قصّة الطوفان
نصل إلى نهايات ما يسمّى عادة "المجموعة الأسطوريّة" في سفر التكوين، أي الفصول الأحد عشر الأولى. إنّ قصّة الطوفان، تحتلّ تقريبًا ربع هذه المجموعة، لأنهّا تمتدّ على أربعة فصول كاملة (6 لغاية 9).
إنّ قصّة الطوفان هي بغاية التعقيد إذا أردنا الدخول فيها بالتفاصيل ومن الناحية العلميّة: هي ليست قصّة واحدة بل هي رواية جُمعت فيها روايتان مختلفتين لا يصعب فصلهما:
- في الرواية الأولى نجد أنّ سبب الطوفان هو شرّ الإنسان (6، 5) وفي الثانية فساد الأرض وعنف الإنسان (6، 11- 12).
- في الرواية الأولى يأمر الله نوحاً بأخذ زوج من كلّ نوع حيوان (6، 9-20) وفي الثانية سبعة أزواج من الحيوانات الطاهرة وزوج من الحيوانات غير الطاهرة (7، 2).
- مدّة الطوفان: في الرواية الأولى أربعين يومًا أمّا في الثانية فسنة كاملة (7، 6 – 11 و 8، 13).
- سبب الطوفان: أمطار عظيمة (7،12؛ 8، 2) أو ٱنفتاح بوّابات الغمر العظيم وٱندفاع الينابيع من الأرض (7، 11؛ 8، 21)
- تركوا الفلك بعد أن أرسلوا عدّة طيور (8، 6-12) أو بسبب أمر من الله (8، 15 – 17).
إذا توقّفنا على الدرس التاريخيّ لتكوين النص سوف يلزمنا الكثير من الوقت والمجهود، لذلك ندرس النص في شكله النهائيّ، أي قصّة الطوفان، كما وصلتنا اليوم، أصلها ومغزاها وكيف نفهمها نحن اليوم.
أصلها:
لقد تكلمنا، في معرض حديثنا عن قصّة الخلق، على الأساطير المنتشرة في الشرق الأوسط القديم، خصوصاً أسطورة Enuma Eliš وأسطورة جلجامش البابليّة.
سنة 1872 ٱكتشف علماء الآثار في مدينتي بابل واورورك URUK العراقيّتين ألواحًا من حجر وطين كُتبت عليها أسطورة جلجامش. هذه الأسطورة كتبت على 12 لوحًا من حجر، وعلى اللوح الحادي عشر نجد قصّة الطوفان البابليّة.
بعد سنة 1872 ٱكتشف علماء الآثار ألواحاً أخرى كثيرة في الشرق كلّه، مع بعض التعديلات الطفيفة على القصّة لتناسب المكان الذي تبنّاها. هذا يدلّ على أنّ قصّة الطوفان قد ٱنتشرت في الشرق كلّه كقصّة رائجة (Best Seller) وكان لا بدّ أن تصل أيضًا إلى إسرائيل القديم، لأنّ إسرائيل كان موجودًا في بابل لفترة طويلة من الزمن.
ماذا تقول رواية جلجامش؟
حين وجد الملك البطل جلجامش أنّه أقوى بكثير من أتباعه صار يتسلّط عليهم بقسوة، لذلك قرّرت الآلهة أن تخلق إنسانًا مثله وبقوّته لتبعد ٱهتمامه عن الناس الآخرين. صار جلجامش صديقًا لهذا المخلوق الجديد أنكيدو ENKIDU وصارا يقومان بمغامرات معاً، منها ما أغضب الآلهة كثيرا: قتلوا همبابا HUMBABA حارس غابة أرز الآلهة في لبنان، رفضا الحبّ الذي قدّمته لهما عشتار الآلهة، قتلوا الثور المجنّح الذي كان يخص الإله آنو ANU.
عندها قرّرت الآلهة قتل INKIDU، خاف جلجامش حين مات صديقه لأنّه ٱكتشف قوة الموت ورهبته فأخذ يفتّش عن الحياة الخالدة. أرشدته الآلهة إلى نبتة – زهرة تعطي الحياة، موجودة في قعر المحيط فقطفها وأخذها، ولمّا وضعها على الشاطئ ليتسبّح جاءت أفعى وأكلتها فأخذت الخلود هي.
