التجرّد من الذات 3
"لم يحسب مساواته لله غنيمةً..." (فيلبي 2)
ما معنى كلمة "غنيمة" يا ترى؟(3)
لاحظنا سابقا معاني "التجرّد من الذات" بحسب لاهوت القرون الوسطى. والآن سنرى معنى تعبير "الغنيمة".
لقد أثارَ مصطلحٌ آخر من الترجمة اللاتينيّة بعض التفسيرات المهمّة، وهو المصطلح المنقول من اليونانيّة Harpagmos، وتدورُ عليه المناقشات في التفسير الحديث. لقد تعدّدت العبارات الدالّة على مفهوم الغنيمة في النشيد الذي يخصّ المسيح في رسالة فيلبيّ (2)، بحسب طبعات الكتاب المقدّس. أمّا هيمون الأوكسيريّ (لاهوتيّ من القرون الوسطى) فله كلمة في المصطلح المعنيّ.
"هو الذي في صورة الله، أي مساو ٍلأبيه في الألوهة، له الماهيّة نفسُها ومساو ٍله في كلّ شيء، "لم يعدّ مساواته لله غنيمة" (فيلبّي 2 :6). نتحدّثُ عن غنيمــــــة عندما يغتصبُ المرءُ، بالقوّة، ما ليس له ليتملّك عليه. أمّا الربّ يسوع فلم يكن قد اقترفَ إغتصابا أو نهبــــًا حين قال إنه شبيهٌ بالله أبيه ومساو ٍله، إذ أكّد: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10 : 30). فلو لم يكن ابن الله حقا، لما كان مساويًا له في كلّ شيء. وسَلفُه (يوحنا المعمدان)، حين قال: "لستُ المسيح" (يوحنا 1 : 20)، وقتَ استجوبه الكتبة ، والفريسيّون والشعب ، لو أنه قالَ: أنا هو المسيح، لكان اقترف نوعـًا من الإغتصاب. وسمعان الساحر قد اقترفَ إغتصابًا حين قال: " إذ كان ابن الشيطان: أنا هو ابن الله، أنا المعزّي، أنا هو ابن الله (أعمال الرسل 8 : 9).
لم يـــــُنظَر إلى مثَل "الغنيمة" الخاصّ بسمعان الساحر بعد ذاك. أما الأمثلة الأوسع شيوعًا فمن بينها مثل آدم مَن يأكل الثمر المحرّم ليكون كإله ( بحسب التكوين 3 : 5)، ومثل المتكلّم في أشعيا 14: 13: "سأصعد إلى السماء..."، وقد موثِلَ بالملاك الفاسد أو بالشيطان. ونجدُ تلك الأمثلة في تفسير نيقولا دو غورّان، دومنيكانيّ عاش في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، مَن يتميّز عمله التفسيريّ بأهميّة كبرى؛ ولكنّ تفسيره يبدأ بإقتراح شرح ٍمختلف جدّا عمّا نلقاه عادة، لأنّ المسيح لم يكن ليعتبر نفسه مساويًا لله، نظرًا إلى طبيعته البشريّة.
تفسير الدومنيكانيّ نيقولا غورّان...
"لم يعدّ"، نظرًا إلى الطبيعة البشريّة، إنه مساوٍ لله، بحسب حُكم العقل الحقيقيّ. في هذا، لم يكن بمُقترف ٍأيّ إغتصاب، إذ لم يتعدّ على ما لم يكن له، كما فعل الملاك وآباؤنا الأوائل مَن، وفق أوغسطينوس، أرادوا الحصول على الألوهة فخسروا السعادة. وقد نفهم الأمر بحسب التالي: لم يعتبر مساواته لله غنيمة، أي إذ عرف أنه كان مساويا له نظرًا إلى طبيعته الإلهيّة، لم يعتبر ذلك "غنيــــمة"، لأنه، في الحقيقة، كان مساويًا لله في الطبيعة، ولكن نظرًا إلى كونه كائنا بشريّا، بقي يقولُ إنه دونَ "الآب".
