عظات
٦‏/٩‏/٢٠١٦ زمن الميلاد المجيد | الأب بيار نجم ر.م.م

أحد بشارة مريم العذراء

يقدّم لنا الإنجيليّ لوقا حدثاً محوريًا يندرج في مخطّط الربّ الخلاصيّ. ولأنّه حدثٌ أساسيّ لا يدرجه لوقا في إطار سرديّ تاريخيّ بحت، بل يقدّمه لنا عبر إطار أدبيّ مميّز، نجدهُ في العهد القديم في أحداث  الوعد بولادة طفل، ودعوة أشخاص مهمّين، وفي حدث إرسالهم الى الرسالة ليعلنوا إرادة الرّب لشعبه. 

لذلك لا بدّ من مقارنة هذا النّص مع بعض نصوص بعض الأحداث الهامّة في العهد القديم لندركَ مغزى نصّ البشارة، وما يريد لوقا إيصاله للجماعة الكنسيّة التي تقرأه. 

(لو 1 /26-38)

في الشَهْرِ السَادِس، أُرْسِلَ الـمَلاكُ جِبْرَائِيلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلى مَدِينَةٍ في الـجَلِيلِ اسْمُهَا النَاصِرَة، إِلى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاودَ اسْمُهُ يُوسُف، واسْمُ العَذْرَاءِ مَرْيَم. ولَمَّا دَخَلَ الـمَلاكُ إِلَيْهَا قَال: "أَلسَلامُ عَلَيْكِ، يَا مَمْلُوءَ ةً نِعْمَة، الرَبُّ مَعَكِ  !". فاضْطَربَتْ مَرْيَمُ لِكَلامِهِ، وأَخَذَتْ تُفَكِّرُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذا السَلام  ! فقَالَ لَهَا الـمَلاك: "لا تَخَافِي، يَا مَرْيَم، لأَنِّكِ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ الله. وهَـا أَنْتِ تَحْمِلينَ، وتَلِدِينَ ابْنًا، وتُسَمِّينَهُ يَسُوع. وهُوَ يَكُونُ عَظِيمًا، وابْنَ العَليِّ يُدْعَى، ويُعْطِيهِ الـرَبُّ الإِلَهُ  عَرْشَ دَاوُدَ أَبِيه، فَيَمْلِكُ عَلى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلـى الأَبَد، ولا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَة  !".
فَقالَتْ مَرْيَمُ لِلمَلاك: "كَيْفَ يَكُونُ هذَا، وأَنَا لا أَعْرِفُ رَجُلاً  ؟". فأَجَابَ الـمَلاكُ وقالَ لَهَا: "أَلرُوحُ القُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وقُدْرَةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، ولذَلِكَ فالقُدُّوسُ الـمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ الله  ! وهَا إِنَّ إِلِيصَابَاتَ نَسِيبَتَكِ، قَدْ حَمَلَتْ هيَ أَيْضًا بابْنٍ في شَيْخُوخَتِها. وهَذَا هُوَ الشَهْرُ السَادِسُ لِتِلْكَ الَّتي تُدْعَى عَاقِرًا، لأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اللهِ أَمْرٌ مُسْتَحِيل  !". فقَالَتْ مَرْيَم: "هَا أَنا أَمَةُ الرَبّ، فَلْيَكُنْ لِي بِحَسَبِ قَوْلِكَ  !". وانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِها الـمَلاك.

من ناحية شكل النّص يدمج لوقا في إطار واحد نوعين أدبيّين: نوع إعلان ولادة طفل، ونصّ الدعوة والإرسال: 

-في ما يتعلّق بوعد بولادة طفل نجد دوماً في الكتاب المقدّس الشكل التالي: 

* ظهور ألهيّ أو كائن سماويّ مرسَل ليعلن ارادة الله. 

* الإعلان عن ولادة ولد. 

* إعلان اسم الولد الموعود. 

* إعلان مخطّط الله في حياة الطفل.

