الخطيئة الأولى
رأينا أنّ الفصل الثاني قد ٱنتهى بالسلام بين الله ومخلوقاته، وبين الإنسان والله (الإنسان على صورة الله ومثاله) وبين الإنسان والإنسان (حوّاء من ضلع آدم) وبين الإنسان والمخلوقات (تسلّط عليها ليحميها)، وقد جعله الله في جنّة عدن، أي في حالة شركة حياة أبديّة مع الله دون تسلّط للموت عليه.
زرع الله شجرة الحياة في وسط الجنّة ودعا الإنسان للأكل من كلّ أشجار الجنّة، ما عدا شجرة معرفة الخير والشرّ. لأنّه حين يأكل منها، موتاً يموت. الأكل هو رمز، أن يأكل الإنسان من شجرة المعرفة يعني أن يسعى ليكون إلهاً منفصلاً عن الله. الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، مدعوًّا إلى مشاركة أبديّة في الحياة مع الله، وهو ما نسمّيه نحن الحياة الأبدية في السماء. شجرة الحياة المزروعة في وسط الجنّة هي رمز للحياة الأبديّة التي زرعها الله في محور وجود الإنسان. والله، إذا قرأنا النصّ جيّداً، لم يمنعه من أكلها.
إنّ نتيجة أكل ثمرة شجرة الحياة هي نفسها نتيجة أكل ثمرة المعرفة: الألوهة؛ إنمّا بمنطقين مختلفين وبوسيلتين مختلفتين:
بمنطقين مختلفين: الأكل من شجرة الحياة يعني الاشتراك في الحياة الأبديّة التي أعطاها الله للإنسان بنعمةٍ إلهيّة. بكلام آخر، بواسطة الأكل من شجرة الحياة، يصبح الإنسان مشاركاً لله في الحياة الإلهيّة من خلال عطيّة الله، أي أنّ الإنسان هو خاضع لله ووجوده مرتبط بنعمة الله. بينما الأكل من شجرة المعرفة يعني أن يكون الإنسان "مثل الله" وليس مع الله، أي أن يصبح إلهاً بمعزلٍ عن الله.
بوسيلتين مختلفتين: الأكل من الثمرة يعني ٱشتراك الإنسان الكامل في الحياة الإلهية من خلال التعلّق بالله مصدر الحياة. الإنسان بكامله يشترك، وبكامله يحيا مع الله، حتى ولو لم يكن قادراً على معرفة سرّ الله وفهمه كاملاً. بينما ثمرة المعرفة رمزيّة ترتبط فقط بالناحية العقليّة، هي ٱمتلاكٌ لله من خلال قوّة العقل، أي أن نصبح آلهة من خلال ٱمتلاك الله بقوانا الذاتيّة. والفعل العبريّ yada’ (يدع) مشتقّ أصلاً من "يد" و "ع"، أي وضع اليد على، فالمعرفة بالنسبة للفكر الساميّ هي معرفة تملّكيّة حسيّة، وهو ما يستحيل على الإنسان القيام به إزاء سرّ الله، إنمّا هو الأمر الذي أراد الإنسان الوصول إليه. نتيجة الموت المتأتّية من هذا العمل ليست لسبب إنتقاميّ من قبل الله، إنمّا هي نتيجة طبيعيّة، فالإنسان يحيا بقدر ٱرتباطه بالله، لأنّه يستمدّ وجوده منه حصريّاً، وحين ينفصل عنه، ينفصل عن مصدر حياته الأبديّة فيموت.
إنّ الكتاب المقدّس يصوّر الإنسان المخلوق كرجلٍ وامرأة، لا صبيّاً وفتاة أو طفلاً وطفلة، هو الإنسان الناضج المسؤول عن تصرّفه، لذلك دخل معه الله بعهد أوّل، إذا صحّ التعبير، وهو أن يكون سيّداً على المخلوقات كلّها (أعطى كلّ واحد منها إسماً) إنّما لا يأكل من ثمرة المعرفة، أي أن لا يسعى لإلغاء الله من حياته، بل يرتبط به بحالة وفاء وطاعة بنويّتين.
