بريئة من دنس الخطيئة الأصليّة
"جميلةٌ كلُّكِ يا حبيبتي، وليس فيكِ عَيب" (نش ٤: ٧)
.مريم البريئة من دنس الخطيئة الأصليّة
أوّلاً: ماذا تعلّم الكنيسة الكاثوليكيّة حول العقيدة؟
نقرأ في كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة:
٤٩٠- لكي تكون مريم أمّ المخلّص "نفحها الله من المواهب بما يتناسب ومثل هذه المهمّة العظيمة" (في الكنيسة، ٥٦). فالملاك جبرائيل يحيّيها إبّان البشارة على أنّها "ممتلئة نعمة" (لو ١: ٢٨)، ولكي تستطيع أن توافق موافقة إيمانها الحرّة على البشارة بالدعوة التي دُعيت اليها، كان لا بدّ لها من أن تكون محمولةً على نعمة الله.
٤٩١- على مرّ العصور وعت الكنيسة أن مريم "التي غمرتها نعمة الله" (لو ١: ٢٨)، قد افتُديت منذُ حُبل بها. هذا ما تعترف به عقيدة الحبل بلا دنس، التي أعلنها البابا بيوس التاسع، سنة ١٨٥٤: "إن الطوباويّة العذراء مريم قد صينت، منذ اللحظة الأولى للحبل بها، سليمةً من كلّ لطخة من لطخات الخطيئة الأصليّة، وذلك بنعمة من الله الكليّ القدرة وبإنعام منه، نظراً الى استحقاقات يسوعَ المسيح مخلّص الجنس البشريّ" (Denzinger- Schönmetzer, 2803).
٤٩٢- هذه "القداسة الرائعة والفريدة" التي "أُغنيت بها منذ اللحظة الأولى من الحبل بها" (في الكنيسة، ٥٦) تأتيها كلّها من المسيح: لقد "افتُديت بوجهٍ سامٍ، باعتبار استحقاقات ابنها" (في الكنيسة، ٥٣). فوق كلّ شخص آخر مخلوق، "باركها الرّب بكل أنواع البركات الروحيّة في السماوات، في المسيح" (را. أف ١: ٣). إنّه "اختارها فيه بالمحبّة، من قبل إنشاء العالم، لتكون قدّيسة وبغير عيب أمامه" (را. أف ١: ٤).
٤٩٣- آباء التقليد الشرقيّ يدعون والدة الله "بالكليّة القداسة"، ويحتفلون بها على أنّها "معصومة من كلّ وصمة خطيئة، لأن الرّوح القدس عجنها وكوّنها خليقة جديدة" (في الكنيسة، ٥٦). لقد لبثت مريم طول حياتها بريئة، بنعمة الله، من كلّ خطيئة شخصيّة.
ما هو ليس عقيدة الحبل بلا دنس:
١- عقيدة الحبل بلا دنس هو ليس حبل مريم العذراء بيسوع لحظة البشارة دون تدخل رجل، صحيح أن مريم كانت عذراء ما قبل ولادة ابنها، وبقيت عذراء لحظة الولادة وما بعدها، ولكن تلك الحقيقة الأخرى هي عقيدة حبل مريم العذريّ بيسوع.
٢ـ عقيدة الحبل بمريم دون دنس الخطيئة الأصليّة لا تعني أن مريم وُلدت ولادة عذريّة، فمريم، مثل سائر الجنس البشريّ، وُلدت نتيجة علاقة حبّ بين يواكيم وحنّة، والدا العذراء بحسب التقليد.
٣- عقيدة الحبل بلا دنس لا تجعل من مريم، التي لم تعرف الخطيئة، مساوية لإبنها، وهي ليست بموازاة الكلمة المتجسّد، ولا هي من نوع يسمو النوع البشريّ، في مرتبة بين الإله والأنسان، بل هي ابنة طبيعتنا البشريّة، مفتداة كما سائر البشريّة بدم ابنها وربّها يسوع، ولكّنها افتديت مسبقاً "منذُ حبل بها"، مثل كلّ الجنس البشريّ، بموت ابنها يسوع.
٤- حقيقة أن مريم كوّنت منذ اللحظة الأولى مصانة من وصمة الخطيئة الأصليّة لا تلغي حرّية مريم: مريم كانت قادرة، ساعة تريد، أن تقول لا لله ولمخطّطه في حياتها، ونعم للخطيئة، ولكنّها، بنعمة من الله التي تساندها، وبحبّها للّرب وطاعتها له، بقيت بحرّيتها من دون أية خطيئة منذ لحظة تكوّنها حتّى لحظة انتقالها الى مجد الآب.