 

هذا الشكل نجده مثلاً في إعلان الله لهاجر بأنّ سوف تلد إسماعيل في تك ١٦، ٧-١٢ (الملاك على عين الماء (١٦، ٧)، الوعد باسماعيل (١٦، ١١)، إعطائه الإسم (١٦، ١١) ومستقبل الطفل (١٦، ١٢)). وفي نص تك ١٧، ١٥- ١٩ يعلن الله لإبراهيم عن ولادة إسحق حيث نجد العناصر نفسها، عناصر سوف نجدها في العهد الجديد إيضاً في بشارة الملاك لزكريّا، حيث الملاك يظهر، ويعطي الوعد، ويطلق الإسم ويعلن مشروعه الإلهيّ في حياة يوحنّا. 

وفي نصّنا هذا نجد نفس العناصر: 

- الملاك مُرسَل من الرّب:أُرْسِلَ الـمَلاكُ جِبْرَائِيلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ.. 

- الملاك يعطي الوعد بولادة الطفل: هَـا أَنْتِ تَحْمِلينَ، وتَلِدِينَ ابْنًا. 

- اسم الطفل الإلهيّ يُعلن: وتُسَمِّينَهُ يَسُوع. 

- الإعلان عن مشروع الرّب في حياة الطفل: هُوَ يَكُونُ عَظِيمًا، وابْنَ العَليِّ يُدْعَى، ويُعْطِيهِ الـرَبُّ الإِلَهُ  عَرْشَ دَاوُدَ أَبِيه، فَيَمْلِكُ عَلى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلـى الأَبَد، ولا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَة.

 

إن ما يميّز نصّ البشارة ويشير الى أبعاده اللاّهوتيّة هو أنّ تصميم قسمه الثاني يحتوي على عناصر النصوص التي تتعلّق بالدعوة والإرسال، نصوص نجدها في العهد القديم، كما في نصّ دعوة موسى (خر ٣: ١٠ - ١٢) ونصّ دعوة إرميا النبيّ (إر ١: ٤-١٠). 

هذه النصوص تحتوي بدورها على أربعة عناصر: 

- الله يتدخّل ويعلن مشروعه بدعوته شخصاً الى اتّباعه. 

- المدعو يتردّد ويعارض مشروع الله خوفاً من عدم أهليّته. 

- الله يكمل رغم معارضة المدعو ويعطي الضمانات. 

- الله يعطي علامةً ليؤكّد أنّه أقوى من المستحيل. 

في نصً البشارة نجد العناصر نفسها: 

- الله يتدخّل بواسطة جبرائيل. 

- مريم تتردّد وتتساءل عن كيفيّة إمكان قبولها طفل في حشاها وهي لم تعرف رجلاً. 

- جبرائيل يعطي الضمانة الإلهيّة: هي قوّة الله تظلّل العذراء، وتحبل بقوّة الرّوح القدس. 

- الله يعطي مريم علامة، ضمانة لقدرته على ما يظنّه الإنسان مستحيلاً: اليصابات العاقر ها هي حامل. 

إن دمج عنصري نصوص الوعد بالولد ونصوص الدعوة هو أمر أراده لوقا الإنجيليّ لإعلان حقيقة أن ما يحدث عبر تاريخيّة حدث البشارة يتخطّى الحدث الفرديّ المتعلّق بشخص العذراء مريم ليطال، عبر مريم، البشريّة بأسرها. فبمريم أراد الرّب إكمال مخطّطه الخلاصيّ الّدي بدأه بالوعد الّذي أعطاه لآدم وحوّاء بأن من نسل المرأة يولد من سوف يدوس رأس الحيّة، وأكمله بدعوة ابراهيم وبالعهد الّذي أقامه معه، وبدأ يتحقّق بولادة إسحق، ودعوة الإنبياء وإرسالهم، ليتمّ بلمئه عبر تجسّد المسيح، ابن الله، من مريم البتول، "ليرث عرش يعقوب أبيه، ولا يكون لملكه انقضاء". هكذا يصبح حدث الخروج تجديداً وتأويناً للعهد الّذي قطعه الله مع شعبه عبر دعوة براهيم لإتّباعه، لكيما إذا ما وضع ذاته في خدمة مشروع الرّب (ها أنا أمة للرّب، طواعيّة في الخدمة والإتّباع تعلنها مريم بوضوح، ويعلنها ابراهيم بصمت عبر ترك أرضه وبيت ابيه وانطلاقه خلف الرّب الّذي يدعوه). بمريم بدأ يتحقّق بملئه وعد الرّب لإبراهيم بأنه يصبح أباً لشعوب كثيرة، وبنسله تتبارك الأمم كلّها، من خلال المسيح، ابن ابراهيم، المالك على عرش يعقوب-اسرائيل، الى الأبد دون انقضاء. بمريم لم يعد الوعد لإبراهيم محدوداً بزمان أو مكان، بل هو العهد يطال "جميع الأجيال" التي سوف تطوّب مريم. 