يقول الكتاب أيضاً أن الله أسكن الإنسان في جنّة عدن ليحميها ويحرثها" (2، 15)، أي أنّه جعله في حالة شركة إلهيّة تتعلّق ديمومتُها دومًا بحريّة الإنسان وعمله، فقد حمّل اللهُ الإنسانَ مسؤوليّة ٱستمراره في هذه الحالة "الفردوسيّة"، عليه أن يحميها ويحرثها، أي عليه أن يحافظ عليها ويستثمرها لتستمرّ.
الآية الأخيرة من الفصل الثاني كانت: "وكانا كلاهما عريانين (`ärôm)، الرجل وامرأته، وهما لا يخجلان".
أمّا الفصل الثالث فيبدأ مباشرة بالحيّة الذكيّة `ärûm . هي ليست صفة شرّيرة بحدّ ذاتها، فسفر الأمثال يدعو إليها: "الرجل الذكيّ `ärûm يحيطه الكتمان" (أم 12، 16)، "الرجل الذكيّ `ärûm يتصرّف بحكمة" (أم 13، 16). المشكلة تكمن في كيفيّة استعمال هذا الذكاء، حين يُوَجَّه للشرّ يصبح مكراً. آدم وحوّاء أرادا أن يعرفا، أن يكونا ذكيّين في معرفتهما لله، أرادا أن يمتلكاه بقوّتهما الخاصّة، فبدل أن يصبحا `ärûm صارا `ärôm. باستعمالهما للمعرفة بالشكل الخاطئ، بدل أن يعرفا أنّهما من الله ومتعلّقين كليّاً به، ٱكتشفا أنّهما عاريين، أي ٱكتشفا ضعفهما وعجزهما عن التألّه وحدهما، عرفا أنّهما دون الله يموتان لا محالة.
يقول الكاتب أنّ سبب الخطيئة هو الكبرياء والمعصية، أي رفض إرادة الله ورفض التعلّق به. كانا حرّين في الاختيار أوّلاً لأنّهما مخلوقان على صورة الله ومثاله، وثانيّاً لأنّهما كما قلنا في حالة براءة أصليّة إنّما ليست براءة جاهلة، بل براءة واعية، فهما كانا قد بلغا سنّ النضوج كما يقول الكتاب: رجلاً وإمرأة خلقهما؛ لم يكونا طفلَينِ معفيَّين من المسؤولية.
الحيّة:
في رمزيّة العهد القديم تشكّل الحيّة علامة الكائن المعادي لله، والساعي إلى تدمير خليقته. الأفعى "لويتان" كانت موجودة في الأساطير الفينيقيّة (أوغاريت)، يتكلّم عنها النبيّ أشعيا (27، 1) وأيّوب 26، 13. وهو أيضاً التنّين قديم الأيّام المعادي لله ولخلائقه:
أشعيا 51، 9 إستَفيقي يا ذِراعَ الرّبِّ، إستَفيقي والبَسي الجَبروتَ إستَفيقي كما في القديمِ، كما في غابِرِ الأجيالِ. أنتِ الّتي قَطَعتِ رهَبَ وطَعَنتِ التِّنينَ طَعناً.
