بذور الأمانة وحصاد الثقة
تتناقل عجائز الشرق الأقصى قصة معبّرة عن حكمة أحد ملوكهم:
لقد إزداد الملك تقدماً في السن، وحان الوقت لاختيار من يخلفه في الحكم ولكنّه كان يعرف عدم أهليّة الحلقة الضيّقة من المحيطين به، من عائلة ومساعدين... فأخذ القرار الجريء بتوسيع نطاق حلقة الإختيار إلى خيرة من يافعي المملكة.
وصدم الجميع، ولكنّ الملك استمرّ بمخططه واستدعى الشبّان:
"اليوم، سوف أعطي كلّ واحد منكم واحدة من البذور الخاصة جداً. أريدكم أن تزرعوا هذه البذور، وتسقونها، وبعد سنة واحدة بالتمام والكمال يجب أن تعودوا إليّ، وبحسب النباتات التي بين أيديكم، سيتمّ إختيار الملك المقبل من بينكم!!!"
عاد الشبّان إلى منازلهم فرحين ومذهولين ... ومِن بينهم كان لينغ.
بحماسة زائدة نقل لوالدته الخبر السار وساعدته الأمّ في إيجاد الوعاء والتربة المناسبتين للزراعة. وبكلّ عناية أخذ لينغ الإهتمام بغرسته الثمينة وانتظر... مرّت الأسابيع ولم تبدو حركة النموّ طبيعيّة فيما كان الشبان الآخرين يتحدثون عن نباتاتهم التي تنمو وتزهر!!!
مرّت الشهور ولم يحدث أي تغيير في وعاء لينغ ومع إستحقاق العام كان الشاب حزيناً ومتأكد أنّه قتل غرسته بشكل ما، وأنّه مع هذا الفشل الذريع لن يحلم أن يقف حتى في حضرة الملك... وهنا تدخلت الأم من جديد، شجعته على الذهاب وعدم الهروب من الإستحقاق، فهو حقاً اعتنى بالبذار ولم يهمله وفعل كلّ ما بوسعه!!
بوعائه الفارغ، كان محطّ سخرية الجميع... والشبان الآخرون كانوا يحملون النباتات الرائعة والمزهرة ويرمقونه بنظرات الإستصغار. أخذ لينغ زاوية في القاعة الكبيرة وهو يحمل في قلبه الحزن والخجل ويتمنّى ألاّ يلاحظه المزيد من الحضور!
ووصل الملك، وبعينيه المتّقدتين رغم السنون عاين القاعة وحضورها... ورصد لينغ في الجزء الخلفي من القاعة وأطال نظره أمام وعائه الفارغ، ثم هتف:" آه كل هذه النباتات من مختلف الأحجام والأشكال الظريفة!!! سوف يتمّ اليوم إختيار الملك العتيد دون شكّ!!" ثم أمر حرّاسه إحضار لينغ إلى الأمام. إرتعب الشاب، لا بد أنّ الملك سيعدمه بسبب فشله، ولكنّه تقدم بما بقي له من شجاعة!
ما هو إسمك أيها الشاب ؟؟؟
"اسمي لينغ جلالتك" أجاب بصوت خافت. وضحك الحضور عالياً، فما كان من الملك إلا أن أعلن بصوت قوي، صَمَت أمامه الجميع: "يا أعزّائي، أقدم لكم ملككم الجديد: لينغ!!!!"
ذُهل الجميع وتغيّر لون لينغ ... كيف يتمّ ذلك؟؟ كيف يمكن أن يكون الخيار قد وقع عليه!؟
وهنا أفصح الملك: "من سنة أعطيتكم البذور وطلبت منكم أن تزرعوها وتعودوا إليّ بنتائجها... ولكن هذه البذور كانت خاصة، كانت مغليّة ولن تنمو... كانت بذور الأمانة... ومن الواضح أنّ جميعكم إستبدلها!!! فقط لينغ كانت له الشجاعة والصدق والشفافيّة لجلب الوعاء الذي يحوي زرعي: وبذلك وحده من بينكم يستحق المُلك!!"
تقول الرسالة إلى غلاطية "لا تضلّوا الله لا يشمخ عليه فان الذي يزرعه الإنسان إيّاه يحصد أيضًا" (غلاطية 6: 7) إذاً لا يمكن للإنسان أن يحصد بركات الله وهو يسير بحسب روح العالم ومنطقه. ويذكرنا آباء الكنيسة أنّ العمل المسيحي ليس شراءً وبيعًا بل زراعة وحصادًا، وغالباً لا يكون هذا الحصاد بحسب ما لدينا من معرفة، بل بحسب ما نزرع. صديقنا لينغ زرع الصدق فجنى الثقة، وزرع التواضع فجنى العظمة... واليوم، هي دعوة لنا نحن أيضاً أن نتنبه إلى ضرورة الإلتصاق بالأمانة لله في زراعة بذاره التي لا بد أن نحصدها خيراً في الوقت المناسب سيّما وأنّ ثمار هذه الأمانة تدوم للحياة الأبديّة.