وهكذا، بربط لوقا بطريقة غير مباشرة، وبواسطة استعماله عناصر نصوص الدعوة، يريد الإنجيليّ أن يقول أن حدث البشارة هو حدث تحرير لإنسانيّتنا. مريم التي تعلن ذاتها "أمة الرّب"، أي عبدته وخادمته، تقول أن كلّ ما يحدث معها هو بنعمة من الرّب وبمبادرة مجّانيّة منه. هذه المبادرة تهدف الى نقل إنسانيّتنا الى واقع جديد، واقع الإنسان المُحَرَّر. ما تمّ مع مريم هو إعادة صياغة وتأويين لما تمّ مع شعب الله عبر دعوة موسى: هو حدث الخروج يتجدّد ويتأوّن في حياة شعب الله عبر الكنيسة. 

بهذا نفهم أن حدث البشارة هو ليس نصّاً مريميّا فحسب، بل هو نصّ مسيحانيّ، يعلن ولادة المسيح المنتَظَر وهويّته كإبن ليعقوب وكملك على عرش إسرائيل الى الأبد. 

عبر مريم تحقّقت إرادة الله بمجىء المسيح المخلّص، وصار قبول مريم الدخول في مخطّط الرّب الخلاصيّ قبول أنسانيّتنا بأسرها. هي كانت العنصر البشريّ الناطق باسمنا جميعاً، لنقبل إرادة الله وندخل في تاريخه عبر قبولنا دخوله تاريخنا في بوابة التجسدّ بواسطة طاعة مريم. 

هذا من حيث شكل النّص الأدبيّ، أما من حيث المضمون اللاّهوتيّ فيورد لوقا الإنجيلّي عناصر لاهوتيّة كثيرة تربط النّص بتاريخ الخلاص من ناحية (العهد القديم والنبوءات)، وبالمستقبل الكنسيّ من ناحية أخرى (أي كيف على المسيحيّ أن يقبل هذا الحدث الخلاصيّ في حياته ويجعله موضع التطبيق في حياة التتلمذ الّتي يدعوه الرّب اليها عبر الإلتزام بصداقته). 

 

في الشهر السادس: هو الشهر السادس على حمل اليصابات، ويشدّد لوقا على ترابط الحدثين في تاريخ الخلاص، فيوحنا السابق بدأ منذ الحشا يمهّد للإعلان عن مسيحانيّة الرّب. كما أن ذكر الشهر السادس يشير الى تاريخيّة الحدث، فلوقا يصرّ دوماً على ذكر تواريخ وأسماء في إنجيله وفي أعمال الرسل ليشير الى التقاء التاريخين: التاريخ الإلهيّ المقدّس والتاريخ الإنسانيّ الخاطيء، لقاء تمّ في حدث البشارة عبر تجسدّ الإله في حشا مريم، به دخل الله تاريخنا المتألّم ليقدّسه ويخلّصه. 

الى جانب الناحية التاريخيّة، لا بدّ من الإشارة الى رمزية الرقم ستة الذي يستعمله لوقا، والذي يجعلنا نعود الى اليوم السادس، يوم اخراج الانسان من العدم الى الوجود. والدليل الثاني الذي يجعلنا نربط نص البشارة بنص الخلق هو قول الملاك "روح الحب يظلّلك" والذي يذكّرنا بروح السيد المرفرف على المياه في بداية الخلق. 

 

أُرسل الملاك جبرائيل: إن استعمال الفعل بصيغة المجهول هو استعمال هادفٌ لاهوتيّاً، فالمجهول هذا نسمّيه في أدب الكتاب المقدّس "المجهول الإلهّي"، أي أن الله هو فاعل الفعل الحقيقيّ، وأن جبرائيل ما هو إلاّ مُرسَل، أرسله الله صاحب المشروع، يحمل الى مريم رسالة، أن تتبعه وتضحي شريكة في عمل الله الخلاصيّ. 