هي رمز للشيطان، الملاك الساقط بسبب كبريائه، كما يقول حزقيال حين يشبّه ملك صور المتكبّر بالملاك الساقط:
حزقيال 28، 11وقالَ ليَ الرّبُّ12يا ابنَ البشَرِ، أنشِدْ رِثاءً على ملِكِ صورَ وقُلْ لَه كُنتَ عُنوانَ الجَمالِ وغايةَ الحِكمةِ والجَلالِ.13كُنتَ في عَدْنٍ، جنَّةِ اللهِ، وكانَ كُلُّ حجرٍ كريمٍ كِساءً لكَ مِنَ العقيقِ الأحمرِ والياقوتِ الأصفرِ والماسِ والزَّبَرجدِ والجزَعِ واليشْبِ واللاَّزَوردِ والعصفرِ والزمرّدِ. وكانَت حُليكَ مِنْ ذهَبٍ. هذا كُلُّه هُيِّـىءَ لكَ يومَ خُلِقتَ.14أقمتُكَ حارساً يحرسُ جبَلَ اللهِ المُقدَّسَ، وتمشَّيتَ وسَطَ حجارةِ النَّارِ.15كاملاً كُنتَ في طُرقِكَ مِنْ يومَ خُلِقتَ إلى أنْ سقطتَ في الإثْمِ.16مِنْ كثرةِ ما اتَّسعت تِجارتُكَ امتلأتَ بالظُّلمِ وخَطِئتَ، فطرحتُكَ كشيءٍ نَجسٍ مِنْ جبَلي، مِنْ بَينِ حجارةِ النَّارِ أيُّها الكَروبُ الحارسُ.17تكبَّرتَ لجَمالِكَ، فأفسدَتْ كُبرياؤُكَ حِكمتَكَ، فطرحتُكَ إلى الأرضِ وجعَلتُكَ سُخريةً أمامَ المُلوكِ ليُمتِّعوا أنظارَهُم فيكَ
وأشعيا أيضاً يتكلّم عن الملاك، نجمة الصبح الباهر، الذي سقط إلى الهوّة بسبب كبريائه:
أشعيا 14،12 كَيفَ سقَطتِ مِنَ السَّماءِ يا نجمةَ الصُّبحِ الزَّاهِرةَ كيفَ هَوَيتَ إلى الأرضِ أيُّها القاهِرُ الأُمَمَ13كُنتَ تقولُ في قلبِكَ سأصعَدُ إلى أعالي السَّماءِ وأرفَعُ فَوقَ كواكِبِ اللهِ عرشي. أجلِسُ على جبَلِ الآلِهَةِ، هُناكَ في أقاصي الشَّمالِ14وأرتَقي أعالي السَّحابِ. وأكونُ شَبـيهاً بالعليِّ.15لكنَّكَ انحَدَرتَ إلى عالَمِ الأمواتِ، إلى أعماقِ الهاويةِ.
وفي العهد الجديد سوف يتكلّم كتاب الرؤيا، بلغته الرمزيّة، على الحيّة القديمة، التنّين، الذي هو إبليس والشيطان:
رؤيا 12، 9 7ووقَعَت حَربّ في السَّماءِ بَينَ ميخائيلَ ومَلائِكَتِهِ وبَينَ التِّنِّينِ، فقاتَلَهُمُ التِّنِّينُ بِملائِكَتِهِ،8لكِنَّهُم انهَزَموا وخَسِروا مكانَهُم في السَّماءِ.9وسقَطَ التِّنِّينُ العَظيمُ إلى الأرضِ، وهوَ تِلكَ الحَـيَّةُ القديمةُ والمُسمَّى إبليسَ أوِ الشَّيطانَ، خادِعُ الدُّنيا كُلِّها، وسَقَطَ معَهُ مَلائِكَتُه
رؤيا 20، 1 ثُمَّ رَأيتُ ملاكًا نازِلاً مِنَ السَّماءِ يَحمِلُ بِـيَدِهِ مِفتاحَ الهاوِيَةِ وسِلسِلَةً عَظيمةً.2فأمسَكَ التِّـنِّينَ، تِلكَ الحيَّةَ القَديمةَ، أي إبليسَ أوِ الشَّيطانَ، وقيَّدَهُ لألفِ سنَةٍ3ورَماهُ في الهاوِيَةِ وأقفَلَها علَيهِ وخَتَمَها.
فقالت لِلمَرأةِ أحقًّا قالَ اللهُ لا تأكُلاَ مِنْ جميعِ شجَرِ الجَنَّةِ
حتى من الناحية اللغويّة يطلعنا الكاتب على مكر المجرّب وعلى مكمن الخطيئة: دائماً حين يتكلّم الكاتب على الله يسمّيه: ´élöhîm yhwh "يهوه الله" دلالة على الإله الشخصيّ، الإله الذي يملك إسماً، وليس الإله المجهول الذي لم يدخل بعلاقة مع الإنسان، بينما نجد أنّ الحيّة لا تستعمل هذه التسمية، إنما تدعوه ´élöhîm فقط، دلالة على عداوة الحيّة مع الله، ورفضها للاعتراف به من خلال لفظ اسمه.