ما هي عقيدة الحبل بلا دنس:
يقول القدّيس بولس في رسالته الى أهل روما: "والخطيئةُ دخلت في العالم بإنسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت" (روم ٤: ١٢) "فإذا كان الموت سادَ البشرَ بخطيئة إنسانٍ واحد، فبالأولى أن تفيضَ عليهم نعمةُ الله والعطيّة الموهوبة بنعمة إنسان واحد هو يسوعُ المسيح" (رو ٤: ١٥)، "فإذا كان الموتُ بخطيئة إنسانٍ واحد سادَ البشرَ بسبب ذلك الإنسان الواحد، فبالأولى أن تسودَ الحياةُ بواحدٍ هو يسوعُ المسيح أولئك الذين ينالون فيض النعمةِ وهبةَ البرّ" (رو ٤: ١٧) "فكما أن خطيئة إنسان واحد قادت البشر جميعاً الى الهلاك، فكذلك برُّ أنسانٍ واحد يُبَرَّرُ البشر جميعاً فينالونَ الحياة، وكما أنّ بمعصية إنسانٍ واحد صار البشرُ خاطئين، فكذلك بطاعة إنسانٍ واحدٍ يصير البشرُ أبراراً" (رو ٤: ١٨- ١٩).
بما أن آدم وحواء كانا يمثلان كل العائلة البشرية عندما ابتعدا عن الله، فقد سقطت البشرية بأكملها معهم. لقد انتقلت الخطيئة الأصلية إلى أبنائهم وإلى أبناء أبنائهم، عبر تاريخ البشر. عندما يُحبَل بنا نولد في حالة انفصال طبيعي عن الله يسمى الخطيئة الأصلية ومع ميل بطبيعتنا نحو الخطيئة.
كان مخطط الله الخلاصيّ أن يتخذ ابنه الوحيد، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، طبيعة بشرية حتى يتمكن يسوع، بصفته إلهًا وإنسانًا، من افتداء الجنس البشري. وفي هذا عقبةٌ واحدة: إنّ الله هو كلي القداسة، ولذلك لا يمكن أن يكون تحت الخطيئة ولا أن يولد من إنسانة موصومة بالخطيئة، فكيف يستطيع الله الكلمة المتجسّد أن يتحد بشكل وثيق مع الطبيعة البشرية الساقطة؟ وهنا رأى الله بتدبير ونعمة منه لمريم، ومنها لبشريّتنا بأسرها، أن يُحبَل بها مُصانَةً من الخطيئة الأصلية، حتى تكون قادرة على إعطاء يسوع طبيعة بشرية نقية وبلا خطيئة. مريم هي الوعاء النقي وغير الفاسد، الذي من خلاله أخذ يسوعُ طبيعة بشرية بلا خطيئة، دخل عبره عالمنا ليتمّم خطة الآب الخلاصيّة.
العقيدة في الكتاب المقدّس:
من المؤسف أن الكثير من المسيحيين يسارعون إلى رفض مفهوم الحبل بلا دنس باعتباره شيئًا مستمدًا فقط من التقليد دون أي أساسات بيبليّة واضحة. على الرغم من أن التقليد المقدس قد توسع بأمانة في التكلّم عن الحبل بمريم معصومة من الخطيئة الأصليّة، فإنه لم يفعل ذلك بمعزل عن الكتاب المقدس. في الواقع، إن فهمنا لكون مريم حُبل بها بلا خطيئة يعتمد على تفسير الكتاب المقدس.
