مومياء أم أيقونة حقيقية
الصورة
لم تكن يوماً أمراً مستجداً في التاريخ الإنساني. منذ فجر البشرية هيمنت وسادت في ربطها الحميم بين الوجود والإدراك. وهي تخاطب كل البشر: الصغير والكبير، المثقف والأمّي، وتكسر حاجز اللغات والعادات، لتكون إحدى أهم أدوات التعبير في عالمنا... وعندما بدأت بذور الإيمان تتكلم عن رحلة ما بعد الموت، لم تخفت أهمية "الصورة" لا بل إكتسبت بعداً ودوراً أساسيًّا في إكتساب الحياة الثانية بعد هذه الفانية.
مصر القديمة
في تعقيدات عقيدة الموت فيها، تجذّر الإيمان بأنّ إحدى مكونات الإنسان وهي (الكا) والتي كانت تعتبر بمثابة نفس الميت الطيبة: كانت تعود للتتحد بصورة الميت فتجد طريقها إلى الحياة. وإذا ضاعت الصورة، هامت (الكا) ومعها ضاع مكون آخر من الروح وهو (البا) الذي كان يعود كل ليلة "بعد قضاء وقت عند نور الشمس". هذه التفسيرات ترد في كتاب الموتى وهو مجموعة من الوثائق الدينية والنصوص الجنائزيّة التي كانت تستخدم في مصر القديمة، لتكون دليلاً للميت في رحلته للعالم الآخر. وبالتالي فبضياع الصورة تضيع فرصة "الحياة الأبديّة الطيّبة" كما فهموها... ومن هنا ندرك لماذا إكتسبت عادة الحفاظ على (الصورة) من خلال التحنيط والتماثيل والنقوش والرسوم... أهميّة بالغة!
"على صورته كمثاله" (تك 1: 27 )
أمّا على أنوار الكتاب المقدس فنعرف، منذ التكوين، أنّ الله شكّل الإنسان على "صورته"، وبالطبع ليس المقصود هنا بالصورة الإلهيّة، أنّ الإنسان يشابه الله في صفاته الإلهيّة، مثل الأزليّة، وعدم المحدوديّة... إنّما المقصود هو "الصفات النسبيّة كمثل الطهارة، النقاوة والبر..." لكن بعد السقوط في الخطيئة، تهشّمت الصورة وتشوّهت وابتعدت عن معرفة الله وبالتالي عن طريق الحياة. فكان لا بد أنْ يأتي الرب المسيح "صورة الله غير المنظور" (كو1: 15)، ليعيد إلينا بتجسّده صورة الله كي نحاكيها... وبهذا يدعو الله البشر لاستعادة القداسة المفقودة و "ليكونوا مشابهين صورة ابنه" (رو 8: 29 ) فينالوا الحياة.
فيرونيكا: ” الأيقونة الحقيقيّة”
ضمن مساحة أحداث حياة يسوع الأرضية، يخبرنا التقليد أنّ على طريق الجلجلة قامت سيدة بمسح وجه الرب إبّان وقوعه تحت ثقل الصليب. وعند عودتها إلى منزلها، الذي تم تحديده في أوائل القرن الخامس عشر في أورشليم كإحدى مراحل درب الصليب، وجدت أنّ صورة وجه السيد قد طبعت على المنديل، وكانت الآلام واضحة على ملامحه. هذه المرأة التي يعتقد البعض أنّها نفس المرأة النازفة التي شفاها الرب يوم كان متّجهاً إلى بيت يايرس رئيس المجمع، أصبحت تُعرف ب"فيرونيكا" أي "الأيقونة الحقيقية" أو "الصورة الحقيقية"؛ ونعرف أنّها ذهبت إلى روما وشَفَت الإمبراطور طيباريوس بقوّة المنديل الذي تحمله... أي بقوّة صورة الإبن المصلوب.
بعد هذه الحادثة بحوالي ألف وسبعمئة عام، قامت صبيّة إيطاليّة وهي أورسولا جولياني بدخول دير الراهبات الحبيسات للكلاريس الكبوشيّات في مدينة كاستيلو، حيث بقيت طوال حياتها. وهناك تسمّت باسم فيرونيكا، حيث شاءت أن تصبح "صورة حقيقية" للمسيح المصلوب. بحسب البابا بنديكتس السادس عشر إنّ المسيح الذي تتّحد به فيرونيكا جولياني بعمق: هو المسيح المتألّم ... إنّه يسوع في تقديم نفسه ذبيحة من أجل خلاصنا.