لا تأكُلاَ مِنْ جميعِ شجَرِ الجَنَّةِ: الحيّة تحوّر في كلام الله، الله لم يمنع الإنسان من أكل جميع ثمار الجنّة. والحيّة "أذكى المخلوقات" تعرف هذه الحقيقة، إنّما هدفها لم يكن الإستفهام، إنمّا كان تحويل فكر حوّاء عن "يهوه الله" الإله الشخصيّ الذي خلقها بدافع من حبّه وأعطاهما كلّ شيء، إلى "إله مجهول" يريد أن يمنعهما من الوصول إلى غايتهما المنشودة، أي المشاركة في الحياة الإلهيّة.
2فقالتِ المَرأةُ لِلحَـيَّةِ مِنْ ثَمَرِ شجَرِ الجَنَّةِ نأكُلُ،3وأمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الّتي في وسَطِ الجَنَّةِ فقالَ اللهُ لا تأكُلا مِنهُ ولا تَمَسَّاهُ لئلاّ تَموتا.
جواب المرأة هو أيضاً جواب مشوّه وغير دقيق، ويجب أن نقرأ النصّ بتمعّن لنفهم هذا الأمر: تنفي المرأة أن يكون الله قد منعها من أكل ثمر شجر الجنّة، إنمّا تقول إنّه منعها من الأكل من الشجرة التي هي في وسط الجنّة.
أوّلاً: حواء تستعمل أيضاً طريقة الحيّة في تسمية الله، تقول ´élöhîm ولا تلفظ اسمه "يهوه". حوّاء تجاري الحيّة في نظرتها لله، بدأت تميل إلى سماع كلام المجرّب، لم يعد الله بالنسبة إليها الإله الشخصيّ الذي يحمل اسماً، بل صار إلهاً بعيداً، مجهولاً، صار إلهاً ضمن الآلهة الأخرى.
ثانياً: تقول إنّ "الإله" قد منعها من أكل الشجرة التي في وسط الجنّة. بينما في 2، 9 نرى أنّ يهوه قد زرع شجرة الحياة في وسط الجنّة، وزرع شجرة معرفة الخير والشر. في وسط الجنّة، أي في محور الوجود الإنسانيّ وفي أعمق رغباته، نجد شجرة الحياة، والله لم يمنع الإنسان من الأكل منها، وفي 2، 17 يمنع الله الإنسان من الأكل من شجرة المعرفة، لا من شجرة الحياة.
كما أنّ الله لم يقل "لا تمسّاها"، بعكس ما تؤكّده حوّاء للحيّة.
قلنا سابقاً إنّ شجرة معرفة الخير والشرّ هي رمز لرغبة الإنسان في معرفة الله، أي في امتلاكه. هي رمز لإرادة الإنسان في أن يصبح إلهاً آخر منفصلاً عن الله مصدر حياته. لذلك حذّر الله الإنسان من أكلها، لأنّه يموت بانفصاله عن الله. إنّما الله لم يقل: "لا تمسّاها"، أي "لا تسعيا الى معرفة الله"، فالسعي الى التعرّف على الله هو واجب على الإنسان، إنما التعرّف على الله هو ممكن فقط من خلال اللّمس، أي من خلال المعرفة السطحيّة الخارجيّة، نحن نعرف عن الله بقدر ما يمكن لطبيعتنا أن تصل اليه، وبقدر ما يظهره الله لنا. حوّاء تكذب قائلة إنّ الله قد منعها من محاولة التعرّف إليه. تكذب لأنّ هذه المعرفة لم تكن ترضي كبرياءها، كانت تريد أن تأكل الثمرة لا أن تلمسها، أي أن تمتلك الله لا أن تكون على علاقة طاعة به.
خطيئة حوّاء ٱبتدأت بتشوّه نظرتها لله، فبدل أن يكون الإله الشخصيّ، يهوه الله، الذي أعطاها أن تكون مسلّطة على الجنّة، أصبح إلهاً مجهولاً غير شخصيّ يمنعها من الوصول إلى غايتها. مشكلتها أنّها لم تصغِ لكلمات الله بل حوّلتها، وتبنّت منطق الحيّة، ونظرة المجرّب. وثقت بالشيطان أكثر من الله لأنّه قدّم لها الحلّ الأسهل.
