عظات
٢٤‏/١١‏/٢٠١٦ زمن القيامة | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد السادس من زمن القيامة

ظهور يسوع للرسل في العليّة، هو ظهور يسوع الأخير لتلاميذه قبل صعوده الى السماء، يدرجه لوقا مباشرة بين رواية تلميذيّ عمّاوس وحدث الصعود.  نجد في هذا النّص أوجه شبه كثيرة مع رواية عمّاوس، لا سيّما عنصرين بغاية الأهميّة من الناحية اللاّهوتيّة: الطعام (الخبز المكسور في عمّاوس والسمك المشويّ في العليّة، وكلاهما رمز للإفخارستيّا في العهد الجديد)، وشرح الأحداث على ضوء الكتاب المقدّس.  الإفخارستيّا والكتاب المقدّس هما الوسيلتان الضروريّتان للمؤمن للتوصل الى معرفة حقيقة يسوع المسيح، ولمس حضوره الفعليّ في الجماعة، وفهم الأحداث التاريخيّة التي تمّت في حياة يسوع: الألم والموت والقيامة، وفهم أبعادها الخلاصيّة.

(لوقا 24 /36-48)

وفِيمَا التَّلامِيذُ يَتَكَلَّمُونَ بِهـذَا، وَقَفَ يَسُوعُ في وَسَطِهِم، وقَالَ لَهُم: "أَلسَّلامُ لَكُم!". فارْتَاعُوا، واسْتَوْلى عَلَيْهِمِ الـخَوْف، وكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُم يُشَاهِدُونَ رُوحًا. فقَالَ لَهُم يَسُوع: "مَا بَالُكُم مُضْطَرِبِين؟ وَلِمَاذَا تُخَالِجُ هـذِهِ الأَفْكَارُ قُلُوبَكُم؟ أُنْظُرُوا إِلى يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ، فَإِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي، وانْظُرُوا، فإِنَّ الرُّوحَ لا لَحْمَ لَهُ وَلا عِظَامَ كَمَا تَرَوْنَ لِي!". قالَ هـذَا وَأَرَاهُم يَدَيْهِ وَرِجْلَيْه. وَإِذْ كَانُوا بَعْدُ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ مِنَ الفَرَح، وَمُتَعَجِّبِين، قَالَ لَهُم: "هَلْ عِنْدَكُم هُنَا طَعَام؟". فَقَدَّمُوا لَهُ قِطْعَةً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيّ، وَمِنْ شَهْدِ عَسَل. فَأَخَذَهَا وَأَكَلَهَا بِمَرْأًى مِنْهُم، وقَالَ لَهُم: "هـذَا هُوَ كَلامِي الَّذي كَلَّمْتُكُم بِهِ، وَأَنا بَعْدُ مَعَكُم. كانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ كُلُّ مَا كُتِبَ عَنِّي في تَوْرَاةِ مُوسَى، وَالأَنْبِيَاءِ وَالـمَزَامِير". حِينَئِذٍ فَتَحَ أَذْهَانَهُم لِيَفْهَمُوا الكُتُب. ثُمَّ قالَ لَهُم: "هـكذَا مَكْتُوبٌ أَنَّ الـمَسِيحَ يَتَأَلَّم، وَيَقُومُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ في اليَوْمِ الثَّالِث. وبِاسْمِهِ يُكْرَزُ بِالتَّوْبَةِ لِمَغْفِرةِ الـخَطَايَا، في جَمِيعِ الأُمَم، إِبْتِدَاءً مِنْ أُورَشَلِيم. وأَنْتُم شُهُودٌ عَلى ذلِكَ.

هي عطيّة القائم من بين الأموات الأولى: السلام.  هو القائم بعد ألم وعذاب كثير قاساه من يد الإنسان، كان بامكانه أن يجلب العقاب والإنتقام، كان يمكنه أن يؤنّب التلاميذ على هربهم أو يعاتب بطرس على نكرانه، إنّما بدل هذه كلّها هو يحمل لهم السلام، سلامٌ يرذل كلّ نوع من أنواع العنف والإنتقام، يسامح، يغفر، يحبّ ويملأ قلب التلاميذ سلاماً.  لم يكن العنف يوماً حلاًّ، فالعنف لا يعكس منطق المسيح وجمال وجهه وسلام قلبه.