لقد عاشت فيرونيكا المشاركة بالمحبّة المتألمة لِيسوع بطريقة عميقة، لا محبةً بالآلام إنّما محبةً برب الآنام وبخلاص النفوس... وأمام ناظريها كلام القديس بولس في رسالته إلى أهل كولوسّي :“إنّي أفرح الآن بالآلام التي أُعانيها من أجلكم، وأُتِمُّ في جسدي ما نقص من مضايق المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة”، توصّلت فيرونيكا لأنْ تطلب من يسوع أن تصلب معه.. فتكتب: “وفي لحظة، رأيت أنّ شعاعات ساطعة خرجت من جراحه الخمس؛ وأتت كلّها صوبي. ورأيت هذه الشعاعات تصير كشعلات صغيرة. كانت هناك في أربع منها المسامير؛ وفي واحدة الحربة، كالذهب مشتعلة بكاملها: واخترقت قلبي، من جهة لأخرى... ومرّت المسامير يديَّ ورجليّ. شعرت بألمٍ كبير؛ ولكن في الألم نفسه، كنت أرى وأشعر بنفسي متحوّلةً كليًّا إلى الله” (مذكّرات، القصل الأوّل، 897).
علمت القديسة المتصوفة أن مسيحنا لا يمكن أن يكون ذاك المسيح المفَصّل على قياس الراحة و التساهل. وفهمت أنه عندما رفض الإنسان المحبة و فرض الصليب: إرتضى يسوع المسيح الإله أن يفدي الإنسان بالألم.... أتى إبن الله وحمل صليبنا و جعل من آلامنا سلماً للسعادة الأبدية. وإذا كان لا بد من الألم و لا مفر منه: لما لا نسلّمه للمصلوب الذي بدل طبيعة الآلام؛ فلم تعد عاراً ولا نيراً ثقيلاً لأن إبن الله خضع لها وخفّف من هولها وقدّسها. مع يسوع إنقلبت المقاييس و أصبح الألم طريقاً إلى المجد والقيامة و الفرح الأبدي... وهكذا قبل أن تترك فيرونيكا حياة الأرض في التاسع من تموز 1720 تمتمت كلماتها الأخيرة:
“لقد وجدت المحبّة، والمحبّة جعلت نفسها مرئيّة!! هذا هو سبب آلامي. أخبروا الجميع بهذا، أخبروا الجميع بهذا”...
في طيات هذه الكلمات الذهبية خلاصة حياة قداسة عكست "صورة حقيقية" للمسيح، صورة توحدت معها نفس فيرونيكا الأمينة ... إنها أيقونة الحب المصلوب و لكنه الحب الشافي الذي لا ينكر الحقيقة بل يحوّلها من حالة اللعنة الى حالة النعمة.
اليوم، و بعد مضي مئات الأعوام لا تزال صورة فيرونيكا، تلك الراهبة التي إستحبست في الريف الإيطالي الهادىء، صورة مشعة حيّة ... تذكرنا أن من يلبس المسيح (غل 3: 27) يلبس صورة الله!
زمننا هذا يطلق على ذاته لقب «عصر الصورة» : و لكن بتنا نعلم أن "لا جديد تحت الشمس".... فمن فجر البشرية الى أحضان ثقافات كتلك الفرعونية الى أيامنا "التكنولوجية" : لا تزال الصورة تحتل موقع الهيمنة والسيادة!! لكن يبقى أن نختار أي صورة نود أن نعكس:
أصورة الإنسان "القوي في الظاهر" و المومياء في الداخل أم "الصورة الحقيقية" صورة المسيح المصلوب الذي وحده يستطيع أن يقيم إنساننا المنكسر؟!
حبذا لو نحسن الخيار... و لا نخسر "الصورة الحقيقية" كي لا تضيع فرصة" الحياة الأبدية الطيبة"...
حبذا لو مع القديسة فيرونيكا نتحدى الألم بالإيمان والرجاء لنهتف "وجدنا المحبة" ونصبح لها أمام أخوةٍ هائمين و مجروحين "أيقونتها المرئية": فنمشي و إياهم الى ميناء الرحمة الأمين...