4فقالتِ الحَـيَّةُ لِلمَرأةِ لن تموتا،5ولَكِنَّ اللهَ يعرِفُ أنكُما يومَ تأكُلانِ مِنْ ثَمَرِ تِلكَ الشَّجَرَةِ تنفَتِحُ أعينُكُما وتَصيرانِ مِثلَ اللهِ تعرفانِ الخيرَ والشَّرَّ
"لن تموتا": الحيّة تعد حوّاء بالحياة، والله هو الذي يعطي الحياة. حوّاء كانت تعرف أنّ الله أعطاها الحياة رغم ذلك فتّشت عن الحياة التي تعدها بها الحيّة.
نطرح السؤال: ألم تكن الحيّة محقّة؟ فآدم وحوّاء لم يموتا بعد أكل ثمرة المعرفة، فآدم قد مات بعمر ال 930 سنة (تك5، 5). إذاً فالموت لم يكن الموت الجسديّ، بل كان موتاً من نوعٍ آخر، هو الموت الروحيّ، الذي طال آدم وحوّاء بسبب الإنفصال عن الله.
- الحيّة حاولت أن تجعل حوّاء تشكّ في محبّة الله وجوده: إنّه يكذب. هي حالة شعب إسرائيل في مراحل تاريخه، في كلّ مرّة يقع في مشكلة يشكّ في صدق الله وفي صدق وعوده، فيذهب إلى عبادة الآلهة الأخرى.
- الحيّة تجعل حوّاء تشكّ في سوء الخطيئة، وتقنعها أنّ مخالفة وصايا الله تعطيها المعرفة والحقيقة، وأنّ الطاعة لله تبقيها جاهلة. هي أيضاً خطيئة إسرائيل حين فتّش عن حمايته خارجاً عن الله، حين أراد أن يكون له ملك مثل سائر الشعوب الذين لا يعرفون الله، وٱعتمدوا على قوّتهم العسكريّة ليحلّوا مشاكلهم. رأَوا أنّ الخطيئة تحلّ مشاكلهم.
- الحيةّ تقنع حوّاء بأن مخالفة وصيّة الله هي الحلّ وهي الوسيلة لتصبح مثل الله. إنّها تجعلها تقتنع أنّ الحرّية الحقيقيّة هي في أن لا تلتزم بوصيّة الله، وأنّ الخلاص هو في عيش الحياة دون قيود أخلاقيّة.
ما هو إذاً هذا الموت الذي تكلّم عنه الله إن لم يكن الموت الجسديّ؟
يقول إذا أكلت موتاً تموت، بينما نتيجة الأكل الفعليّة هي الخروج من الجنّة: الموت إذاً هو الخروج من الجنّة. ماذا يعني ذلك؟ يجب أن نفهم ذلك انطلاقاً من تاريخ إسرائيل. في تك 2، 12-13 نجد أنّ الجنّة مزدانة بالأشجار والأنهار وبالأحجار الكريمة والذهب، وهذا ما كان يراه اليهوديّ حين يزور هيكل أورشليم وقدس أقداسه المزيّن بالذهب والأحجار الكريمة والشمعدان المقدّس على شكل شجرة بسبعة أغصان. الإنفصال عن هيكل أورشليم كان يعني الموت. حين كان أحدهم يمرض مرضاً معدياً، مثل البرص، أو حين كان يقترف خطيئة عظيمة، كان يُمنع من الإختلاط بالجماعة ويُطرد من المدينة، ويُمزَّق ثوبه فيصبح عارياً (راجع لاويين 13، 45) ويُرسل إلى الصحراء أو البرّية ليبقى وحيداً فيموت. الموت إذاً يعني الإنفصال عن جماعة إسرائيل، والموت الذي حذّر الله آدم منه هو هذا الإنفصال عن الشركة مع الله.
6ورأتِ المَرأةُ أنَّ الشَّجَرةَ حسنة لِلمَأكلِ وشَهيّةٌ لِلعَينِ، وأنَّها باعِثَةٌ لِلفَهْمِ، فأخذَت مِنْ ثَمَرِها وأكَلَت وأعطَت زوجَها أيضاً، وكانَ مَعَها فأكَلَ
خطيئة حوّاء تكمل حتى العمق، هي تأخذ مكان الخالق، وهذا ما يظهره الكاتب من خلال استعمال الأفعال:
- ورأى الله أنّه حسن/ ورأت المرأة أن الشجرة حسنة.