"فأَخَذَهُمُ الفَزَعُ والخَوفُ وظَنُّوا أَنَّهم يَرَونَ رُوحاً"

رغم السلام الّذي أعلنه الرّب، امتلأ قلب الرسل خوفاً، لانّهم ظنّوه شبحاً.  لغاية اللّحظة لم يفهم الرّسل حقيقة قيامة يسوع من بين الأموات رغم روايات الشهود، فالقيامة هو أيضاً حدث شخصيّ، يختبره المؤمن مباشرة حين يلتقي بيسوع القائم في حياته اليوميّة.

الخوف كان العقبة التي كادت تحجب يسوع عن التلاميذ، لم يخافوا منه، فهم يحبّونه، بل خافوا من أمور كثيرة أخرى: خافوا من امكانيّة كونه شبحاً، وهماً يعيد الى قلبهم سعادة مزيّفة، خافوا أن يصدّقوا لئلاّ يعودوا الى ألم الفقدان من جديد.  هي حالة تلميذ كلّ عصر وزمان، يفضّل ألاّ يصدّق خوفاً من خيبة الأمل.

إن السلام الّذي يقدّمه يسوع لا يمكنه أن يعمل في داخل التلميذ ما لم يشأ التلميذ أن يخاطر ويؤمن، فالإيمان في مطلق الأحوال مجازفة إذا ما قسناها على ضوء العقل.  الإيمان لا يقدّم أية ضمانة ملموسة أو حسيّة، وصعوبة الإيمان هي في أن أصدّق ما هو مخالف لقواعد العقل والمنطق.  خاف التلاميذ أن يؤمنوا، فربّما هو مجرّد شبح، وهمٍ ناتج عن شوقهم له، أو بسبب الأخبار التي سمعوها.

السلام الّذي يعطيه يسوع هدفه إخراج التلميذ من هذا الخوف، ومن الرفض الّذي يلي الخوف.  كما خلّع المسيح أبواب الجحيم النحاسيّة هكذا يفعل بقلب التلميذ المغلق على الخوف واليأس.  كما دحرج الحجر عن باب القبر كذلك يدحرج حجر الخوف عن صدر التلاميذ ويدخلهم في سلام قيامته وفرحها.  هي القيامة نفسها تتجدّد في حياة التلميذ، كلّ تلميذ، أمس واليوم والى نهاية الأزمنة.  فالمسيح القائم من بين الأموات يعلن ذاته لكلّ إنسان كقائم من بين الأموات، حامل جراح الصليب، وآثار المسامير لا تزال بادية في يديه ورجليه. هو الحمل المصلوب يحمل آثار الفداء بعد قيامته، لأنّ مفاعيل الفداء لم تنتهي لحظة القيامة، بل هي تمتدّ الى كلّ زمان ومكان، وتبغي أن تطال كلّ إنسان ليعمّ سلام الفداء المسكونة بأسرها.

سلام المسيح هذا يحطّم أيضاً سلاسل الخطيئة التي تكبّلنا، فبقيامة المسيح صار لنا الخلاص، عدنا الى بنوّة الله الحقّة.  هذا التحرير يخلق أيضاً في نفوسنا الخوف، فأحياناً نخاف من ترك خطيئتنا، لأنّنا نحبّها، أو لأنّها تجتذبنا.  نخشى أن نفقد تعزية الّذة التي نجدها في خطيئتنا، نخاف أن يكون يسوع شبحاً، وهماً لا حقيقة له، فإن تركنا خطيئتنا نبقى دون سعادة أو رجاء.  هذه هي مغامرة الإيمان الثانيّة، أن أضع في الله كل سعادتي وكلّ رجائي، وأومن أنّه يقدر على ملء قلبي سعادة، ويستطيع أن يهبني سلاماً لا تقدر أية خطيئة أن تهبني إيّاه.

