعلموا ماذا تغعلون، تقدّموا لتلمسوا وتأكلوا جسداً يخاف الملائكة النظر اليه، وقوّات السماء ترتعد لرؤيته، وأجواق الملائكة تعبده، تقدّموا بالنقاوة، وخذوا ابني، خذوا وحيدي، لتكون لكم الحياة، وتكون الحياة فيكم وافرة". آمين.