- فأخذ الله ضلعاً / فأخذت من ثمرها.
- الله يعطي آدم حوّاء/ حوّاء تعطي آدم الخطيئة.
- الله يصنع المخلوقات / آدم وحوّاء يصنعان لهما ثياباً.
آدم في كلّ هذا لم يعترض، لم يرفض المعصية، وفي هذا الأمر تكمن خطيئته: هو الذي نال الوصيّة مباشرة من الله، وقبل أن تُخلق حوّاء، بألاّ يأكل من ثمرة المعرفة. هو كان مسؤولاً عن حماية حوّاء من الخطيئة، فهي التي أُخذت من ضلعه، وأُوكل إليه حمايتها. على الرغم من هذا، لم يقل شيئاً، لم يتحمّل مسؤوليّته بل جارى حوّاء في كبريائها وطمعها. هربه من تحمّل المسؤوليّة سوف يكرّره ابنه ثانية: "من جعلني حارساً لأخي" (تك 4، 9)، ونسي أنّ الله قد جعله حارساً للخليقة كلّها وعليه أن يتحمّل المسؤوليّة (2، 15).
حسنة لِلمَأكلِ وشَهيّةٌ لِلعَينِ، وأنَّها باعِثَةٌ لِلفَهْمِ
هي التجارب الثلاثة الأساسيّة التي تبعد الإنسان دائماً عن الله: الطعام رمز الرغبة بالشبع الجسديّ، والعين، رمز الرغبة في الإمتلاك، والفهم، أي أن يعرف الإنسان حقيقة الوجود والله، أن يمتلك الله من خلال قواه العقليّة الذاتيّة. هي التجارب ذاتها التي سوف يجرّب بها الشيطانُ المسيح: الحجارة المتحوّلة خبزاً، والممالك الغنيّة رمز التملك والغنى المادي والإستغناء عن الله، ورمي الذات من الجو فتأتي الملائكة تحمله، أي أن يكون إلهاً بمعزل عن الإله، خطيئة الكبرياء.
المسيح، آدم الجديد، رفضها كلّها، وأوكل إلى الله أمره، إنمّا آدم القديم وزوجته حوّاء لم يرفضاها بل سقطا في التجربة فهلكا.
7فانْفَتَحت أعيُنُهما فعَرفا أنَّهُما عُريانَانِ، فخاطا مِنْ وَرَقِ التِّينِ وصَنَعا لهُما مآزِرَ
لقد كانت الحيّة على حقّ، فقد انفتحت عيناهما، ولكنّهما لم يصبحا آلهة، بل رأيا أنّهما عريانان، أبصرا ضعفهما ومحدوديّتهما. بهذا كان الموت، إنفصلا عن الله وقرّرا مصيرهما بنفسهما، وعرفا أنّهما لا يقدران أن يكونا آلهة دون الله، لهذا ٱختبأا.
قبل الخطيئة كان الإنسان عرياناً أيضاً، إنمّا لم يكن بحاجة لأن يختبئ، لأنّه كان على علاقة حبّ مع الله ومع المخلوقات كلّها، وهذه العلاقة قد تحطّمت بسبب خطيئة الإنسان.
8وسَمِعَ آدمُ وامرأتُه صوتَ الرّبِّ الإلهِ وهوَ يتمشَّى في الجَنَّةِ عِندَ المساءِ، فاخْتبأَا مِنْ وَجهِ الرّبِّ الإِلهِ بَينَ شجَرِ الجَنَّةِ.9فنادَى الرّبُّ الإلهُ آدمَ وقالَ لَه أينَ أنتَ
هذه الآية تظهر العلاقة الأصليّة التي كانت قائمة بين الله والإنسان، علاقة لم يرد الله أن يفسدها، لهذا بقي يتمشّى في الحديقة، إنمّا رفضها الإنسان، فاختبأ من وجه الله. الإنسان لم يعد يقدر أن يكون على علاقة جيّدة بالله لأنه ٱختار الإنفصال.
الله يسأله: أين أنت؟ الله يعرف جيّداً كلّ شيء، إنمّا هو سؤال عميق يقول فيه الله لآدم وحوّاء، أين أصبحت؟ هو عتاب الله للإنسان الذي لم يثق به، هو عتاب الأب لإبنه والحبيب لحبيبه.