والملاك هو هذا الكائن الروحانيّ الّذي يرسله الله دوماً ليحمل رسالة. هو لا يعمل من عنده، بل هو رسول الآب، وبالتالي فحضوره هو ضمانة لمرافقة الله تاريخنا المتألّم، هو يقودنا ويرعانا ويدّبرنا. 

ويحمل أسم الملاك أهمّية كبرى في هذا النّص، فالإسم في الكتاب المقدس يشير الى هويّة حامل هذا الإسم. جبرائيل يعني "قوّة الله"، هي القوّة نفسها التى وعد الله بها مريم كضمنانة لتحقّق الوعد: "قوّة العلي تظلّلك"، هي القوّة عينها التى فعلت فعلها. 

 

"وقوّة العليّ تظلّلك" عبارة jعيدنا الى قوّة الله المرافق للشعب في خروجه من أرض العبوديّة المظلّل خباء المحضر وتابوت العهد بعمودي النار والغمام.   هي قصة وعد الله وكلمته التي تحوّلت جماعة.   ومن ناحية الإنسان العلائقيّ، يتكوّن هنا الكائن في علاقة مغلقة، في شعب واحد وشريعة واحدة، حيث لا مجال للإختلاف ولا وجود للمختلف.   تكوّن الشعب صار ايضاً بالكلمة، بالكلمة الإلهيّة، وفي العبريّة "Dabar " تعني كلمة وتعني أيضاً وصيّة، والشعب الخارج من أرض العبوديّة تكوّن كشعب على قمة سيناء، حين نال موسى الكلمات العشر، الوصايا العشر.   هذا الحدث التأسيسيّ للجماعة المؤمنة بالله بقي كلمة تنتظر تجسّدها في ملء الزمن، بمريم المؤمنة القابلة الكلمة- الوصيّة، المسيح نفسه، كلمة الله ووصيّته، وصيّة المحبّة المتجسّدة. 

إفرحي أيّتها المملوءة نعمةً: حدث البشارة هو حدث نعمة وفرح، يبدأ مع مريم ليكما يتحقّق بملئه بالمسيح المولود منها ويطال البشريّة بأسرها. 

"إفرحي" (Chairé ) يقول لها الملاك، وهي كلمة تتخطّي مجرد السلام والتحيّة (السلام لك) وتعني افرحي، ابتهجي. والصفة التي يعطيها الملاك لمريم مباشرة بعد إعلان الفرح هذا "التي مُلئت نعمةٍ"  (Kecharitoméné ) هي مشتقّة أيضاً من جدر (Chairé ) هي أيضاً بصيغة المجهول "الإلهيّ"، أي أن الله هو الّذي ملأها نعمةً. وخطاب الملاك ينتهي بعبارة أخرى هي أيضاً مشتقّة من (Chairé ): "وجدتِ حظوةً" (eures  charin )، أي "لقيت نعمةً" "بك سفرَّ الله". تشديد لوقا هذا على الفرح والنعمة هي رسالة لاهوتيّة مسيحانيّة لا مريمية فحسب، تسيّر النّص بأسره، وتختصر حدث البشارة. 

هكذا يصبح حدث البشارة إنجيلاً مصغّراً، يحتوي على قصة الله مع شعبه، ويعلن بشرى فرح ونعمة. هذا الحدث لا ينحصر بشخص مريم وينتهي في قولها "فليكن لي بحسب قولك"، بل هو ينطلق من كون مريم مملوءة نعمة ليعطي النعمة للبشريّة بأسرها. هذه النعمة هي ليست ميزة أخلاقيّة تتعلّق بمريم، بل هي النعمة الأزليّة غير المخلوقة، كلمة الله الأزلي حلّت في حشا مريم لتعطي الخلاص للأمم بأسرها. 

