عظات
٢٥‏/٥‏/٢٠١٧ زمن العنصرة | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد الحادي عشر من زمن عنصرة

موقع النّص في إنجيل لوقا

يورد لوقا هذه الرواية كخاتمة لسلسة أحداث وأقوال تتمحور حول فكرة ملكوت السماوات وكيفيّة قبوله.

في لوقا 17، 12- 19 نجد رواية شفاء الرجال البرص، واحد فقط عاد إلى يسوع، فسمع هذه الكلمات: "قم واذهب، فايمانك شفاك". وكان هذا الرجل سامريّاً. لقد حلّ خلاص الله على جميع الشعوب دون استثناء.

في النص التالي، يجادل الفرّيسيّون يسوع حول مجئ ملكوت الله، فيعلن لهم الرّب أن الملكوت حاضر في وسطهم، فلا جدوى من انتظار العلامات العظيمة والأحداث الكونيّة. فملكوت الله حلّ بشخص يسوع ابن الآب، أتى ليحمل الخلاص. قبول يسوع هو قبول الملكوت. قبول كلمة الإنجيل هو بدء الدخول في ملكوت الله، وتحقيق ملكوت الله اليوم يكون عبر التزامنا بشخص المسيح وبكلمته. دعوتنا أن نساهم بحلول ملكوت الله في حياتنا وفي حياة الآخرين من خلال التزامنا بمنطق الله وبإرادته الخلاصيّة، وأيصالها للآخرين، دون التلهيّ بانتظار العلامات وترقب نهاية الآزمنة.

وفي 18، 1-8 يعطينا لوقا تعليم المسيح حول معنى الصلاة وقيمتها. فالأرملة نالت مبتغاها من القاضي الظالم بسبب الحاحها ومثابرتها. الصلاة تقودنا إلى الإيمان الّذي يقبل الخلاص. صلاتنا، هي الإستسلام لإرادة الله، والدخول في علاقة معه. وقبول الملكوت يحتاج إلى مثابرة وكفاح، على مثال الأرملة التي لم تملّ الطلب. ولكن "حين يأتي ابن الإنسان، هل يجد الإيمان على الأرض" (18، 8).

وفي 18، 9-14 نجد مثل الفرّيسيّ والعشّار، يوجّهه الرّب إلى من يظنّون أنفسهم ابراراً ويحتقرون الآخرين، لا سيّما الخطأة. ملكوت الله هو معدّ للجميع، ورغبة الله هي في أن يرث الجميع ملكوت الله وحبّه. ولكن منطق الملكوت لا يمكن أن يتناغم ومنطق المتكبّر الّذي يرى نفسه قدّيساً، بارّاً، لا يحتاج إلى تبرير من الله ولا إلى رحمته. ملكوت الله هو هبة تعطى من الله للإنسان العارف كم هو ضعيف ومحتاج لرحمة الله، ولأنّه يرى ضعفه، يسامح ضعف الآخر، ويحبّ الآخر رغو خطاياه، لأنّ الله يريد خلاص الجميع. قبول الملكوت، أي القداسة، تقتضي التوبة والإقرار على مثال العشّار الّذي كان يقرع صدرة تائباً في حضرة الله. دون التوبة والإقرار بحاجتي إلى الخلاص، أبقى هائماً في حبّ ذاتي، مثل ذاك الفرّيسيّ المتكبّر. ولأنّى وضعت خلاصي في قدرتي، أترك المسيح دوماً خارج أبواب قلبي.

وبعد الأمثال تأتي الأحداث التاريخيّة (18، 15-30): يسوع يدعو الأطفال اليه، يباركهم ويعلن أن لمثل هؤلاء أعطي ملكوت الله، للأبرار، للأنقياء، لمن لا يخشون الإستسلام بين ذراعيّ والديهم والإنقياد لتدبيرهم. مثل الطفل، على المؤمن أن يتعلّم الثقة بالله أبيه ولا يخشى الإرتماء بين يديه.

وبعكس هؤلاء الأطفال، جاء الشاب الغنيّ راغباً في الخلاص وفي الملكوت، ولكنّه خاف التخلّي عن ممتلكاته فمضى حزيناً: قبول الملكوت يعني القبول بالتخلّي عمّا يجعلنا نبدو أقوياء وأغنياء، ليس مادّياً فحسب، إنّما معنويّاً أيضاً. المسيح لا يدعونا للتخلّي عن مقتنيات نحتاجها لنحيا، ولكنه يسأل كلّ واحد منّا: "ماذا يحلّ في المكان الأوّل في حياتك؟"، هل أقدّم مالي على المسيح؟ هل أفضّل السلطة والمجد العابر على إرادة الله؟ هل أجعل رغبتي في الوصول وفي الغنى وفي التسلّط تحتل وجودي بأسره، أم أقبل أن تكون إرادة الله وكلمته هي محور حياتي ومحرّكها؟ قبول الملكوت يستلزم أن أضع الله في المقام الأوّل.