أين يتكلّم الكتاب المقدس على حقيقة الحبل بمريم بريئة من الخطيئة الأصليّة؟
العقيدة في العهد القديم:
إحدى وسائل قراءة العهد القديم كوسيلة تكشف عن سرّ المسيح هي التيبولوجيا. فالتيبولوجيا هو "قراءة الأشخاص والأماكن والأحداث في الكتاب المقدس التي تنبئ بحقائق لاحقة أعظم يعلنها الله في التاريخ." بعض شخصيات وروايات العهد القديم تشكل فهمنا لـشخصيات واحداث في العهد الجديد، تتعلّق المسيح وكنيسته. هذه ليست طريقة لقراءة الكتاب المقدس تم اختراعها بعد قرون طويلة كوسيلة لفهم العهد القديم؛ في الواقع، مؤلفو الكتاب المقدس أنفسهم فهموا الأمور بهذه الطريقة. على سبيل المثال، يصف بطرس حدث نوح والطوفان كإعلان مسبق تبيولوجيّ رمزي عن المعمودية المزمعة أن تكتسب معناها الحقيقيّ بموت يسوع المسيح وقيامته: " 19فانطلَقَ بِهذا الرُّوحِ يُبَشِّرُ الأرواحَ السَّجينَةَ 20الّتي تَمَرَّدَت فيما مَضى، حينَ تَمَهَّلَ صَبرُ اللهِ أيّامَ بَنى نُوحٌ الفُلْكَ فنَجا فيهِ بِالماءِ عدَدٌ قَليلٌ، أي ثمانِيَةُ أشخاصٍ، 21وكانَ هذا رَمزًا للمَعمودِيَّةِ الّتي تُنَجِّيكُمُ الآنَ، لا بإزالَةِ وسَخِ الجَسَدِ، بَلْ بِعَهدٍ صادِقِ النّيَّةِ معَ اللهِ بِقيامَةِ يَسوعَ المَسيحِ 22الّذي صَعِدَ إلى السَّماءِ وهوَ عَنْ يَمينِ اللهِ تَخضَعُ لَه المَلائِكةُ والقُوّاتُ وأصحابُ السُّلطانِ. " (١بط ٣: ١٩- ٢٢).
يخبرنا بطرس أن المعمودية قد ظهرت من خلال قصة الطوفان في سفر التكوين، ويتم تحقيقها من خلال عمل المسيح الفدائي. يدعو بطرس المعمودية بالمرموز اليه ἀντίτυπος، أي تمام صورة الطوفان الرمزيّة بمعناها الحقيقيّ. في التيبولوجيا، يكون المرموز اليه (الشخص/الحدث المتمِّم) دائمًا أهم من الصورة الأولى (الشخص/الحدث السابق)، وإلا فلن يكون تحقيقًا بل مجرد تكرار على نفس مستوى القديم وليس أكبر.
لم يكن بطرس الكاتب الوحيد الذي قرأ العهد القديم بشكل تيبولوجيّ، إذ نجد بولس يقول بولس عن المسيح:
" 45فالكِتابُ يَقولُ: ((كانَ آدمُ الإنسانُ الأوَّلُ نَفسًا حَيَّةً))، وكانَ آدمُ الأخيرُ رُوحًا يُحيي. 46فما كانَ الرّوحانيُّ أوَّلاً، بَلْ ِ البَشَرِيُّ، وكانَ الرّوحانِـيُّ بَعدَهُ. 47الإنسانُ الأوَّلُ مِنَ التُّرابِ فهوَ أرضِيٌّ، والإنسانُ الآخَرُ مِنَ السَّماءِ. 48فعَلى مِثالِ الأرضِيِّ يكونُ أهلُ الأَرضِ، وعلى مِثالِ السَّماويِّ يكونُ أهلُ السَّماءِ." (١ قور ١٥: ٤٥- ٤٨).
وهنا مرة أخرى نرى يسوع يُصوَّر على أنه إتمام لرمز آدم: فكلّ ما هو خلف الصورة الكتابية لآدم هو إعلان ليسوع، كما يقول بولس في الرسالة الى الرومانيّين: "وكان آدمُ صورةً لمن سيجيئ بعده" (رو ٤: ١٤): فكما كان آدم بكر كل الخليقة (لوقا 3: 38)، كذلك يسوع هو بكر الخليقة الجديدة (عب 1: 6). فكما أن آدم خلق بلا خطيئة (تك 1: 31)، كذلك المسيح بلا خطيئة (عب 4: 15). وكما لعن آدم من الشجرة (تك 2: 16-17)، هكذا افتدانا المسيح على الشجرة ("إلهُ آبائِنا أقامَ يَسوعَ الّذي عَلَّقتُموهُ على خَشَبةٍ [أو شجرة باليونانيّة ἐπὶ ξύλου] وقَتَلْتُموهُ" أع 5: 30). وكما حمل آدم خزي العري (تك 3: 7)، ونفي من البستان (تك 3: 23-24)، ونال عقاب خطيئته أرضاً يحرثها بعرقه وتعطيه الشوك (تك 3: 17-19)، كذلك المسيح تعرّى (متى 27: 31)، وتعذب في البستان (يوحنا 18: 1)، وعرق دمًا (لوقا 22: 44)، وحمل إكليلًا من الشوك (يوحنا 19: 2): لقد جاء المسيح، كلمة الله المتجسّد، والآخذ صورة آدم بملئها ما قبل الخطيئة، جاء بطاعته للآب يتمّ ما كان على آدم أن يتمّه بالطاعة لله، وبالثقة بمخطّطه، "ليصبح بالنعمة ما هو الله بالطبيعة" كما يقول القدّيس أفرام السريانيّ، أي أن يدخل في حالة الكائن المتألّه بالتبنّي، يشترك في طبيعة الله الألهيّة بالنعمة، ويحيا حالة الصداقة التي خلقه الله لأجلها.