مريم الخليقة المجدّدة المملوءة نعمة، بدل الخليقة الاولى التي جرحتها خطيئة آدم وحواء الأولى، صارت جنة عدن الجديدة التي نبتت في وسطها شجرة الحياة الجديدة، المسيح المخلص. وبالتالي فحدث البشارة هو ليس حدث مريمي او ماريولوجي، انما هو حدث مسيحاني كريستولوجي: الهدف من خلال البشارة كان تحضير الارض الجديدة، الأرض العاقلة والحرة التي تقبل بايمانها وطاعتها كلمة الرّب توجه اليها. 

وكما كان آدم باكورة تراب عدن، تراب اخذ منه الرب وجبل، كذلك تصبح مريم في هذا النص عدن الطاهرة منها يخرج آدم الجديد. وكما ظلت عدن طاهرة بعد سقوط آدم وحواء، حفظت وجعل على بابها كروب النار (خر3، 24 ) كذلك بقيت مريم مصانة بعد تجسّد الابن فيها.

 

فاضْطَربَتْ مَرْيَمُ لِكَلامِهِ، وأَخَذَتْ تُفَكِّرُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذا السَلام : إضطراب مريم وتفكيرها في معنى هذا السلام هو ضمانة حرّيتها الإنسانيّة، فمريم لم تكن مجرّد أداة ميتة وقعت صدفةً في درب المخطّط الإلهيّ، بل هي كيان عاقل مستنير، تسعى الى معرفة الله وتمييز إرادته بكل قواها، لا الرّوحيّة فحسب، بل العقليّة إيضاً. 

مريم هي ضمانة قيمة فكرنا، فالإنسان مخلوق على صورة الله، يميّزه عقله عن سائر المخلوقات، وبحريّته يقدر أن يقبل مخطّط الله أو أن يرفضه. مريم صارت في حدث البشارة معلمّة لنا في الإتّضاع الفكريّ، فحرّيتها لم تجعلها تسلك درب أمّها حوّاء، بل بحرّيتها، وبتمييزها، وباستخدامها لعقلها ولفكرها خضعت لإرادة الله. لقد جعلت مريم ذاتها "أمة لله" حين علمت أن ما يحدث معها هو مستحيل، ولكنّها في علاقة مع إله المستحيل. لقد فكّرت وميّزت وعلمت أن ما يتمّ معها يتخطّى قوى عقلها وإدراكها، فخضعت بطاعة الإيمان، واثقة أن الله يهيّي لها النصيب الأفضل. 

إضطراب مريم هو صورة لإضطراب بشريّتنا إزاء المستحيل، فكم من مرّات نتساءل "كيف يكون هذا؟"، ونشكّك في قدرة الله على العمل في حياتنا؟ مريم تعلّمنا إن نقبل إله المستحيل، فما من شيء لديه مستحيل. هي ميّزت على ضوء تاريخ شعبها، وكم من مرّات ظنّ الشعب أن خلاصهم مستحيل، وفي كلّ مرّة كان الله ينتصر، ويحطّم المستحيل. 

الجواب على هذا الإضطراب كان: "لا تخافي"، كلمة محوريّة في الإنجيل. فحضور الله لا يبعث الخوف إلاّ لمن فتّش عن الدرب الأسهل، أمّا تلميذ الرّب فهو مدعو الى حياة جهاد وبطولة، الى ترك كلّ شيء ووضع الذات بين يدي المعلّم. "لا تخافي" لا تعني "ستكون حياتك سهلة ودون تضحيات"، بل تعني "ثقي بالله وبقدرته، وهو يجعلك تعبرين بحر الخوف كما جعل شعبك يعبر البحر الميت وأرجله ناشفة". "لا تخافي" تعني أن الله الّذي أعاد الشعب من سبيه وأدخله في حياة الشركة والبنوّة هو الّذي يجعلك تعودين من سبي اضطراب القلب الى أرض السلام مع الله. هي كلمة يوجّها الملاك عبر مريم الى كلّ تلميذ، يدعوه للثّقة والاستسلام بين يدي الله ليصل الى أرض الحرّية، أرض الميعاد. 

