قلقهم قاتلهم
رأى الرجل المسنّ الموت، فخال ساعته أتت: لم يهلع، فهو كان ينتظره عاجلاً أم آجلاً ولطالما اعتقد أنّ حياته هي بمثابة حَجّ على هذه الأرض...
غير أنّ الموت أكمل طريقه باتجاه إحدى المدن القريبة... وبتردّد اقترب منه العجوز، وسأله: "أين أنت ذاهب؟؟"
"أنا ذاهب إلى المدينة المجاورة لكُم... فقد حان وقت رحيل مئة نفس هناك"، أجاب الموت.
"مئة ؟؟؟ هذا فظيع!!" تَمْتَم المُسِنّ...
فأجابه الموت: " لكِنَّك تعرف أنّ هذه طبيعة الأمور... فالإنسان ليس أكثر من زائر على هذه الأرض ولو أنّه، في غالب الأحيان، يتصرَّف كأنّه لن يرحل أبداً..."
ووَدَّعه الموت، وأكمل المسير.
مُدركاً أنّ كلّ فرد من سكان المدينة المجاورة في وِسعه أنْ يكون في عداد المئة، سارع الرجل المسنّ يخبر أولاده، علّهم سكّان تلك المدينة يحذّرون ونفوسهم يحضرون!
وعند حلول المساء، التقى الرجل المسن الموت مرة أخرى، بادره بغضب: "لقد قلت لي أنك سوف تأخذ مئة شخص فقط فلماذا نكبت المدينة بألفٍ من سكانها؟"
بكلمتي وفيت ومئة فقط وافيالت... أمّا الباقين فقلقهم قتلهم!!"
هَزّ الموت رأسه وبأسف قال: "نعم، قلقنا يقتلنا... يقضي على سلام النفس ويناقض إيمان القلب!!" ولكلّ منّا قائمة قلقه الشخصيّة: النجاح ثم التخرج في الوقت المحدد، الصحة والعمل، الشريك الآخر ومسؤوليّة الأهل... أو مستقبل الأولاد وتأمين التقاعد و ما بعده، أم الأمان والأمن... ثمّ الصورة الأكبر: مستقبل الكنيسة والبلد، إستعادة الحقوق، والبيئة... وتتنوع القوائم!!
تنصحنا الكنيسة بالتركيز في صومنا على ما لن نعود إليه بعد عيد الفصح، كي تكون تقشّفاتنا درباً صوب "إنسانٍ أفضل": فكم هي فكرة صائبة أن نتخلّى عن "قلقنا القاتل" خلال صومنا الكبير... علّ في هذا التخلّي ذات المدى القصير تتكوّن خطوة صلبة في التخلّي عنه على المدى الطويل.
أنْ نعيش نعمة "اللحظة الحاضرة" هي مهمّة روحيّة عظيمة، تنتزعنا من قلقنا الغير المفيد الذي يركِّز إمّا على ماضٍ مضى أو مستقبل وَهميّ عنوانه "ماذا لو؟..." في هذا الإطار: يفيدنا آباء الصحراء، أنّ أفضل طريقة للتخلّص من فكر مضرّ هو ملاحظته أوّلاً ثم إستبداله بصلاة. وهذا ما أخذ به الأب القديس بيو ونصح به كلّ إبن روحيّ له: " صَلّ برجاء، ولا تقلق. القلق لا طائل منه. فالله رحيم سميع." وفي كلمته الشهيرة "يكفي لكلّ يوم شرّه" ( مت 6 :34 )، من المهم أنْ نتذكر أنّ الربّ أوصانا ليس فقط بعدم نقل هموم الغد إلى اليوم بل أيضاً عدم نقل هموم اليوم إلى الغد.
هنا ليست دعوة إعدام حِسّ المسؤوليّة إنّما هي دعوة تقديس حياة بكاملها عبر تكريس اللحظة الحاضرة لله... فالماضي إنتهى، والمستقبل لم يأت بعد، وحده الحاضر واقع يحمّلنا الواجب المقدس: لذلك علينا أنْ نهتمّ دون أنْ "نَنْهم" واثقين برحمة الله وعنايته. وتبقى الطوبى لمن يعرف أن ْ " يُلقي على الربّ همّه لأنّ الربّ يعوّله. " (مز22:55).