إذا كان المسيح هو آدم الجديد فمن هي حواء الجديدة؟ في إجابتنا على هذا السؤال، نصل إلى فهم كتابي أعمق لمفهوم عصمة مريم من دنس الخطيئة الأصليّة.
لقد رأى كتّاب العهد الجديد يسوع كتمام لصورة آدم، ورأوا في مريم اكتمال صورة المرأة الأولى، حواء:
يقدم إنجيل يوحنا مريم ليس باسمها مريم ولكن من خلال صورة "الامرأة" (يوحنا 2: 4؛ أيضًا 19: 26). ويشير هذه التسميّة بشكل واضح إلى رواية التكوين، التي تنادى حواء باسمها مرة واحدة فقط (تك 4: 1)، ولكنها تدعوها تكراراً "الامرأة" أو "امرأة" (١١ مرّة في الفصول الثلاثة الأول من سفر التكوين). وكما دعت "المرأة" آدم إلى الأكل من الشجرة المحرمة في سفر التكوين، مما أورث البشرية كلّها حالة الخطيئة والانفصال عن الله، كذلك نجد مريم، "المرأة" الجديدة، تدعو يسوع ليقوم بأول آية علنية له، يبدأ عبرها عمله الخلاصيّ.
وفي سفر الرؤيا، يعطي يوحنا الرسول لمريم علامات من سفر التكوين:
"وظَهَرَتْ آيَةٌ عَجيبَةٌ في السَّماءِ: امرأةٌ تَلبَسُ الشَّمسَ، والقَمرُ تَحتَ قَدَمَيْها، على رَأْسِها إكليلٌ مِنِ اثنَي عشَرَ كوكَبًا. ٢حُبلْى تَصرُخُ مِنْ وجَعِ الوِلادَةِ. ٣وظَهَرَتْ في السَّماءِ آيَةٌ أُخرى: تِنِّينٌ عَظيمٌ أحمَرُ كالنَّارِ لَه سَبعةُ رُؤوسٍ وعَشَرَةُ قُرونٍ، على كُلِّ رأسٍ تاجٌ،٤فَجَرَّ بِذَنَبهِ ثُلثَ نُجومِ السَّماءِ وألقاها إلى الأرضِ. ووقَفَ التِّنِّينُ أمامَ المَرأةِ وهِيَ تتَوَجَّعُ ليَبتَلِعَ طِفلَها حينَ تَلِدُهُ.٥فوَلَدتْ ولَدًا ذكَرًا وهوَ الّذي سيَحكُمُ الأُمَمَ كُلَّها بِعَصًا مِنْ حديدٍ، ولكِنَّ ولَدَها اختُطِفَ إلى اللهِ وإلى عَرشِهِ،٦وهَرَبَتِ المَرأةُ إلى الصَّحراءِ حَيثُ هَيّأَ اللهُ لها مَلجَأً يَعولُها مُدَّةَ ألفِ يومٍ ومِئتَينِ وسِتِّينَ يَومًا... ١٣ولمّا رأى التِّنِّينُ أنَّهُ سقَطَ إلى الأرضِ، أخَذَ يَضطَهِدُ المَرأَةَ الّتي ولَدَتِ الابنَ الذَّكَرَ، ١٤فأُعطيَتِ المَرأةُ جَناحَي النَّسرِ العَظيمِ لِتَطيرَ بِهِما إلى مكانِها في الصَّحراءِ، حَيثُ تَلجَأُ مُدَّةَ زَمَنٍ وزَمَنينِ ونِصف زَمَنٍ في مَأمَنٍ مِنَ الحيَّةِ."