إن سلام المسيح القائم من بين الأموات هو سلام البنّوة الإلهيّة، هو يعطي السلام لأنّه أمير السلام، وابن الآب السماويّ.  سلام المسيح مبنيّ على هذه البنوّة الإلهيّة، هو نتيجة إدخالنا نحن أيضاً في بنوّة الله.  لقد صالحنا المسيح بالله أبينا، وعدنا له أبناء، لذلك صار لنا السلام.  هي بنوّة تُبنى على مسؤوليّة وعلى السعي الدائم للمحافظة على هذه النعمة العظيمة، لذلك خاف التلاميذ، لذلك نخاف نحن، فبنّوّتنا لا تتحقّق بمجرد ترداد كلمة: "أبانا الّذي في السماوات"، بل هي فعل جهاد مستمرّ، لنحافظ في كلّ لحظة من حياتنا، وفي كلّ من عمل نقوم به، على شرف هذه البنّوة وقيمتها.  نخاف كما خاف التلاميذ لأنّنا لا نقدر بقوّتنا وحدها على المحافظة عليها، إنّما يبطل الخوف حين نعرف ونؤمن أن نعمة الله الفاعلة حقّاً في حياتنا هي التي تقودنا الى قداسة الحياة، والى التوبة والعودة الى الآب إذا ما ابتعدنا عنه بخطيئتنا.

أُنظُروا إِلى يَدَيَّ وقَدَميَّ. أَنا هو بِنَفْسي. إِلمِسوني وانظُروا، فإِنَّ الرُّوحَ ليسَ له لَحمٌ ولا عَظْمٌ كما تَرَونَ لي

أزالة الخوف من قلوب التلاميذ تقتضي التعرّف الى المسيح، "لمس" المسيح القائم من بين الأموات والنظر اليه.  يعلن الرّب لتلاميذه أنّه ليس شبحاً، هو لا يزال في الجسد، "في اللّحم" كما يقول لوقا.  هي رؤية لاهوتيّة يشدّد عليها لوقا دفاعاً عن حقيقة القيامة ضّد نظرة فلسفيّة يونانيّة تعطي الرّوح وحده إمكانيّة البقاء في العالم الآخر.  إن نظرة اليونان السلبيّة تجاه الجسد جعلت الكثير من المسيحيّين من أصل يونانيّ يقولون أن المسيح لم يقم بالجسد، فالجسد ماديّ، والمادّة شرّ، لأنّها سجن النفس وحالة سقوط الكائن من العالم الروحيّ المثاليّ.  هذه النظرة الى القيامة قد أنتجت الكثير من البدع في زمن الكنيسة الأولى، وهذا النّص هذا يدحض نظريّتها هذه.  فالمسيح قد قام بالجسد، ولم يحقّق محرّد قيامة روحيّة، أو أسوأ من ذلك أيضاً، لم يقم بطريقة روحيّة في ذاكرة التلاميذ فقط.  لقد قام المسيح حقّاً بالجسد.

إنّما النقيض الآخر الذّي يمكننا أن نسقط فيه إذا ما فهمنا هذه الحقيقة بطريقة خاطئة هي أن المسيح قد قام مجدّداً كيسوع التاريخيّ، دون أيّ تغيّر من ناحية حقيقة وجوده في التاريخ.  قيامة يسوع لم تكن مثل قيامة لعازر أو طابيثا أو إبن الأرملة الّذين أقامهم المسيح في العهد الجديد، هؤلاء كلّهم قد قاموا بنعمة من الرّب ليستمرّوا في حياة الجسد ويعودوا ليموتوا من جديد، أمّا المسيح فقد قام من بين الأموات الى الأبد، وحضوره الآن يختلف عن حضوره السابق، هو في الجسد السماويّ، الجسد الممجد، هو في الجسد الرّوحانيّ الّي يتكلّم عنه بولس:

هذِهِ هِيَ الحالُ في قيامَةِ الأمواتِ: يُدفَنُ الجِسمُ مائِتًا ويَقومُ خالِدًا.  يُدفَنُ بِلا كرامَةٍ ويَقومُ بِمَجدٍ. يُدفَنُ بِضُعفٍ ويَقومُ بِقُوَّةٍ.  يُدفَنُ جِسمًا بَشَرِيًّا ويَقومُ جِسمًا روحانِيًّا. وإذا كانَ هُناكَ جِسمٌ بَشَرِيٌّ، فهُناكَ أيضًا جِسمٌ روحانِيٌّ. (1 قور 15، 42- 44). هي حالة افتتحها المسيح بقيامته ودعانا لنشارك فيها كلّنا.  قيامتنا سوف تكون روحانيّة، ليس بمعنى أن جسدنا سوف يعود الى العدم، بل نقوم بجسد روحانيّ، جسد ممجّد، صورته الأسمى جسد المسيح القائم من بين الأموات "باللحم" (لو 24، 29).

"غَيرَ أَنَّهم لم يُصَدِّقوا مِنَ الفَرَحِ وظَلُّوا يَتَعَجَّبون"

لقد انتقل التلاميذ من حالة الخوف والشّك الى حالة الفرح.  هو انتقال نوعيّ إنّما انتقال يبقى دون قيمة، لأنّ نتيجة الفرح، كما الخوف والشّك، هي عدم التصديق.  إن الحياة الرّوحية والّدعوة المسيحيّة تقتضي ميزة بغاية الأهميّة: "الثبات".  إن المؤمن غير الثابت هو في خطر دائم من فقدان عطيّة الإيمان، وإن الشّك والخوف يمنعان الإنسان من الدخول في علاقة الإيمان والتّتلمذ، فحالة الفرح العابر والإيمان السطحي لا يعطيان للإيمان ركيزة للبقاء وللدّيمومة.  فكم من المرّات نختبر في حياتنا الرّوحيّة فرحة عارمة، وشعوراً قويّاً بحضور الرّب في حياتنا، فرح لا يلبث أن يختفي ويضمحل أمام أوّل تجربة.  هذا الإيمان هو إيمان عابر، الإيمان ليس فقط الفرح بمعاينة الرّب القائم، إنّما هو أيضاً الصبر والإحتمال والرّجاء، الإيمان هو أيضاً السير مع يسوع على طريق الجلجلة، هو مشاركة المسيح صليبه، هو الثبات في الإيمان والثقة حين ندخل في ظلمة الإيمان، حين نظنّ انفسنا وحدنا، والله بعيد عنّا، في المصاعب والفواجع، في المرض والموت، في الشّك والحاجة.  هنا يظهر معنى إيماننا، حين نؤمن أن الرّب حاضر، يساعد، يعلّم، يقود وينميّ التلميذ ليبلغ حالة الإنسان الناضج في الإيمان.

"هل لديكم شيء يؤكل؟"

لم يصل التلاميذ بعد الى حالة الإيمان التي يقتضيها تكرّسهم لإتّباع المسيح، لذلك كان على يسوع أن يكمل عمله.  لم يكن المسيح بحاجة للأكل بعد قيامته من بين الأموات، إنّما شاء أن يؤكّد لهم حقيقته الرّوحيّة الملموسة، حقيقة قيامته بجسد ممجّد، حقيقة استمراريّته الشخصيّة معهم بعد القيامة.  هو المسيح نفسه لا يزال يقودهم، ولا يزال حاضراً معهم.  هي الدعوة ذاتها لا يزال يطلبها منهم: السمك الّذي أشبع به الخمسة آلاف شخص، هو نفسه يشبع به نَهَم روحهم للتعرّف اليه.  هو البعد الإفخارستيّ للتعرف الى المسيح القائم من بين الأموات.  في الإفخارستيّا، ورمزها السمكة هنا، يكمل يسوع عمله عبر التاريخ ويحقّق حضوره في الكنيسة وفي حياة التلاميذ.  الإفخارستيّا هي ضمانة ملموسة يعطيها الرّب لكنيسته لتعلم أنّه حاضر حقّاً في حياتها، هو يغذّيها لتؤمن وتلمس، لتعاين وتنطلق الى إعلان حقيقة الرّب القائم من بين الأموات، الرّب الحاضر في كنيسته، الرّب المرافق عبر التاريخ يكمل عمل فدائه ليطال الأجيال كلّها.

