سؤال و جواب
إن الزمنَ الذي نَحيَا فيه هو زمنُ الفردّية بامتياز، ونحن شهود على التحّول السريع الذي يعيشُه المجتمع البشرّي (وضمنه الكنيسة) من مجتمع متضامنٍ مبنيّ على المُثُل الإنجيليّة وبالتحديد على مفهوم الشراكة هو استجابة لدعوة الله ،تلبية لحاجة القلب بأن يجد ملء سعادته. الدعوة هي اكتشاف، على مثال صموئيل الفتيّ في العهد القديم. أكتشف أن الله يدعوني، يكلّمني، يناديني باسمي. هذا هو صميم الدعوة المسيحيّة وقلبها، لا أبقى مجرّد واحد بين مليارات البشر في العالم، بل أسمع صوتاً يكلّمني شخصيّاً، لأعرف مكاني ودعوتي وهدفي في قلب هذا العالم.
إن الله يدعو كلّ رجل وامرأة الى أتّباع طريق المسيح: هي الدعوة العامّة الى القداسة يشترك فيها كلّ معمّد. هي دعوة المعمّدين الى عيش معموديّتهم بطريقة أمينة ووفيّة. ولكنّ هذه الدعوة الواحدة تختلف بحسب ظروف كلّ إنسان وبحسب مواهبه. لقد دعا المسيح جميع البشر الى إتّباع تعاليم الإنجيل حين كان يبشّر ولكنّه دعا كلّ واحد بحسب موهبته. لقد دعا بطرس والرسل، ودعا زكّا ودعا أيضاً المجدليّة، كلّ بحسب ظروف حياته وبحسب اختباره. وهو اليوم يدعو كلّ واحد منّا بحسب مواهبه وبحسب مخطّط الله لكلّ واحد منّا: منّا من هو مدعوّ للكهنوت، ومنّا من هم مدعوّون للتكرّس الرهبانيّ، رجالاً ونساء يتركون كلّ شيء ليحيوا المشورات الإنجيليّة ضمن جماعة رهبانيّة، وآخرون يدعوهم الرّب للزواج ليحيوا القداسة في إطار العائلة التي يؤسّسونها بروح مسيحيّة.
إن الله يدعو كلّ رجل وامرأة الى أتّباع طريق المسيح: هي الدعوة العامّة الى القداسة يشترك فيها كلّ معمّد. هي دعوة المعمّدين الى عيش معموديّتهم بطريقة أمينة ووفيّة. ولكنّ هذه الدعوة الواحدة تختلف بحسب ظروف كلّ إنسان وبحسب مواهبه. لقد دعا المسيح جميع البشر الى إتّباع تعاليم الإنجيل حين كان يبشّر ولكنّه دعا كلّ واحد بحسب موهبته. لقد دعا بطرس والرسل، ودعا زكّا ودعا أيضاً المجدليّة، كلّ بحسب ظروف حياته وبحسب اختباره. وهو اليوم يدعو كلّ واحد منّا بحسب مواهبه وبحسب مخطّط الله لكلّ واحد منّا: منّا من هو مدعوّ للكهنوت، ومنّا من هم مدعوّون للتكرّس الرهبانيّ، رجالاً ونساء يتركون كلّ شيء ليحيوا المشورات الإنجيليّة ضمن جماعة رهبانيّة، وآخرون يدعوهم الرّب للزواج ليحيوا القداسة في إطار العائلة التي يؤسّسونها بروح مسيحيّة.
الدعوة العامّة للقداسة لها أشكال متعدّد، وللحياة الرهبانيّة بعينها أشكال مختلفة، فمنهم من يدعوهم الرّب الى الحياة الرسوليّة، للعمل مع الفقراء والمعوزين والمرضى، أو في التعليم في المدارس والجامعات. منهم أيضاً من يدعوهم للحياة التأمّليّة الصامتة الديريّة. والإنجذاب الّذي يشعر به بعض الشبّان والشابات الى نوع من أنواع الحياة هذه قد يكون علامة دعوة يجب تنميتها وتمييزها.
