خارج المدينة
على أطول السلاسل الجبلية في العالم - الأنديز- الأمريكية الجنوبية، يعمل الجبليون الريفيون في استخراج الملح. ففي جبال «البيرو» مثلاً يُستخرج ملح «البيرو الوردي» الفاخر من نبع طبيعي يقع على ارتفاع 10 آلاف متر. في عملهم ذاك يشقى هؤلاء عراة الأقدام كشرط من شروط العمل. مع الوقت يتآكل لحمهم ليملحوا طاولات الميسورين: ففي أوروبا مثلاً يُباع الكيلو من هذا الملح بحوالي 50 يورو، علماً أن أجر نهار كامل للعامل لا يتخطى الدولارين!! لا يقتصر تعب العمل على استخراج الملح إنما في نقله أيضاً مشقة حيث يُنقل على ظهر اللاما لمسافات طويلة ودقيقة... وللهروب من الواقع الأليم يقصد كثيرون المدن الكبيرة كليما أو ساو باولو، أو سان سلفادور... ولكن النسبة الأكبر لا تدخل "نعيم المدينة" بل تبقى خارجها تحيا على الأطراف في تجمعات من التنك. في أحزمة البؤس تلك تنعدم حقوق الإنسان الطبيعية وغالباً ما تضيع الهوية: في تلك النواحي من يولد ويكبر ويموت دون هوية، دون ذكر، دون تسجيل في الوثائق الرسمية أو دوائر النفوس. يموتون في العدم، لا يشعر العالم بهم ولا يُسجل لهم تاريخ ولادة أو موت....
إشتهر عالِم اللاهوت بونهوفر والذي أعدم شنقًا ربيع 1945 في معسكر اعتقال نازي قبل استسلام ألمانيا بثلاثة وعشرين يومًا فقط- إشتهر بقراءته الصليب قراءة علمانية، ليقول لأناس من دون إله أن الله لم يأتِ ليختصر من إنسانيتهم، بل حباً بالإنسان قَبِل بأن يموت ليعيش هذا الأخير ملء الإنسانية...
فلنلاحظ أن المسيح صلب خارج المدينة المقدسة، أي في مكان دنيوي بامتياز، خارج الشعب والمدينة، في مساحة مفتوحة؛ هو لم يمت داخل جدران الهيكل ولا رجماً بل حُكم عليه صلباً خارج المدينة، بتنفيذ أيدي السلطات الرومانية، إذن موت الرب هو موت سياسي بعلّة سياسية: "يسوع الناصري ملك اليهود".
ثم أنه يموت عرياناً على الصليب، تسقط عنه كل كرامة وهو بات يشبه هؤلاء الأشخاص غير المعدودين والذين يعيشون على هوامش المجتمع.
وتذهب قراءة بونهوفر إلى أبعد من ذلك، لتتحدث عن قبر يسوع "الجديد". وهنا مصيبة ثانية فإن اليهودي كان يخاف أن يُدفن معزولاً، وحيداً، مفصولاً عن الجماعة وعن آبائه. لذا في القديم أوصى يوسف بن يعقوب أن تنتقل عظامه كي لا تظل في أرضٍ غريبة. إذن في دفن يسوع في قبر جديد وهن لا تكريم. وهنا أيضاً يتجلى حب الرب اللامتناهي: المتماهي مع كل فقير ومرذول ومعدوم.
واضح أن الرب يأخذ جانب الضعفاء حتى المنتهى ولا يتركهم: لقد اختارهم تفضيليّاً واتّحد بهم. يسوع أضحى قرباناً يقدم لنا دموع ودماء الفقراء وفي ألمه دعوة لإلغاء الظروف التي تُنتج هذه الدموع والدماء... نعم، لقد اختار الله ما هو ضعيف في هذا العالم ليخزي الأقوياء (1 كو 1: 27)؛
مصلوب خارج المدينة عرياناً ومدفون في قبر جديد وحيداً!! ولكن في ضعفه هذا ستتجلى قوة، والقبر الجديد سيصبح فارغاً!!
وها هو اليوم وهنا: من خارج "المدينة"، وعارٍ من عباءات أفكارنا التي نسقطها عليه وقائماً من قبورٍ جديدة ومتجددة نحاول أن ندفنه فيها، يدعونا هذا المصلوب القائم أن نعيش ملء إنسانيتنا كما إبتدعها يوم الخلق ذاك بحلة بيضاء لا تعرف سواد الظلم ولا إحمرار إراقة الدماء ولا الرمادية في إهمال الفقراء... هو يدعونا كي نحقق جمال ذاك الحلم في كلمة التكوين: "كن"!!
فهل سنسلم دعوته للصمم؟ أم ندع قيامته تتبلور خلقاً جديداً يداوي كل كَلَم؟