سمِع ببطل عظيم أنقذ الارض من الطوفان يسكن في آخر الارض على الجزر الغربيّة (قبرص أو اليونان؟) ٱسمه اوثبانيشتام (Utpaništam) ومكافأة على عمله أعطته الآلهة نعمة الخلود.
أخبر اوثبانيشتام جلجامش قصّة الطوفان (مشابهة جداً لقصّة طوفان نوح) ليقنعه أنّه لا يمكن له أن يطمح للخلود لأنّ الآلهة وحدها خالدة وكلّ إنسان يموت. عندها عاد جلجامش إلى مملكته. لم يكتسب الخلود إنّما ٱكتسب الحكمة.
طوفان Utpaništam
طوفان نوح
- قرّرت الآلهة إبادة البشر لأنّهم حادوا عن الطريق الصحيح
- الإله Ea حذّر Utpaništam وأمره ببناء فلك مطليّ بالزفت.
- طلب منه إدخال كلّ أنواع الحيوانات وكلّ أصحاب الحرف وعائلته.
- أرسل الطوفان فدمّر الارض.
- حين بدأت المياه تتراجع أرسل Utpaništam حمامة وبجعة وغرابا.
- توقّف الفلك على قمّة جبل نذير.
- بنى Utpaništam مذبحًا وقدّم ذبائح للآلهة.
- قبلت الآلهة محرقة Utpaništam وتصالحت معه وندمت على إبادة البشر
- الإله Enlil بارك Utpaništam وزوجته بموهبة الخلود فعاش على جزر الغرب.
- قرّر يهوه إبادة البشر لأنّهم ٱمتلأوا شرًّا و ٱمتلأ قلبهم عنفا.
- حذّر يهوه نوح وأمره ببناء فلك مطلي بالزفت.
- طلب منه إدخال عائلته وكلّ إنواع الحيوانات.
- أرسل الله الطوفان فدمّر الارض.
- حين بدأت المياه بالتراجع أرسل نوحًا حمامة وغراباً.
- توقّف الفلك على قمّة جبل ارارات.
- بنى نوح مذبحاً وقدّم ذبائح للربّ.
- قبل الله ذبيحة نوح وندم، فأزال اللعنة عن الأرض ووعد نوحاً بالخيرات وأقام معه عهدًا.
- بارك الله نوحًا وسلالته لينموا ويملأوا الأرض من جديد.
خطيئة الإنسان قبل الطوفان:
أبناء الآلهة يأخذون بنات البشر زوجات لهم:
هذه الآية هي غير واضخة، ربما تستند بدورها إلى أساطير غير يهوديّة أخذها شعب إسرائيل في فترة السبي.
من هم أولاد الآلهة؟ نحن نجدهم في عدّة مواضع في العهد القديم، خصوصاً في سفر أيّوب. نجدهم يدخلون إلى بلاط الله السماويّ ويقيمون معه حديثاً، ومن بين أولاد الآلهة هؤلاء نجد الشيطان.
إنّهم كائنات روحيّة أدنى من الله إنّما يحيطون به. هل هم ملائكة؟
إنّ ٱستعمال "أبناء الله" هنا في إطار الخطيئة يجعلنا نفكّر في معنى آخر: إنّها معتقدات الشعوب الأخرى التي ٱعتنقها شعب الله. إنّها عبادة الآلهة الغريبة والتي كان يحدث خلالها عادة ما يدعى "الدعارة المقدّسة" أي ممارسة الفسق في إطار ٱحتفال دينيّ تكريماً لإله من الآلهة الغريبة.
خطيئة شعب الله، أو الإنسان قبل الطوفان، هي في تركه لله وعبادته لآلهة غريبة سعياً للحياة الأبديّة. هي نفس خطيئة آدم وحوّاء التي تكلمنا عنها في الفصل الثالث.
عقاب الله الأوّل كان في الآية 3: لن يكون روحي فيه إلى الأبد، أي إنّه لن يكون خالداً، بل يموت ولا يحيا أكثر من 120 سنة.