يقول الناسك دوروتيوس من غزّة: "مرّة أخرى، بعد أن خطئ آدم، كان الله يعطيه الفرصة ليتوب ويُغفر له، إنمّا بقي عنيداً. جاء الله وقال له: أين أنت؟ بدل أن يقول له: أرأيت من أي مجد سقطتَ وإلى أيّة حالة وصلتَ؟ ألستَ تخجل؟ لماذا خطئت؟ لماذا ٱبتعدت عن طريقي؟ قال له فقط: "أين أنت" كما لو أنّه يريد من آدم أن يجيب: "إغفر لي"، إنمّا آدم لم يبدِ أيّة علامة تواضع... أجاب: "الإمرأة التي أعطيتها لي" (ولم يقل: زوجتي) كما لو أنّه يتّهم الله أنّه هو سبب الخطيئة لأنّه أعطاه حوّاء، كأنّه يقول: "أنت وضعت فوق رأسي هذه المصيبة".
الأنسان بعد الخطيئة تهرّب من مسؤوليّته، وألقى اللوم على الآخر:
آدم ألقى اللوم على حوّاء، وبطريقة غير مباشرة على الله الذي أعطاه حوّاء.
حوّاء ألقت اللوم على الحيّة، إنمّا كانت تدين نفسها: كانت تقول لله إنّها شكّت بصدق كلامه ووثقت بالحيّة.
وحدها الحيّة لم تبرّر نفسها، لأنّ الله لم يسألها، الشيطان لا يمكنه أن يتوب لذلك لم يدعُه الله إلى التوبة بل حكم عليه، سأل الإنسان علّه يتوب، فلم يتب الإنسان بل أخطأ من خلال تبرير نفسه على حساب موت الآخر.
الإنسان بسبب الخطيئة صار يرى الآخر: الله والإنسان والحيوان كسبب للخطيئة، لأنّ علاقته بهم قد تشوّهت. صار يرى الله كأنّه لا يريد الحياة للإنسان، صارت علاقته معه مبنيّة على الخوف، وصار الإنسان بالنسبة له سبب خطيئة وموت، ففسدت علاقته بالكائنات الأخرى.
15بَينَكِ وبَينَ المَرأةِ أُقيمُ عَداوةً وبَينَ نسلِكِ ونسلِها فهوَ يتَرقَّبُ مِنكِ الرّأسَ وأنتِ تـتَرقَّبـينَ مِنْه العَقِبَ
في قعر الخطيئة أعطى اللهُ الإنسانَ الوعد بالخلاص. سوف يسحق نسلُ حوّاء رأسَ الحيّة. هو الوعد الأوّل بمجيء المسيح.
العقاب:
لحوّاء:
- أزيدُ تعَبَكِ حينَ تَحبَلينَ (صارت المشاركة في الخلق ألماً لا بركة)
- وبالأوجاعِ تَلِدينَ البَنينَ
- إلى زَوجِكِ يكونُ اشتياقُكِ، (لا إلى الله، تحوّل في رغبة الإنسان، واستعباد الإنسان للإنسان، صار مصدر لذّة بعد أن كان مدعوّ لأن يحبّ)
- وهوَ علَيكِ يسودُ (علاقة تسلّط بعد أن كانت علاقة مساواة، هي التي أُخذت من ضلعه (مساوية له) صارت كأنّها مستعبدة له.
لآدم:
- تكونُ الأرضُ مَلعونَةً بِسبَبِكَ (هو الخارج من الأرض صار لعنة لها- هو الذي كان عليه حماية الأرض قد لُعنت بسببه)
- حتّى تَعودَ إلى الأرضِ لأنَّكَ مِنها أُخِذْتَ. فأنتَ تُرابٌ، وإلى التُّرابِ تعُودُ: الموت الجسديّ، العودة الى الأرض بدلاً من الاشتراك بالحياة الإلهيّة.
المغفرة:
- الوعد بالخلاص
- الثوب الذي صنعه الله لهما
- خروجهما من الجنّة لكي لا يأكلا من شجرة الحياة: لكي لا يبقيا في حالتهما إلى الأبد.