نظرةٌ كرستولوجيّة
كما لاحظنا في النصوص التي مررنا بها، إنّ الإهتمام اللاهوتيّ مستمرّ في تفسيرات مسألة الفصل، ويمكننا استخراج كريستولوجيا حقيقية من تلك التفسيرات. لنرى الآن تفسير قضيّة المساواة بين الآب والابن، بحسب هيرفيه دو بورغ ديو، وهو بنديكتيّ من بدايات القرن الثاني عشر (ت . 1150)
"إنه (أي المسيح) مساو ٍ للآب، ولكن هذا أيضا حظي به من الآب نفسه. لم يحظَ به بحيث أصبحَ مساويا له من باب النموّ، بل أصبح مساويًا له بالطبيعة ومنذ الأزل: فكما هو مولودٌ منذُ الأزل، كذلك هو مساو ٍ للآب منذ الأزل. وهكذا، فإنّ الآب لم يخلقه غيرَ مساو ٍله، ولا منحه تلك المساواة قبلَ أن يولد، بل قد منحه إيّاها وهو يخلقه، في الوقت عينه، إذ قد خلقه مساويًا له وليس مغايرًا. لذا لم يكن نهبًا ولا إغتصابًا، بل كانت مساواة ًبالطبيعة بين الآب والابن... كان، بالفعل، مساويًا للآب من دون أن يقترف أيّ إغتصاب ٍأو إنتحال، لأنه ولد أزليّا من الآب الأزليّ".
نلحظُ تعقيدَ الموضوع المطروح، وهو تعقيد تعوّده اللاهوتيون، وشغلَ الكثيرين في القرون الوسطى. يتعلّق الأمرُ بحلّ التناقض الجليّ بين واقعين في الرسالة إلى أهل فيلبي: من جهة، يدينُ يسوع للآب بما حصل عليه، ومن جهة أخرى هو شبيهٌ به من حيث الماهيّة والأزليّة. والصعوبةُ ذاتها تظهر في الجزء الثاني من النشيد، حيث يبدو كل من تمجيد المسيح يسوع، و"الاسم الذي يفوقُ جميع الأسماء"، وقد حظي به من عند الآب، نتيجة ًلأهليّة ٍأو جدارة عند المسيح. وقد شكّلت مسألةُ الأهليّة هذه، في القرن الثاني عشر، موضوع دراسة مهمّا.
تفسير دو مِلون
"وضع نفسه وأطاع حتى الموت..." فيلبي 2 : 8. نسأل، في هذا الشأن، إن استحق المسيح أيّ شيء. لقد استحق شيئا من أجلنا، ولكن من أجله هو، لم يستحق شيئا ممّا كان له؛ لقد استحقّ ما كان له ممّا كان عليه. بالفعل، يمكن أن نستحقّ ما نملكه: مثلا، يستحقّ فارسٌ من سيّده الأرضَ التي يملكها. ومن أجلنا، استحق (المسيح) أن نستطيع نحنُ الحصول على الحياة الأبديّة، هي التي لم نكن بعد حاصلين عليها. إلا أننا نستطيعُ القول كذلك إنه قد استحق، بحسب الجسد، شيئا لم يكن بعد حاصلا عليه، الخلود والهدوء. ولكن بحسب الروح، لا شيء على الإطلاق، إذ كان قد حصل على السعادة القصوى النابعة من روحه نفسها، أي معرفة تامّة لله: "فقد استكنّت فيه جميع كنوز الحكمة والعلم والمعرفة" (قولسي 2 : 3).
هناك تفسيران: بادئ ذي بدء، لا يمكننا الكلامُ على استحقاق المسيح، لأنه، في الجوهر، يملكُ كلّ ما هو كامل؛ إلأ أنّ التجسّد يؤول إلى نوع من التنشيط، إن جاز التعبير، لهذا الكمال، وهذا يحصلُ لمصلحة الإنسان وحده. تفسير آخر: إن كون المسيح قد إتخذ حالة البشر يخلق إستحقاقا من حيث طبيعته البشريّة (هكذا يُفسّر تعبير "لذلك" في الآية (9)، ولكن من جهة الآلوهة، مستحيل الكلام على مفهوم الإستحقاق في الأمر.