فالمرأة التي تم تصويرها في رؤيا ١٢ تجد اكتمال صورتها في شخص مريم. فالفصل ١٢ من سفر الرؤيا يتكلم عن الامرأة، وعن نسل المرأة، وعن الحيّة المعادية، ويعود الى بالنا الفصل ٣ من سفر التكوين، حيث نقرأ عن امرأة، وثعبان، ونسل المرأة المستقبلي ("النسل" في تكوين ٣: ١٥). في مشهد رؤيا ١٢، كان نسل هذه المرأة "ابنًا ذكرًا" كان "سيرعى جميع الأمم بعصا من حديد" (رؤيا ١٢: ٥)، والذي سيهزم الحيّة باسطاً ملكه على الخليقة (رؤيا ١٢: ٩- ١٠). ومن يمكن أن يكون هذا الطفل غير المسيح؟ وإذا كان الطفل هو المسيح، فمن تكون هذه المرأة سوى مريم التي ولدت المسيح؟
وفقاً لإنجيل يوحنا وسفر الرؤيا، فإن مريم ليست فقط أم يسوع، بل هي خاصّة حواء الثانية والمرأة المذكورة في تكوين ٣: ١٥، هي أم المسيح. هذا المسيح، من نسل مريم حوّاء الجديدة، سوف ينتصر على الحيّة - الشيطان وينهي سقوط آدم وحواء بموته على الصليب.
من هنا نجد أنّه كان لا بدّ لمريم أن تكون مصانةً من الخطيئة الأصليّة، فهي حواء الجديدة، أطاعت حيث تمرّدت حوّاء، وقبلت مشروع الله في حياتها وأعطته الأولويّة، بينما اختارت حوّاء الأولى مشروعها الخاص على حساب مشروع الله المؤلّه لها ولنسلها.
مريم هي أيضاً فردوس عدنٍ الجديد، ففي رواية السقوط في سفر التكوين نقرأ "فأخرج الرّبُ الألهُ آدمَ من جنّةِ عدنٍ ليفلحَ الأرضَ التي أُخذَ منها. فطرَدَ آدمَ وأقامَ الكروبيمَ شرقيّ جنّة عدنٍ، وسيفاً مشتعلاً متقلّباً لحراسة الطريق الى شجرة الحياة" (تك ٣: ٢٣- ٢٤)، بعد خطيئة آدم وحوّاء، مُنعَا من ولوج الطريق الى حيث هي شجرة الحياة، بقيت جنّة عدنٍ مصانة من خطيئة آدم وحوّاء، وجُعل الكروب حارساً للجنّة لئلا يدوساها الخاطئان من جديد. مريم هي جنّة عدن الحقيقيّة، في داخلها نمت شجرة الحياة الحقّة، يسوع، ليعطي الحياة للعالم، وكما حفظ الرّب جنّة عدن من خطيئة آدم وحوّاء في البدء، كذلك صان جنّته الحقيقيّة، مريم العذراء، مصانةً من خطيئة آدم وحوّاء، وجعل في داخلها شجرة الحياة، المسيح، الذي سوف يعطي الخلاص لآدم وذريّته.
إن القول أن الحبل بمريم دون دنس كان فقط لإنّها سوف تحمل ابن الله، وكان على مريم أن تكون خالية من وصمة الخطيئة الأصلية حتى تتجنب نقل اللعنة إلى يسوع، هو مفهوم يحدّد من دور مريم في تاريخ الخلاص، ويجعل منها مجرّد وسيلة وأداة استخدمها الخالق لإتمام مخطّطه، وينفي حرّية مريم وإرادتها في أن تضع ذاتها بكلّيتها في خدمة مشروع الله الخلاصيّ، فتصبح بإرادتها، وحرّيتها وطاعتها، حوّاءً جديدةً، أمّ المسيح، وأم كلّ الأحياء.
لذلك لا بدّ أن نفهم حالة مريم المعصومة من الخطيئة على أساس علاقتها بحواء أمّها. فالله لم يخلق آدم وحواء في حالة الخطية، بل خلقهما ورآهما "حسنين جدًا" (تك ١: ٣١)؛ وبسبب المعصيّة، وسوء استعمال حرّيتهما، وقعا في الخطيئة (تك ٣: ١). أمّا آدم الجديد وحواء الجديدة فهما أيضاً "حسنين جداً" وبلا خطية، كما آدم وحوّاء الأوّلين ما قبل الخطيئة. في مخطط الله الخلاصيّ، جاء آدم الجديد وحوّاء الجديدة يصححان خطأ أسلافهما عبر الفداء والمصالحة، ليظهر مجدُ الله مجدّداً في الجنس البشري.