نسمع غالباً أنّ تلبية دعوة الله لنا هي تقديم الذات لله تقدمة ومحرقة تامّة، أو هي قتل لكلّ ما فينا من أجل ربح ملكوت الله. الدعوة هي ليست تدميراً شاملاً وكاملاً لمقدّراتنا، فالله لا يريدنا أن نبيد المواهب التي وهبنا إيّاها، ولا أن نكون مكرّسين تعساء، دون مواهب ومقدّرات. دعوة الله لنا لا تسرق منّا مواهب الله ونعمه التي أعطاناها. يريدنا الله أن نحيا الفرح الحقيقيّ والكامل: "أتيت ليكون فرحكم تامّاً". الدعوة هي أن نبني كياننا، نحيا فرح القلب، الفرح الحقيقيّ والدائم، نفتّش عن الحقيقة الأبديّة ونشارك الآخرين في الفرح الّذي تعطينا إيّاه دعوتنا. "حياتي لا يأخذها منّي أحد، بل أنا أهبها" قال يسوع، وهكذا نحن، حين نلبّي دعوة الله، نلتزم بخيار يتطلّب تخلّي وتضحيات. الله يريدنا أن نحيا الفرح الحقيقيّ ضمن الدعوة التي دعاني هو اليها. إن اختياري لنمط حياة معيّن يتطلّب مني القيام بتضحيات معيّنة لأحيا وفيّاً لدعوتي. أن كان خياري هو عيش نمط حياة التكرّس، وأن هذا الخيار يجعلني أشعر أنّي قادر على أيجاد الفرح والسلام الداخليّ، فهي علامة أن الله يدعوني الى هذا النمط من الحياة.
السلام الدّاخليّ هي العلامة الأولى التي يجب أخذها بعين الإعتبار، فكلّ مرّة يتكلّم الرّب مع رسله يقول لهم: "السلام معكم". والسلام الدّاخليّ لا يعني عدم وجود القلق ساعة اتّخاذ القرار، ولا يعني أيضاً أنّي أذهب الى الدّير دون تردّد وقلق. فقد أتردّد أحياناً كثيرة وأسعى للمماطلة وأتهرّب من القرار أو أحاول التأجيل، وقد أرغب في ترك الدّير في فترة الإختبار بسبب المشاكل والقلق. ولكن السلام الدّاخليّ هو هذا الشعور الثابت بأنّي، وبالرغم من قلقي وتردّدي، فقد وجدت مكاني، المكان الوحيد الّذي أعلم ضمنيّاً أنّه قادر على إعطائي السعادة رغم المصاعب الكثيرة. روح الرجاء والفرح، وهو الشعور الّذي أحسّ به تلميذا عمّاوس ساعة كان يسوع يسير معهما. رغم حزنهما الكبير لأنّهم رأوا يسوع مصلوباً، فقد حملت كلمات هذا الغريب السائر معهما العزاء الى قلبيهما. هكذا أنا أيضاً حين أميّز دعوتي، أشعر بالعزاء والفرح لأنّي واثق من حضور الله في حياتي، يسير معي، يعلّمني، يعطيني الرّجاء لأنّي أكتشف أن الله يسير معي وأنّني لم أعد بمفرداتي. روح الرحمة نحو الآخرين، والرغبة في الوقوف الى جانب الضعفاء والفقراء والمتألّمين. هذه الرغبة التي تدفعنا الى مساعدة من هم أضعف منّا وخدمتهم هي علامة من علامات الدعوة للتكرّس الكهنوتيّ والرهبانيّ. فالفرح الّذي يزرعه الله في قلبنا يدفعنا الى مشاركته مع الآخرين، والى وضع ذاتنا بكلّيتها في خدمتهم من خلال اتّباع المسيح في حياة التكرّس. الصلاة والحياة الرّوحيّة والرغبة في تعميقها من أجل علاقة ثابتة ومميّزة مع الرّب يسوع. فالحياة الروحيّة لدى الشاب والشابّة هو من أولى علامات الدعوة الرهبانيّة، فالصلاة هي علاقة صداقة مع الرّب والتكرّس هو التتلمذ الدائم والدخول في علاقة صداقة ووفاء، لا تكرّس من دون الصلاة والحياة الرّوحيّة. لا أشعر بالرغبة في اقتناء الأموال ولا يعني لي البحث عن المراكز والسلطة شيئاً وأشعر أنّي مستعدّ لأن أتخلّى عن فكرة الإرتباط بشخص واحد أقاسمه حياتي وأبني معه عائلة، بل أرغب في أن تكون الإنسانيّة كلّها عائلتي واضعاً ذاتي في خدمة الآخرين.