الخطيئة التي ٱستدعت الطوفان كانت موجّهة لا إلى الله بل إلى الإنسان: ٱمتلأ الإنسان شرّاً و"عنفاً" ((hamas وهذه الخطيئة هي خطيئة قايين، موجّهة ضدّ الإنسان والطبيعة. العنف هي الخطيئة الاجتماعيّة، هي الاعتداء على حقوق الآخرين عن إرادة مسبقة بدافع من الطمع والحقد، وبغالب الأحيان من خلال ٱستعمال القوّة الجسديّة العنيفة[1]. الله يغفر الخطيئة الموجّهة نحوه، إنّما يعاقب بعدالة الخطيئة التي تمسّ المجتمع البشريّ.
12- ورأى الله [ونظر الله] الأرض فرآها قد فسدت
يصرّ الكاتب هنا على ٱستعمال "رأى الله" ليعيدنا إلى قصّة الخلق: رأى الله أنّه "حسن" (جميل Tob) ويقول إنّ الإنسان قد دمّر الأرض قبل الطوفان. حرفيًّا نرى: "أنّ الأرض قد فسدت" أو "أفسدت نفسها".
سبب فساد الأرض: "لأنّه بسبب الإنسان ٱمتلأت الأرض عنفاً". العنف يدمّر الخليقة ويعيدها إلى حالة مشابهة بحالة العدم الأولى. يقول الكاتب إنّ الإنسان هو الذي دمّر الأرض وليس الله. بالعنف يعيد الإنسان الأرض إلى حالة الخواء والخلاء، حالة ما قبل الخلق، أي حالة ما قبل اللحظة التي رأى الله فيها الأرض جميلة. العنف يدمّر الجمال، يدمّر إرادة الله في خليقته. ويعيد الخلائق إلى حالة عدم الوجود بطريقة غير مباشرة.
لذلك نجد في 9، 4-6، بعد الطوفان، أنّ الله يقيم عهداً مع نوح، ويحاول أن يلغي العنف في الأرض:
الإنسان لا يأكل الحيوان مع دمه، أي مع حياته، فالدم هو الحياة، وبالتالي نجد الله يمنع الإنسان من القضاء كليًّا على الحيوان، كما نجده يعاقب الحيوان الذي يفترس إنساناً.
هو ٱنتقال من حالة السلام بين الكائنات إلى حالة مسالمة أي عدم تقاتل والرادع هو العدل الإلهيّ.
لكي نفهم هذا النص جيّدًا يجب أن نقرأ حزقيال 7: هناك نجد أنّ العقاب والإبادة سببها العنف وشرّ قلب الإنسان. والنتيجة هي دمار أورشليم، هذا هو المعنى: دمار الأرض بالطوفان هو رمز لدمار أورشليم بسبب العنف وشرّ الإنسان، وبسبب عبادة الآلهة الغريبة.
- هي تجديد للخليقة والمحاولة الإلهيّة لإعادة آدم إلى حالته الأولى:
في قصّة الخلق:
في قصّة الطوفان:
- الله يفصل المياه عن اليابسة
- جعل الله الرقيع ليفصل بين مياه المحيط ومياه الغمر العظيم.
- خلق الله كلّ الحيوانات والزحّافات والبشر.
- نفخ الله نسمة حياة في آدم.
- المياه تعود فتغطّي اليابسة.
- تفتّحت نوافذ الغمر العظيم.
- ماتت كلّ الحيوانات والزحّافات والبشر.
- كلّ من في أنفه نسمة حياة مات.
في هذا كلّه نجد أنّ العمل الذي صنعه الله حين خلق كلّ شيء، ورآه حسنا، قد دمّر كليًّا. بقي فقط ما هو حسن "رأيت أنّك وحدك حسن (صالح tob)في هذا الجيل" (تك 7، 1).
- معنى الطوفان:
هي رمز للشرّ ولعالم الموت، فيها يعيش لويثان (التنين العظيم الأسطوريّ الذي تكلّمنا عليه في قصّة الخلق).
هو الشرّ الذي لا يسبّبه الله إنّما شرّ البشريّة، بالشرّ يعود الإنسان إلى حالة الفوضى، يخرّب خليقة الله الحسنة، يقول أشعيا: "ها إنّ الذي يخرّب الأرض، يخليها ويقلب وجهها ويبدّد سكانهّا" (أش 24) "تنوح الأرض وتذبل، تخور المسكونة وتذوي والسماء والأرض تخور. الأرض تتدنّس تحت سكانهّا لأنهّم خالفوا الشرائع." (24، 4-6).