الحبل بلا دنس في العهد الجديد: بشارة مريم
نرى إشارة واضحة للحبل بلا دنس في نصّ لوقا من إنجيل بشارة الملاك لمريم. يظهر الملاك جبرائيل لمريم ليعلن خطة الله لها لتكون أم يسوع. إن سلام الملاك جبرائيل لمريم يكشف عن حالتها الطاهرة منذ لحظة تكوّنها: تحية جبرائيل (chaire) Χαῖρε المترجمة بالسلام عليك تعني إبتهجي، إفرحي (لوقا ١:٢٨)، والكلمة التي تتلوها باليونانية κεχαριτωμένη (kekharitomene) هي اسم المفعول الكامل، "المنعم عليها" و"المملوءة نعمة" "المجبولة بالنعمة"، وهي في منطق الزمن اليونانيّ للمفعول الكامل (participe parfait) تعني الماضي المستمر الى الآن، أي أن مريم لم تكن، في أية لحظة من وجودها غير ممتلئة من نعمة الله. لقد امتلأت مريم بالفعل بنعمة الله، لأن النعمة قد غُرست فيها بالفعل منذ لحظة الحبل بها.
تكشف تحية الملاك حقيقة أخرى عن مريم. في أي وقت يخطئ فيه شخص ما، حتى ولو كانت خطيئة صغيرة، فإنه يفقد بعضًا من نعمة الله. هذه هي طبيعة الخطيئة: اختيار حرّ وواعٍ يقوم به الشخص رافضاً نعمة الله وصداقته. إن كانت مريم مملوءة نعمة، فهذا يعني أنّها خالية تمامًا من الخطيئة، لأن أية خطيئة، ولو حتى صغيرة أو عرضيّة، كانت ستحرمها من بعض النعمة على الأقل، فلا يُقال فيها: التي امتلأت نعمةً والمجبولة بالنعمة (kekharitomene).
كيف حفظ الله مريم من الخطيئة الأصلية؟ في مرسومه البابوي حول الحبل بلا دنس، ذكر البابا بيوس التاسع أنها حُفظت من الخطيئة "بنعمة وامتياز فريدين من الله القدير، في ضوء استحقاقات يسوع المسيح".
لم تكن مريم خارج مخطّط المسيح الخلاصيّ، بل كانت بحاجة إلى المسيح يفديها كما نحتاج نحن جميعًا. لقد تم فداؤها بموت ابنها على الصليب مثلنا جميعاً. ولكن كيف يمكن لمريم أن تُفتدى بموت يسوع على الصليب قبل أن يولد يسوع؟
الله أبدي غير محدود بمكان أو زمان. إنه يرى الزمن – الماضي والحاضر والمستقبل – في وقت واحد. الله يعمل خارج الزمن. لذلك، أخذ نعم واستحقاقات موت يسوع على الصليب وطبقها بالزمن إلى الوراء حتى لحظة الحبل بمريم. لقد افتداها المسيح مثلنا جميعًا، ولكن من خلال "نعمة وامتياز فريدين من الله القدير" فتمّ حفظها تمامًا من الخطيئة الأصلية. لكن الفرق المهم هو أن مريم قد افتُديت ولكنها حُفظت أيضًا من الخطية. لم تكن لديها خطيئة قط، ولو لثانية واحدة. منذ لحظة وجودها، كانت مريم محفوظة تمامًا من الخطيئة، وبالتالي لم تعرف الخطيئة، لا الأصليّة ولا الفعليّة، منذ لحظة تكوّنها في حشا والدتها.
على الرغم من أن مريم كانت محفوظة من الخطيئة الأصلية في لحظة الحبل بها، إلا أنه كان من الممكن أن تختار أن تخطئ لأنها كانت لديها إرادة حرة. كان من الممكن أن ترفض نعمة الله وخطته وتسقط في الخطية. كان بإمكانها أن تقول لا للأب في البشارة. كان بإمكانها أن تقول لا للآب عند أقدام الصليب، حيث بقيت الإمرأة المؤمنة، القائمة، القياميّة، حتى لحظة صلب ابنها وموته. كان من الممكن أن تقع مريم في اليأس وتلعن الله. لكن مريم آمنت، أطاعت بشكل كامل واستسلمت لعطية النعمة العظيمة التي أعطاها إياها الله وعاشت حياة مسيحية استثنائية. ولهذا فإن مريم هي معلّمة في الإيمان ونموذج للكنيسة في الوفاء لله والالتزام بخططه الخلاصيّة.