ولادة الإيمان، في البدء الكلمة
ولادة الإيمان.. في البدء كان الكلام
الطفل الصغير، حالما يستفيقُ من غفلته إلى الوعي، يطرح على البالغين السؤال تلوَ السؤال: ما هذا؟ لمَ هذا؟ ما الفائدة؟ وكثيرًا ما لا يعرف الوالدون أنفسُهم الجواب الصحيح، ويشعرون أنّ كثيرًا ممّا كان يبدو لهم طبيعيّا ليس في الحقيقة كذلك. وفي سنّ المراهقة يبدأ الشبّان والشابّات باكتشاف شخصيّتهم الخاصّة، فيريدون أن يكوّنوا حياتهم الخاصّة بأنفسهم، ويتطلّعون إلى عالم البالغين معترضين. ويُدرك كثيرٌ من الوالدين ذواتهم في موضع المناقشة من خلال انتقادات أولادهم. وهكذا يحدث تبدّل الأجيال: فلكلّ جيل أو بالأحرى لكل حقبة ٍ من التاريخ طريقتها الخاصّة في رؤية الأمور وأسلوبُها الخاصّ في العيش.
أعطيتُ إسمًا للمقال الثاني (ولادة الإيمان.. في البدء كان الكلام!). لأنّ الإيمان ليس نظريّات جامدة منزلة من فوق رأس الإنسان، ولا فرضيّات ممكن أن تكون صحيحة وممكن أن تكون خاطئة. " الإيمان نورٌ ، نورٌ للإكتشاف لكونه قادرًا على إضاءة كل وجود الإنسان. ولكي يكون قادرًا، لا يمكن أن يكون منحدرًا من أنفسنا، بل يجب أن يأتي من مصدر أكثر أصالة، يجب أن يأتي، بالنهاية، من الله" (البابا فرنسيس _ رسالة نور الإيمان). دانتي في الكوميديا الإلهيّة، بعد أن اعترف بإيمانه أمام القديس بطرس، قد وصفالإيمان وكأنه "شرارة"، تتسع فتتحوّل لشعلة حيّة، كنجم ٍ في أعالي السماء في باطني يتلألأ (قصيدة الفردوس).
لا يولد الإيمان من عمليّات حسابيّة رياضيّة، "فطالما أفهم العلاقة بين كميّة حسابيّة وأخرى، فالمسألة واضحة، وعندما أعرف أن مزج عنصر واحد بعنصر آخر يكون مركبا معيّنا، لا أسعى إلى معرفة المزيد، وعندما تعلّمني مصادر تاريخيّة جديرة بالثقة أنّ شخصًا ما قد عاش في حقبة معيّنة وعمل هذا وذاك، فالمسألة محسومة. بيد أنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة للإيمان، فالسؤال هنا يخصّ حقائق صعبة الفهم، وعمقا حيّا لا يصف نفسه، إلا بشكل بطيء فقط (إنه يشبه الولادة)، بل بالأحرى عليّ أن أتكلّم عن عمق مقدّس يكشف عن نفسه في ظروف محدّدة، إذ يقتضي حالات محددة من المعرفة والمواقف: هذا ما نسمّيه "الخبرة".
في سبيل إدراك محتوى الإيمان علينا أن نختبره
يقول اللاهوتيّ رومانو غوارديني: ليست حقائق الإيمان مجرّد حقائق يمكن استيعابها فحسب باسلوب نظريّ صرف. لو كان الأمر كذلك، لكان بالإمكان سبر غورها عن طريق البحث والدراسة... يعني الإيمان بلوغ الإنسان الحقيقة، وهذا يستلزم عملا محدّدا يهدف إلى الله على أنه المصدر والنهاية. الإيمان هو أن أكون متمسّكا بالحقّ.
هناك خبرة أخرى أيضا، وهي أكثر الجميع عمقا: الحقائق المقدّسة تصبح حقائق. هذا ما قصده الكاردينال نيومان عندما تكلّم عن "الإدراك"، أي أن حقائق كهذه تترك عالم الفكر أو النيّة أو الإرادة لتصير وجودًا حيا أو لتكتسب قدرًا حقيقيّا. ولكن هذا قد يستغرق وقتا طويلا جدّا، لا يأتي الإيمان - كما يقال عادة - بليلة ويوم! قد نحمل الإيمان ونتصوّر أننا نحمله ونتعب ونضجر ونتضايق، لكن يأتي يوم نكتشف بأننا لسنا نحن الذين نحمله، بل هو يحملنا ويحتوينا.
أخيرًا وليس آخرًا، إنّ الإيمان ليس شيئا قائما بذاته في الهواء، أنه يعقب ظهورًا شخصيّا من قبل الآخر، إنه "لقاء" على الطريق. مفاجأة غير متوقّعة من منعطف الطريق . هجومٌ لم أكن مستعدّا له. ولهذا ، فإنني في هذا اللقاء والهجوم ، لستُ أمام الحقيقة الفكريّة، ولا إزاء نظرة إلى العالم، ولا أمام كتاب فلسفيّ، أنا أمام واحد، إنه هنا بشخصه الغريب القريب المختلف عنّي. لهذا قلنا إنه "ولادة دائمة"، خروجٌ مستمرّ من - وإلى - الآخر، إكتشافٌ مستديم لحقيقة الله والإنسان والحياة. لكنه ليس خروجــًا مريحـــًا ولا ولادة سهلة؛ بل إنه تمزّق ومخاض، فيه صعوبات وتخبطات ومصاعب ومطبّات وخيبات. إن الإيمان كلمةٌ قيلت لنا ودعوةٌ وجّهت نحونا، فإن أهملنا الكلمة ولم نعط جوابــًا ولا لبّينا الدعوة؛ ستبقى حياتنا، من دونهما، بلا معنى وبلا هدف وبلا رجاء.
يتبع
مراجع هذه المقالة
1- المسيحية في عقائدها، أساقفة ألمانيا، نقله من الألمانيّة المطران كيرلس بسترس
2- حياة الإيمان، رومانو غوارديني، ترجمة الأب حبيب هرمز
3 - الرسالة العامة "نور الإيمان"، البابا فرنسيس