أسأل ذاتي، في أي نوع من الحياة أجد نفسي وأقدر أن أحقّق ذاتي من خلالها؟ هل تكفيني حياتي كما هي اليوم؟ هل أظنّ أن التزامي بالحياة المسيحيّة كما أحياها اليوم هي تكفيني لأحقّق دعوة الله لي أم أظنّ أن بامكاني تعميقها وتمتينها وعيش اقتدائي بالمسيح بطريقة مميّزة وأكثر جذريّة؟ أتكلّم مع شخص يمكنه إن يرافقني روحيّاً، يعطيني رأيه بطريقة موضوعيّة وحرّة، ليساعدني على تمييز دعوتي وعلى إتّخاذ القرار بشكل أوعى وأكثر حريّة. فمهما كان نوع الحياة التي يدعوني اليها الرّب، فإن المرافق والمرشد الرّوحيّ يبقى أساسيّاً، لا يأخذ القرار مكاني، إنّما يساعدني على تمييز دعوة الله لي بطريقة أكثر جديّة. آخذ وقت اختبار من خلال التردّد على جماعة رهبانيّة بالإتّفاق مع المرشد الرّوحي ومع مسؤول في دير الطالبيّة أو الإبتداء الّذي أنوي زيارته، في فترة العطلة الصيفيّة أو في عطلة نهاية الأسبوع، فأتعرّف على نمط الحياة الديريّة لأقرّر إن كان هو نمط الحياة الّذي أفتّش عنه. لا أعطي قراراً سريعاً، إيجابيّاً أو سلبيّاً، فلا يجب أن يكون قراري نتيجة رغبة وحماسة عابرتين، أو أن يكون رفضي ناتجاً عن شعور بالقلق والخوف أشعر به في فترة الإختبار، فمهما كان اختياري، لا بدّ أن آخذ وقتاً للتفكير في إطار الهدوء والصلاة والتأمّل. الرياضة الروحيّة تبقى وسيلة أساسيّة للتمييز، وفرصة للصلاة والتأمّل والحوار والمشاركة برفقة مرشد روحيّ إذا أمكن لأتمكّن من تمييز دعوة الله لي في حياتي.
إزاء ما تواجهه كنيستنا شرقاً وغرباً من إضطهاد متجدّدٍ ومتواصل، تحت أقنعة الإيديولوجيّات الملحدة أحياناً، أوالعلمانيّة المتطرّفة التي تهمّش المسيحيّين في أكثر البلدان تقدّماً، أو إضطهاد تيارات الماديّة والإستهلاك واللّذة التي تدعو المؤمن الى تبنّيها، وصولاً الى الإضطهاد الدمويّ الّذي صار واقعاً في شرقنا مع تنامي الحركات الإصوليّة التي تنفي حقّ الإختلاف، وترفض شرعة حقوق الإنسان في حرّىة الضمير والمعتقد، وتسفك دماء المسييحيّين في العديد من الدولِ، لا بدّ من طرح السؤال: هل يمكننا انكار إيماننا حفظاً لحياتنا؟ هل هي خطيئةٌ أن نرتدّ عن إيماننا في سبيل بقائنا الجسديّ؟ ألم ينكر بطرسُ المسيحَ حفاظاً على حياته، فغفر له المسيح؟ ألم يدعنا المسيح أن تكون لنا حكمة الأفاعي، فلما لا نكون حكماء، نجحد إيماننا بالمسيح علناً ونؤمن بيسوع سرّاً، فنحافظ على بقائنا وننجو من التهميش أو الإضطهاد والموت؟ إن التحجّج باختبار بطرس لا ينفع في هذا الإطار، فبطرس لم ينكر المسيح الميت والقائم من بين الأموت، وحين أنكر المسيح، لم يكن قد اختبر حقيقة القيامة بعد. لذلك نجد الأناجيل الإزائية تشّدد على السرّ المسيحانيّ دوماً في كل ما يتعلّق بالأحداث السابقة للقيامة: فإثر كلّ معجزة أو حدث شفاء أو طرد أرواح، نرى يسوع يأمر الشخص المعنى بالصمت، فلا يخبر أحد ما تمّ معه. لماذا هذا التستّر؟ لأن يسوع لم يكن يريد أن يكون أيمان التلاميذ مبنيّاً على الخوارق والمعجزات، فيسوع ليس رجل المدهشات وصانع الخوارق، وحقيقته تتخطى بعد المعجزات والأعاجيب، فهو ابن الله، وهو سيدّ الكون والمخلّص الأوحد. هذه الحقيقة لا بدّ أن تنتظر ساعة الصليب والقيامة لتتجلّي بملئها. لذلك كان الرّب يأمر الجميع دوماً بعدم البوح بما جرى معهم، فلا بدّ من الإعتراف بيسوع المتألّم على الصليب والقائم من بين الأموات. يأتي نكران بطرس ليسوع في سياق مسيرة التتلمذ البطرسيّة، فهو التلميذ السائر خلف الرّب، يتعرّف اليه، يسير خلفه، يكتشف سرّه كلّ يوم أكثر. أن فعل الخيانة الذي اختبره رئيس جماعة الرّسل كان سابقاً لحدث القيامة، لذلك عاد يسوع فسأله مرّات ثلاثة بعد القيامة: « أتحبّني »، بدل الإنكارات الثلاثة التي أعلنها بطرس قبل القيامة. لذلك لا يمكننا أن نستعمل اختبار بطرس اليوم كيما نبرّر إمكانيّة إنكارنا للمسيح اليوم وقد عرفناه قائما من بين الأموات، وأمنّا به ربّاً وسيّداً منتصراَ على الخطيئة والموت. فبطرس الّذي عرف المسيح القائم انطلق الى البشارة حتى بذل الدم والتشبّه بالمسيح معلّمه ومخلّصه حتى الصليب، تشبّهاً بسيّده واقتداءً به. الحياة المسيحيّة هي دعوة الى البطولة، وهي اختيار دائم ونهائي للمسيح، «فلا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة . ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التى فى المسيح يسوع ربنا » (روم ٣٨:٨-٣٩). المسيحيّة ليست انتماءً عقائديّاً أو التزاماً عنصريّاً، بل هي حقيقةٌ حياتيّةٌ تجد أسسها في المعموديّة: « فنحن الّذين اعتمدنا جميعاً في يسوع المسيح، إنّما اعتمدنا في موته، ودُّفنّا معه في موته في بالمعموديّة لنحيا في حياةٍ جديدة » (روم ٦، ٣- ٤). إذا فالمسيحيّ هو كائن ميت عن هذا العالم، يحيا منطق العالم الآتي منذ الآن، وإن كان ميتاً، فلماذا يخاف الموت؟ نعم، علينا أن نكون ودعاء كالحمام، نُعلِن عبر حياتنا منطق السلام والوداعة وقبول الآخر المختلف، وعلينا أن نكون حكماء كالحيّات، والحكيم هو من يميّز بين الجوهريّ والهامشيّ، بين الحياة الحقّة والحياة العابرة، ليشهد للحقيقة الواحدة، حقيقة المسيح ربّ الحياة والمخلّص الأوحد. الحكمة لا تكمن في الهرب من الموت، بل في قبول الحياة الأبديّة. لقد قامت الكنيسة على ذخائر الشهداء، وارتوت جذورها بدماء أبطال أحبّوا المسيح حتّى الموت، فاثمرت دمائهم بشرى خلاص. كلّنا نخاف الموت، كلّنا نخشى الألم، كلّنا نسعى للبقاء، وإخوتنا شهداء الكنيسة الأولى أحبّوا حياتهم أيضاً، فبطرس لم يكن هدفه الصليب، وبولس لم يكن مبتغاه السيف، واغناطيوس لم يكن يرغب بمخالب الأسود وأنيابها، وتقلا وبربارة وسيسيليا لم تكنّ هاويات ألم، كلّهم أحبّوا الحياة، ولكنّهم اختاروا النصيب الأفضل، أحبّوا الحياة، فاختاروها أبديّة. « لا نخافنّ من يستطيع قتل الجسد ولا يقدر أن يقتل النفس » (مت ١٠، ٢٨)، « فحياتنا هي المسيح، والموت ربح لنا » (في ١، ٢١)، « فلا نهاب خصومنا، ففي ذلِك دَلالةٌ لَهُم على الهَلاك، وَدلالَةٌ لَنا على خَلاصِنا. وهذه نعمة من الله علينا، لأَنَّه أُنعِمَ علَينا، بِالنَّظَرِ إِلى المسيح، أَن نتأَلَّم مِن أَجلِه، لا أَن نؤمِن بِه فحَسبُ » (في ١، ٢٨- ٢٩). فلنعلن حبّنا للمسيح مبدأ الحياة وغايتها، وأن كان الثمن أن نضخي من عداد الآتين من الضيق الشديد، غسلنا أثواب عمادنا نقيّة مبيّضة بدم الحمل (رؤ ٧، ١٤) لئلا نسمع صوت سيّد الرؤيا يقول لنا « عتبي عليك أنّك نسيت حبّك الأوّل » (رؤ ٢، ٤).