ويكمل أشعيا: "تتفتّح مزاريب السماء وتتزلزل أسس الأرض فتتزعزع وتتشقّق وتتحطّم. وتهوي كالسكران وتتأرجح كالعرزال في العاصفة وتكون معاصيها ثقيلة فلا تقدر أن تقوم" (اش 18-20).
إنّما الذي يحفظ وصايا الله يعبر المياه فلا تؤذيه: "أنا خلقتك يا يعقوب، يا إسرائيل انا جبلتك، لا تخف فأنا ٱفتديتك، سمّيتك وجعلتك لي، إذا عبرت في المياه، فأنا معك، أو في الأنهار فلا تغمرك..." (أش 34، 1-2).
الطوفان هو إذاً رمز للدمار الذي يسبّبه الإنسان لنفسه وللعالم بسبب خطيئته: الدمار الشخصيّ والدمار الجماعيّ. فخطيئة الإنسان أيّام نوح لم تكن مجرّد خطيئة شخصيّة بل جماعيّة شاملة:
1- فسد قلب الانسان وٱمتلأ شرّاً.
2- الأرض فسُدت وامتلأت عنفاً.
3- والطوفان كان نتيجة لهذا الفساد.
نوح صار رمز البارّ الصدّيق المضطهَد ووحده الله يقدر أن يخلّصه من آلامه. فنوح كان يتّقي الربّ في جماعة عنيفة لا تؤمن، آمن هو فنظر إليه الربّ. نوح هو أيضاً رمز للمسيح الذي لم يقترف شرّاً إنّما عانى عنف البشريّة، ومات عنها فأقامه الله.
- نوح كان رجلاً باراً (SADIQ) وكاملاً (TAMIM)
- نوح يتمشّى مع الله (آدم الجديد).
- نوح الذي يسمع ويؤمن بكلمة الله (مثال لشعب إسرائيل).
- نوح الذي نال العهد الأوّل من الله، الوعد بالحماية.
- نوح الذي بنى الفلك وسليمان الذي بنى الهيكل (قارن بين تك 6، 11-16 و1ملوك 2، 6-11).
- العهد والوعد بالحماية بعد مواصفات الفلك (تك 6، 7) والعهد والوعد بالحماية لسليمان بعد مواصفات الهيكل (1 ملوك 6، 11-13).
وأقفل الله باب الفلك: الله يحمي شعبه.
نوح أدخل ابناءه معه:
سام: أب الشعوب الساميّة
حام: أب الشعوب المصريّة وشمال أفريقيا
يافث: أب شعوب البحر وأوروبا.
دلالة على أنّ الله، من خلال الفلك، رمز الهيكل، يخلّص كلّ الأمم لأنهّا كلّها تخرج من أبناء نوح (راجع تك 10).
الطوفان: هو العقاب لترك العهد.
الفلك: هو رمز الهيكل، هو أيضاً رمز لشعب إسرائيل أي للإنسان الوفيّ لكلمة الله.
أبناء نوح: هم الشعوب كلّها التي تخلص بكلمة الله أي الشعوب التي سوف تؤمن بالله بسبب اسرائيل.
الحيوانات كلّها: هي الخليقة المجدّدة التي يجب أن تكون مثل نوح، بارّة ولا عيب فيها.
ندم الله: أي أنّ وعد الله يُعطى مرّة واحدة ولا يُعاد هو وعد أبديّ لا تراجع عنه.
قوس الغمام: هي التوراة، الشريعة، العهد الذي أعطاه الله لشعبه.
كيف نطبّقه نحن على الكنيسة؟
إنّ الله لا يبيد البشريّة التي خلقها بل يريد إبادة الخطيئة، ونوح هو ٱستباق لشخص المسيح الذي من خلال كنيسته، سفينة العهد الجديد، يخلّص كلّ البشريّة، يمحو خطاياها بواسطة ماء المعموديّة.
[1] Theological Dictionary of the Old Testament, 4: 482.