الأطباء الثلاثة و معنى الحياة
ينقلنا فروست، المتخصص في لاهوت الكرازة، إلى فيينا - أوروبا، في الفترة التي سبقت الحرب العالميّة الثانية:
ثلاث أطباء نفسيّين من أصل يهودي أرادوا التبحر في المحفّز الرئيسي الذي يدفع الإنسان نحو الحياة. إثنان منهم كانا معروفين وشهيرين أمّا الثالث فكان شاب مبتدىء في أوّل طريقه.
وبعد دراسة، خلص الأول، ويدعى سيغموند فرويد، إلى إستنتاج مفاده أنّ المحرّك الأساسي في البشر هي اللذة، وحاجتنا لها تفسِّر كيف نعيش ولماذا نفعل ما نفعله.
أمّا الثاني، وهو ألفريد أدلر، كان قد أمضى أيضاً سنوات في دراسة السلوك الإنساني. وقد وصل إلى خلاصة يخالف فيها وجهة نظر فرويد. فقد إقتنع أدلر أنّ بيت القصيد في شرح السلوك البشري هو القوّة. وأنّ كلّ واحد منّا يكبر مع عقدة نقص ويشعر أنّه عاجز... لتصبح الحياة مسرح لعرض القوى، واكتساب الشعور بأنّنا على قدر من الأهميّة.
كان الطبيب الثالث شاب اسمه فيكتور فرانكل، يأمل أن يسير على خطى معلّميه. ولكن قبل أن تبدأ مسيرته بكسب أي زخم بدأت الحرب العالمية الثانية. واستدراكاً للخطر النازي على اليهود استطاع العالمَين فرويد وأدلر، بفضل شهرتهما، الهروب قبل غزو هتلر للبلاد. لكن فرانكل لم يحالفه الحظ، وألقي القبض عليه ورمي في معسكر اعتقال نازي لمدة أربع سنوات كانت طويلة وشاقة.
بعد انتهاء الحرب، تمّ تحرير السجناء من معسكر الاعتقال، واستأنف فرانكل مسيرته كطبيب ومحلّل نفسي. ولكن خبرة السجن قلبت جميع المقاييس... فكسجين، لاحظ فرانكل شيئاً غريباً جدّاً: إنّ الناس الذين استطاعوا النجاة لم يكونوا ممّن توقّعهم من أصحاب الصحة الجسديّة الصلبة!! فكثير ممن كانوا بدنيًّا أقوياء ماتوا والأكثر ممّن كانوا هزيلين وضعفاء من حيث البنية استطاعوا النجاة. وكان الطبيب الشاب يتساءل ويبحث عن سرّ هذا الصمود والمحرّك لحفظ الحياة في هذا الجحيم الذي لا يطاق!!
وأخذ فرانكل يفكّر في نظريّتي معلّميه: مبدأ اللذة لفرويد لا يمكن أن يفسّر هذه الواقعة: ففي هذه الأربع سنوات اليائسة والرهيبة في المعسكر لم يعرف السجناء سوى الألم والمعاناة والتدهور. تغيب "اللذة" من مفردات عيشهم اليوميّة ولا يمكن أن تكون السبب في بقائهم على قيد الحياة.
ثم إنتقل فرانكل محلّلاً نظريّة أدلر عن القوّة والسلطة على إنّها حاجة إنسانيّة أساسيّة. ولكنّها لم تبلي حسناً في هذه الحالة: ففرانكل وزملائه السجناء كانوا عاجزين تماماً خلال فترة وجودهم في معسكرات الاعتقال. كلّ يوم كانوا يواجهون فوهات البنادق الملقمة، يعاملون كالحيوانات... لم يكن لديهم لا القوّة ولا السلطة للتحكّم في أدنى حقوق حياتهم!!
وعليه خلص فيكتور فرانكل إلى نظريّته الخاصة. فالفارق بين أولئك الذين نجوا، وأولئك الذين لقوا حتفهم كان الرجاء. أولئك الذين نجوا لم يتخلّوا أبدًا عن اعتقادهم بأنّ حياتهم تلك في المعتقل، وعلى قسوة شروط إستمرارها، تحمل معنى. كان الناجون مدفوعين بشكل رئيسي ب"السعي لإيجاد معنى لحياتهم"، وأنّ هذا الحسّ بالمعنى هو الذي يمكّن الإنسان من التغلب على التجارب المؤلمة.
وكثيراً ما تختلط علينا الأمور... وغالباً ما نعتبر أنّ اللذة والمتعة أو السلطة هي المحرّك الأساسي لعيشنا. وغالباً ما تأخذ تلك حجم الألوهة في حياتنا!! فيصبح كل شيء مباح لإرضاء إله اللذة. وتسقط الإنسانيّة على قدمي إله السلطة وتكثر الأضاحي من "أخوة يسوع الصغار".... و ليس من المستغرب أن نرى يوماً وجوهنا الشخصيّة بين الأضاحي تلك!!!
أوصى فرانكل الذي أصبح مدرسة في التحليل النفسي، بأن يُقابَل تمثال الحريّة، الموجود على الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، بتمثال المسؤولية على الساحل الغربي!! لقد أصاب الطبيب... فلا تقوم حريّة الإنسان على القيام بما يريد!! إنّما الحرية الحقة هي القائمة على مواجهة الموت، لا الموت الأخير، بل ذلك الموت اليوميّ الذي تفترضه علينا أصنامنا. الشيء الوحيد الذي يعطي قيمة لحياتنا هو البحث، لا عن سلطة أو لذة بل عن معنى!! و تبقى أعمق معاني الحياة هي باختبار البركة حيث يسمع الإنسان نداء الله له بأن يكون واقعاً مخصباً بحبه الأبديّ... يقول كتاب أعمال الرسل أنّ "الله صنع من دم واحد كل أمّة من الناس لكي يطلبوا الله لعلّهم يتلمّسونه فيجدوه، مع أنّه عن كلّ واحد منا ليس بعيدا... ففيه حياتنا وحركتنا وكياننا" (أع 27:17-28 ). فعلّ كلّ منا يجد المعنى في النموّ في معرفة الله والاستجابة له، لأنّه بهذا تنطلق مسيرة حياتنا من اللعنة إلى البركة. ونستذكر هنا كلمات القديس أغسطينوس عندما ارتاح بحثه الطويل عن معنى حياته ليجده في الرب!! فهتف:
لقد احببتكَ متأخراً ايّها الجمالُ القديم الحديث... أجل متأخراً احببتك
أنت كنت في داخلي وأنا خارجاً عن نفسي، وفي الخارج بحثت عنك طويلاً
ووثبتُ في قباحة نحو الجمالات التي كونّتُها
أنت كنت معي وأنا لم أكن معك
استوقفتني بعيداً تلك الأشياء التي لولا وجودها فيك لما كان لها وجود
لكنك دعوتني وصرختَ بي فانتصر صوتك على صمتي،
وسطع نورك فبدّد عماي، وفاح أريجك فتنشّقته وها انني إليك أتوق
أيّها الحب المشتعل دوما ولا ينطفئ أبدا!!!"