لنفهم قول يسوع هذا، لا بدّ من أن نفهم طبيعة العلاقة التي ترتبط المسيح الكلمة بالله الآب، وبالتالي لا بدّ من الحديث عن حقيقة الثالوث الأقدس بالقدر الّذي يُتاح لفهمنا البشرّي إدراكه. سوف نتكلّم عن الآب والإين فقط هنا لئلا نستطيل في الكلام، لا سيّما وأن السؤال يتعلّق بعلاقة المسيح الإبن بالله الآب: – إن علاقة المسيح الكلمة بالله بالآب هي علاقة وحدة الطبيعة، أي أن الكلمة- الإبن والله الآب يشتركان في الطبيعة الإلهيّة الواحدة. هما يختلفان من ناحية الأقانيم، أي الأشخاص الإلهيّة، فالآب ليس الإبن والإبن ليس الآب. والإختلاف أيضاً من ناحية الخصائص أو المميّزات، فالقول أن الإبن مساوي للآب في الجوهر لا يعني أن الآب والإبن لهما نفس “الوظائف أو المميّزات الثالوثيّة”: – الآب هو المصدر الأزلي، وهو رأس الإلوهة، هو الّذي أخرج الإبن منذ الأزل (لذلك نقول عن الإبن: مولود غير مخلوق مساوي للآب في الجوهر الإلهيّ)، والآب هو الّذي بثق الرّوح منذ الأزل بواسطة الإبن كما يقول أغسطينوس. – الإبن هو صورة جوهر الآب، هو الّذي نال مسحة الرّوح القدس منذ الأزل، أي أنّه الّذي خرج من الآب كتعبير عن حبّ أزليّ أبدّي. خروج الكلمة من الأب، ومسح الكلمة بالرّوح القدس منذ الأزل قد أكتمل في التاريخ عبر التجسّد ليتمّ الفداء. عمل تمّ كتحقيق لإرادة الآب بأن يعطي الحياة من جديد لآدم العاصي. – ولكن حين نقول أن المسيح تممّ إرادة الآب، وأن كلّ ما قام به كان باسم الآب، وأن قيامة المسيح نفسه من الموت كانت بقوّة الأب، كلّ هذا لا يعني أن دور المسيح كان غائباً. فإرادة الإبن هي دوماً في وحدة حبّ وتناغم مع إرادة الآب، وما أتّمه الإبن، فقد أتمّه باسم هذا الإتّحاد الإلهيّ، وبوحدة الحبّ التي تكوّن وحدة الهدف: لقد شاء الله الآب خلاص البشر، وشاء الإبن خلاص البشر. عمل الفداء قد أتّمه المسيح بطاعته لله، آخذاً صورة آدم الجديد المطيع لله، لا العاصي ارادته. كلّ ما أتّمه الإبن، فقد أتمّه هو باتّحاد دائم ومطلق مع الله الآب، لقد كان الخلاص منهما كليهما كما لو من مصدرٍ واحدٍ، مصدر الإله الواحد. – في كلّ أعمال الطاعة التي قام بها، كان المسيح يعيد صياغة وخلق إنسانيّتنا الساقطة ليعيدها على صورة الإنسانيّة التي أخذها هو ورفعها الى مستوى طاعة البنين. المسيح الإين بطاعته لله الآب، وبرغبته في تحقيق مشيئته دوماً، كان يعيد تصوير صورة آدم ما قبل المعصية في بشريّتنا. لقد جاء ليعيدنا بطاعته للآب الى حالة الإنسان الّذي يدخل في علاقة حبّ وطاعة وصداقة مع الله مصدره وغاية وجوده. – لا يجوز أن نمزج بين الإلوهة والإنسانيّة في شخص المسيح، فهو اله كامل وأنسان كامل: الألوهة في المسيح لم تلغِ الطبيعية البشريّة، والطبيعة البشريّة لم تمتزج بالألوهة أو تذوب فيها. المسيح هو اله كامل، مع كلّ ما للطبيعة الأولى من مميّزات، وهو إنسان كامل، شاركنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة. وبالتالي، فحين نتكلّم عن المسيح الّذي يجهل “تلك الساعة”، فنحن نتكلّم عن المسيح ابن الإنسان الذي أ خلى ذاته وصار مثلنا، ليس فقط ليشترك معنا في محدوديّة المعرفة (وهو في ما يتعلّق بالمسيح موضوع جدل شائك بين اللاهوتيّين)، ولكن خاصّة ليعيد انسانيّتنا الى علاقة التواضع الفكريّ والوجوديّ: آدم وحوّاء أرادا أن يكونا “مثل الله، يعرفان الخير والشرّ”، المسيح كجواب على هذا قال: “لا أعرف”، أي أنّه أعطى للإنسان القدوة الأسمى في وضع كلّ وجودنا بين يدي الآب، لأنّنا نعلم أنّنا بين يدي إله يحبّنا ويعطينا الخلاص. قول المسيح “أمّا تلك الساعة فلا أحد يعرفها ولا حتّى ابن الإنسان” هي ليست علامة جهل، بل هي علامة ثقة بالله واستسلام بين يديه لأنّه هو مصدر خلاصنا.