ذلك كلامي الَّذي قُلتُه لكم إِذ كُنتُ مَعَكم وهو أَنَّه يَجِبُ أَن يَتِمَّ كُلُّ ما كُتِبَ في شأني، في شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والمَزامير

والى جانب الكلمة الإفخارستية تأتي الكلمة الموحاة لتعمل عملها.  لقد عاد الرّب الى الكتاب المقدّس ليشرح لتلاميذه سرّ قيامته وغاية دعوتهم:  لقد عاد الى "التوراة والأنبياء والمزامير"، وهي الأقسام الثلاثة التي تكّون العهد القديم: الكتب التاريخيّة، الكتب النبويّة والكتب الأدبيّة.  هي وحدة الكتاب المقدّس، وحدة العهد القديم الّذي سبق فأعلن أموراً ثلاثة:

- الآم المسيح الخلاصيّة وموته من أجل خرافه.

- قيامة المسيح وانتصاره على الموت.

- خلاص الشعوب كلّها من خلال كلمة البشارة التي سوف يحملها التلاميذ.

وفتح أذهانهم لمعرفة الكتب:

هي نعمة الرّب تأتي دوماً لتعين ضعفنا ومحدوديّتنا، الرّب الّذي ألهم كتاّب التوراة والإنجيل هو نفسه يعين القاريء بهدي الرّوح ليفهم محتوى الكتاب.  إن فهمنا للكتاب المقدّس يجب أن يكون دوماً على هدي الرّوح.  لا يمكن أن تكون قرائتنا للكتاب المقدّس صحيحة إن كانت قراءة نسبية، نجعل الكتاب فيها شاهداً لآرائي الخاصّة أو وسيلة لتبرير أخطائي.  الكتاب المقدّس هو دستور حياتي، أقرأه على ضوء تعليم الرّب وشرح الكنيسة والآباء القديّسين.  كم من المرّات نستعمل الكتاب لمآربنا الخاصّة؟ لنبرّر خطأنا، أو لنقنع آخر بأمر نعرف حق المعرفة أنّه أمر خاطيء؟  مقياس صحة قرائتي للكتاب المقدّس هي قيم الرّب وتعليم الكنيسة، وحين يخالف تفسيري للكتاب واحد منهما، فتفسيري خاطيء لا محالة.  هو فعل اتّضاع وثقة، وعمل طاعة للرّب وللكنيسة، أعلن فيها عجزي عن الفهم بمفردي، وأطلب المعونة الإلهيّة: معونة الرّوح القدس وتعليم أميّ الكنيسة.

وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم. 

إن الرّب القائم من بين الأموات يشدّد على استمرارية تعليمه والتبشير الّذي قام به قبل الآلام والموت، في حياة الكنيسة المستقبليّة.  إن القيامة الّتي حقّقها يجب أن تستمر من خلال عمل الكنيسة الرسوليّ.  في هذا النّص يربط لوقا قيامة يسوع بما قبل وبما سوف يأتي:

- بما هو سابق بمعنى أن كلمات يسوع هذه هي تتويج لبشارته بأسرها، لا بل لتجسّده.  فالمكان الآخر الّذي يذكر فيه لوقا بشارة الخلاص الى كلّ الأمم هي في إطار أناجيل الطفولة حيث يعلن سمعان الشيخ: "عَينايَ رأتا الخَلاص الّذي هيَّأْتَهُ لِلشُعوبِ كُلِّها  نورًا لِهدايةِ الأُممِ ومَجدًا لشَعبِكَ إِسرائيلَ " (2، 30-32).  وبالتالي فإن قيامة يسوع من بين الأموات تأتي إستمراريّة لهذا الهدف الأساسيّ الّذي شاءه الرّب برحمته.