فَقالَتْ مَرْيَمُ لِلمَلاك: "كَيْفَ يَكُونُ هذَا، وأَنَا لا أَعْرِفُ رَجُلاً  ؟": أكملت مريم الإستفسار، فأن كانت مشكلتها الأولى إضطراب القلب وعدم قدرتها على تمييز معنى هذا السلام، فالمشكلة الأخرى هي "الإستحالة الطبيعيّة الإنسانيّة". كيف يمكن لمن لم تعرف رجلاً أن تحبل؟ وهو سؤالنا اليوميّ نحن الّذين يدعوهم المسيح الى الاشتراك معه في خلاص العالم: "كيف يمكن لي أنا الضعيف الخاطيء أن اكون تلميذ المسيح؟"، "كيف يمكن لأنسانيّ المجرّب المتألّم أن يحمل في داخله بشرى الخلاص؟"، "كيف لي، أنا الّذي تملأ حياتي الآلام والمشاكل أن أبشرّ بانجيل الفرح والرّجاء؟". جواب الملاك لمريم، أن هو عمل الرّوح القدّس الّذي سوف يجعل حشاها البتول يحمل المسيح هو جواب لنا نحن ايضاً: الرّوح القدس هو القادر على تحويل حياتنا، وجعلنا هياكل له مقدّسة، لنحمل يسوع بالرّوح كما حملته مريم بالجسد، ونستحقّ أن نكون له تلاميذ.

الملاك أعطى مريم علامةً: "ها هي نسيبتك اليصابات حامل في شهرها السادس". لقد استطاع الرّب العمل في الحشا الميت، فكيف لا يعمل الرّوح في الحشا البتول؟ "لا مستحيل عند الله" يقول الملاك، ومن صار تلميذ الرّب لا يخاف المستحيل، فالله هو سيد المستحيل، وهو يحوّل عقمنا الى حياة، ومرارتنا الى رجاء، يطهّر جسدنا المهشّم بالخطيئة ويجعله هيكلاً لحلول السيّد. 

 

"هَا أَنا أَمَةُ الرَبّ، فَلْيَكُنْ لِي بِحَسَبِ قَوْلِكَ!": مريم قبلت الدخول في مدرسة سيّد المستحيل، وصارت المعلمّة لنا في الإيمان وفي معني التتلمذ. صارت مريم تلميذة ابنها منذ حلوله في حشاها، ودرسها الأوّل كان: "لا تخافي"، فالله يحقّق في حياتك المستحيل، لقد اختارك ونقّاك منذ خلقك، لتكوني هيكل الله الطاهر يحلّ فيك ليفدي البشر. 

مريم تعلّمنا الشجاعة في الإيمان، وعدم الخوف من حضور الله في حياتنا، فهو الّذي يحرّرنا، ويقدّسنا، ويجعلنا آنية مقدّسة تحلّ فيها نِعَم روحه. 

مريم تعلمّنا الصمت والتأمّل لنسعى الى سماع الله يتكلّم هامساً في قلوبنا ويكشف لنا عن إرادته، إرادة قدّوسة تصبح دعوتنا في الحياة، فلا نخاف أن نقول "لست أفهم بالكامل، ولكنّي أثق، وأجعل نفسي في خدمة إرادتك". 

مريم تعلّمنا قبول نعمة الحياة فينا، ففيها تجسّد ابن الله وصار جنيناً. مريم لم تجهض مخطّط الله الخلاصي وقد صار جنيناً في حشاها، بل قبلت هذه الإرادة وجعلت ذاتها في خدمتها. وكم نجهض نحن ارادة الله في حياتنا كلّ يوم، ونختار مخطّطاتنا الشخصيّة؟ كم من أمّهات وآباء يجهضن أولادهم، مفضّلين راحتهم، أو خوفاً من تعب مستقبليّ؟ كم من أهل يجهضون في أولادهم دعوة الله لهم، حين يرفضون أن يستجيب ولدهم لدعوة الله له؟ في هذا كلّه مريم تصبح معلمّة لنا في الإيمان، في التواضع، في الطاعة وفي شجاعة الاستجابة، لنعلم أنّنا بمعموديّتنا دخلنا مدرسة إله المستحيل، وأن حياتنا ملكه، نضعها في خدمة أنجيله أينما كنّا، لنعلن كلّ يوم للّذين نلتقيهم أن الله هو العمّانوئيل، الله معنا، وهو لا يتركنا.