بعد هذه الأمثال والأحداث التعليميّة حول ما هو الملكوت وكيف نعمل لنربحه، يعلن المسيح للمرّة الثالثة ضرورة الصعود إلى أورشليم ليتألّم ويموت ويقوم. لا ملكوت دون ألم وتضحية، لا ملكوت دون موت عن أنفسنا، دون تحوّل إلى صورة المسيح. الألم والموت في سبيل الملكوت نحياه يوميّا في ألم التضحية، والوقوف إلى جانب الضعيف. نحياه حين نقوم بخياراتنا على ضوء كلمة الإنجيل، رغم أن الخيارات التي يقدّمها لنا العالم تعطينا مجداً أكبر في هذا العالم. الألم والموت نحياهم كلّ يوم حين نجد الكون بأسره يهزأ بنا، ويجدنا حمقى لأنّنا لا نستفيد من الفرص التي يقدّمها لنا المجتمع. لأنّنا نغفر لمن أذانا بدل من الإنتقام وأخذ صورة المتسلّط القوي. وقيامتنا نجدها في التزامنا بقناعاتنا، رغم التضحيات الكبيرة، حين نعلم أنّنا عملنا بوحي ضميرنا النقيّ وبمقتضى كلمة الله وتعليم كنيسته. لا ملكوت دون تضحية وألم، لا قيامة إلى مجد المسيح دون موت عن منطق العالم الزائل.

وأخذ يسوع الإثني عشر معه وقال لهم: "هلمّوا" نصعد إلى أورشليم". هي صورة الكنيسة الصاعدة إلى أورشليم هدفها، لا أورشليم التاريخيّة، بل أورشليم السماويّة، صورة ملكوت الله ورمزه. صعود الرسل هي صورة عن مسيرة الكنيسة نحو الملكوت، تسير خلف معلّمها. يتبعون يسوع معا، يسيرون خلفه معاَ، بمنطق مشترك جماعيّ، يسيرون كجماعة خلف المعلّم المخلّص. هي الكنيسة تحملنا نحو الملكوت، في سيرنا مع التلاميذ، إخوتنا المعمّدين، خلف المسيح، متّبعين تعليمه، حاملين إنجيله، خاضعين لتعليم كنيسته، أمّنا ومعلّمتنا. الكنيسة هي وسيلة خلاص أعطانا إيّاها المسيح لدخول الملكوت السماوّي، ولكنّها أيضاً تحقيق أرضيّ مؤقّت لحقيقة الملكوت الأبّديّة: ففي الكنيسة نجتمع كلّنا معا حول كلمة الله وحول جسده، كما سوف نجتمع كلّنا حوله في ملكوت السماوات. في الكنيسة نحيا معنى الحبّ الّذي يجمعنا كلّنا من كلّ عرق ولون ومكان، كما سوف تجمعنا السماء في رباط حبّ أبديّ. في الكنيسة نحيا الجماعة، عائلة الحب، جماعة مخلّصين يعلمون حاجتهم لحبّ الله ولخلاصه، كما سوف نحيا يوماً في السماء، في ملكوت الله الأبديّ.

وفي طريقه إلى أورشليم، إلى حيث يتألّم ويموت ليحقّق ملكوت الله بيننا، يلتقي الرّب بزكّا. إن هذا الحدث لم يعد تعليماً كما الأحداث السابقة، بل هو تطبيق لكلّ التعاليم والأحداث التي سبقت هذا النّص. فزكّا بالحاحه لرؤية الرّب صار مثل الأرملة التي لم تملّ عن الطلب، وباستسلامه لإرادة الله صار مثل الطفل يقبل إرادة الله، وبتوزيعه لممتلكاته صنع ما لم يقدر الشاب الغنيّ على القيام به. لقد صار زكّا المثال في تتميم إرادة الله وتحقيق الملكوت على الأرض. مثل الأبرص الّذي عاد إلى الرّب، أعلن زكّا شكره لنعمة الرّب. مثل العشّار أيقن خطيئته وبعكس الفرّيسيّ لم يتبجّح ولم يتكبّر ولم يعلن أنّه بارّ. لقد أبصر يسوع، وعلم أنّه هذه هي اللّحظة التي لا بدّ أن يلتقطها، فملكوت الله حلّ في أريحا ذلك اليوم، لأنّ ملكوت الله يحلّ في شخص يسوع المسيح. 