- بما سوف يأتي: هذا الهدف صار ممكناً بقيامة يسوع، لأنّ حدث القيامة يبقى محور التبشير الرّسولي، "فلو لم يقم المسيح، لكان إيماننا باطلاً (1 قور 15، 17).  هذا الخلاص الشامل، وإن كان قد صار ممكناً بقيامة الرّب، إلاّ أنّه لم يكتمل، ولن يكتمل دون عمل التلاميذ الرسولي.  في هذا الإطار يمهّد لوقا للقسم الثاني من عمله، اي لكتاب أعمال الرسل الّذي يحتوي على رسالة الكنيسة الحاملة بشارة المسيح.  لهذا ينطلق الرسل في كتاب الأعمال من أورشليم، لأنّ إنجيل لوقا يبدأ في أورشليم وينتهي فيها، لا في الجليل.  سوف ينطلق التلاميذ من مكان موت المسيح وقيامته ليعلنوا الخلاص لجميع الأمم بدءاً من المكان الّذي قُتل فيه يسوع.  إن البشارة لا بدّ أن تطال من رفض المسيح، فلا تهميش ولا انتقام ولا رذل للإنسان مهما كان ماضيه حالكاً.

"وتكونون لي شهوداً"

إن التلميذ مدعوّ للشهادة الدائمة لموت يسوع وقيامته في حياته اليوميّة.  الشاهد هو الشهيد أيضاً في اللّغة اليونانيّة كما في العربيّة، الشهادة لحقيقة المسيح تبلغ قمّتها في بذل الذات في سبيل الإنجيل.  البشارة الحقيقيّة هي بشارة الشهادة، هي ليست فقط التنقّل من مكان الى آخر وإعلان الإنجيل، كما يفعل المرسلون باذلين دمهم في سبيل يسوع.  إنّما هي أيضاً الشهادة الصامتة في الحياة اليوميّة لقيم المسيح ولآداب الإنجيل: كم من آباء وأمّهات ينشرون الإنجيل في عائلاتهم ويقدّمون حقيقة يسوع لأبنائهم؟ كم من موظّفين يعملون على هدي الإنجيل، رافضين منطق المادّية والوصوليّة والرّشوة، يؤمنون بالرّب حاضر في عملهم، وحاضر من خلالهم.  كم من شبّان وشابّات يحبّون المسيح ويعلنوه مخلّصاً من خلال التزامهم برعيّتهم؟ كم من متطوّعين في منظّمات خيريّة، يسعون الى الخير فقط من أجل الخير، دون بدل أتعاب، عالمين أن الرّب هو الّذي يبادلهم أتعابهم بحبّه وصداقته.  هي البشارة والشهادة، بهذا نكون مبشّرين للإخوة في أورشليم، أي في المكان الأقرب الينا. فقبل الإنتقال الى مشارق الأرض ومغاربها، لنبدأ بالتبشير في مجتمعنا: لنسمح للبشارة بالوصول إلينا أوّلاً فنحيا بحسب إيماننا ولا نبقي يسوع المسيح في إطار المعرفة العقليّة أو في مجال الإيمان الميت غير المنتج خلاصاً.  لنبشّر عائلاتنا وأقاربنا وأولادنا، لنوصل الإنجيل الى الأشخاص الّذين نعمل معهم، أو نلتقيهم صدفة أو من يحتاجون الى مساعدتنا، لننطلق الى الوحيد والمهمّش، لنلمس من رذله المجتمع بسبب برص الخطيئة، لنقترب من الجائع الى كلمة رحمة.  هذه هي البشارة، هذه هي الشهادة، وهي في أغلب الأحيان صامته، إنّما تعطي ثماراً كثيرة.