سيمفونيّة مريم
سيمفونية جميلة مريم
عاشت مريم حياة صلاة كانت أشبه بسيمفونيّة عظيمة أو لوحة فريدة بلغت معها تمام المحبة. ففي عمق الصلاة درجات قداسة تعرف عذراء الناصرة جيداً مفاعيلها ولا تريد لأبنائها أن يسقطوها... ولا تريد الأمّ السماويّة أن يستقرّ أولادها في نادي المبتدئين!!!
لذا يمكن أن نختصر سلسلة ظهوراتها عبر التاريخ بدعوة واحدة ملحّة: "صلّوا،صلّوا،صلّوا" وكأنّها صدى يردّد دعوة يسوع لتلاميذه (إذهبوا إلى العمق).
هناك تطوّر في الأسلوب الذي نمشي فيه مسيرتنا الروحيّة مع الله.
في الدرجة الأولى نبحث عن يدي الله: عن هباته، معجزاته، وعطاياه... ولا ضرر في ذلك إذا كان القلب يبحث عمّا هو أعمق. فالربّ معطاء كريم ومع دخولنا في علاقة معه، نتمتّع بالشركة في البركة. ولكن دقّة خطورة هذه المرحلة تكمن بأن نسعى وراء العطيّة وننسى المعطي!!! لذلك، وكي لا تبقى علاقتنا مع الله مناجاة للذات، لا بد من الإنتقال إلى الدرجة الثانية.
في هذا المستوى نسعى بحثاً عن وجه الله.
هنا لن تعود الهدايا الزمنيّة هي الهدف، والربّ يدعونا لرؤية وجهه، ولكن... كثيرون منا يتهرّبون!!! نحن نعرف لماذا. نعرف أنّ مَن يرى وجهه يموت... سوف يكلّفنا شيئًا قبل أن نرى وجه الحبيب ذاك فنحن علينا أن نموت عن العالم!!!
نخاف الصليب، ونمرّ بمحاذاة الفرح الواسع... يا للأسف!!
مريم صمّمت ألاّ يغيب وجهه عن وجهها حتّى في أحلك أوقات الصليب، وفي خضم الاضطهاد، والذلّ وحتّى الموت. وكانت أن رأت وجه القائم من الموت!!
كلمة سرّ مريم كانت :"لتكن مشيئتك" فتحت بها كنوز الله واكتشفت قيمة الحريّة الداخليّة فوق أحكامها الذاتيّة!!
ويكمل الربّ يهمس للنفس "تابعي إلى أعمق..."
هل هناك المزيد؟؟ آه نعم: إنّه قلب الربّ!!
في هذه الدرجة الثالثة، ما حقّقه قدّيسون كبار. هنا يتشابك القلبان ويصبحان واحداً!! ومريم أمّ الله تبقى مِثال كلّ مَن يسعى إلى قلب الله: قبلته، غذّته وعانت، وقامت معه... الأم كانت تعرف قلب ابنها والإبن يعرف قلب أمّه. أصبح ذاك الحبّ سبب العيش وهدفه. إنّها حرارة الإلتصاق بالله والتماهي معه.
يقول القديس بولس (لست أنا من أحيا إنّما المسيح يحيا فيّ)!!! وفي هذا الإتّحاد السامي إنتصار للنعمة.
نعرف القدّيسين هؤلاء من فرحهم وسلامهم حتّى وسط الألم!! ولا ماسوشية في وضعهم، إنّما دخول في دائرة "الحبّ الإلهيّ المُشبع للنفس" يتمتّعون بالشركة في الحياة المطوّبة. ويختبرون الحياة السماويّة التي لا تعرف سوى الفرح الدائم في الربّ مهما كانت الظروف الخارجيّة!!!
عندما تكرّر مريم: صلّوا، صلّوا، صلّوا، يكون في بال الأمّ القديسة هذه "البركة" التي يوفّرها الله لكلّ منّا. غير أنّنا، نحن البشر محترفون بإهدار الكنوز وصرف الوقت أمام العلب التي تضع في قلبنا الفراغ!! بشغفها الأموميّ تأتي ذراعاً للروح القدس تذكّرنا أنّ القداسة وسلام القلب وفرح الحياة الأبديّة أمور لا تبدأ عند عتبة الموت بل مع الولادة الروحية في ربوع يوميّاتنا، في مسيرة مِن توبة متجدّدة نختبر معها كلّ يوم أعماق جديدة من حضور الله.