(لوقا 19: 1 - 10)

دَخَلَ أَرِيْحا وَبَدأَ يَجْتَازُها، وإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ زَكَّا، كانَ رَئِيسًا لِلْعَشَّارِينَ وَغَنِيًّا. وكَانَ يَسْعَى لِيَرَى مَنْ هُوَ يَسُوع، فَلَمْ يَقْدِرْ بِسَبَبِ الـجَمْعِ لأَنَّهُ كانَ قَصِيرَ القَامَة. فَتَقَدَّمَ مُسْرِعًا وَتَسَلَّقَ جُمَّيْزَةً لِكَي يَرَاه، لأَنَّ يَسُوعَ كانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُرَّ بِهَا. وَلَمَّا وَصَلَ يَسُوعُ إِلَى المَكَان، رَفَعَ نَظَرَهُ إِلَيْهِ وقَالَ لَهُ: "يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وانْزِلْ، فَعَلَيَّ أَنْ أُقِيمَ اليَومَ في بَيْتِكَ". فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ واسْتَقْبَلَهُ في بَيْتِهِ مَسْرُورًا. وَرَأَى الـجَمِيعُ ذـلِكَ فَأَخَذُوا يَتَذَمَّرُونَ قَائِلين: "دَخَلَ  لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئ". أَمَّا زَكَّا فَوَقَفَ وَقَالَ لِلرَّبّ: "يَا رَبّ، هَا أَنَا أُعْطِي نِصْفَ مُقْتَنَياتِي لِلْفُقَرَاء، وَإنْ كُنْتُ قَدْ ظَلَمْتُ أَحَدًا بِشَيء، فَإِنِّي أَرُدُّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَضْعَاف". فقَالَ لَهُ يَسُوع: "أَليَومَ صَارَ الـخَلاصُ لِهـذَا البَيْت، لأَنَّ هـذَا الرَّجُلَ هُوَ أَيْضًا ابْنٌ لإِبْرَاهِيم. فإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ جَاءَ لِيَبْحَثَ عَنِ الضَّائِعِ وَيُخَلِّصَهُ".

زكّا مثال الباحث عن ملكوت الله:

يسوع يدخل أريحا في طريقه نحو أورشليم. أريحا بوابة الأرض المقدّسة، منها دخل الشعب إلى الأرض بقيادة يشوع ابن نون (يش 6). ويسوع اين مريم يدخل الأرض مجدّداً، يقود كنيسته، شعب الله الجديد، الأمّة المقدّسة السائرة نحو أورشليم السماويّة. الأعمى يصرخ "يا ابن داود ارحمني" وينال الخلاص، ولكن زكّا يبقى صامتاً، يراقب، يتحيّن الفرصة. مثل كلّ واحد منّا يعلم أنّه خاطيء. مثلنا أحياناً، يفكّر في ما سوف يقول عنه الآخرون إن اقترب نحو يسوع، فهو من كبار جباة الضرائب، يخافه الآخرون ويحتقره الفريّسيّون، هو الخاطئ في نظرهم.

يفكّر أيضاً، ماذا يقول عنه الرّب؟ مثلنا يخاف حكم الله، يظنّ نفسه هالكاً، ومثلنا أيضاً، تبقى في قلبه ذرّة رجاء، حالم بخلاص الله، طامع بلمسة من يسوع تشفي يأسه.

مثلنا أيضاً، يجد نفسه قصير القامة، لا يقدر أن يرى السيّد بسبب قامته، أي بسبب عجزه الطبيعيّ عن الوصول إلى معاينة الله، وبسبب خطيئته أيضاً، خطيئة تمنعه من الإقتراب، وبسبب الآخرين لا يعاين يسوع.\

قصر قامة زكّا هي صورة عن عدم قدرة طبيعتنا الإنسانيّة على الدخول في علاقة مع الله المختلف عنّا بطبيعته: كيف يمكن للإنسان أن يعرف الله وأن يدخل في علاقة معه؟ كيف يمكن لطبيعة مائتة أن تلاقي الأبديّ؟

وقصر القامة أيضاً هي صورة عن الخطيئة التي تمنعنا من قبول الرّب. الخطيئة هي رفض لله ولوجوده في حياتنا. لا يمكننا أن نختار الله والخطيئة.

ولكن قصر قامة زكّا ما كانت لتمنعه من رؤية المخلّص لو لم يحجب الآخرون المسيح عن ناظريه. هي أيضاً صورة كلّ واحد منّا حين يجد نفسه خارج الجماعة، مهمّشاً، موضوعاً في خانة ما يقرّرها المجتمع. وأحياناً نكون واحداً من أولئك الّذين يمنعون الآخرين من رؤية المسيح.

ولكن قصر قامتنا لم يكن عائقاً أمام المسيح، ولا أمام زكّا:

فالله ألغى الحاجز بين طبيعته الإلهيّة وطبيعتنا الإنسانيّة بتجسّد المسيح، فالمسيح الإله والإنسان صار وسيلة لقاء بين الطبيعتين، وصار بإمكاننا العودة إلى علاقة البنوّة الإلهيّة. الشجرة التي صعد اليها زكّا هي شجرة الحياة المزروعة في وسط الجنة، حيث كان الإنسان يحيا في علاقة حبّ مع الآب، علاقة جدّدها المسيح بتجسدّه.

ولأنّه أب يحبّ كلّ واحد منّا، لم تعد للخطيئة قوّتها القاتلة، فبموت الرّب تكفيراً عن خطيئتنا أعادنا إلى صداقتنا مع الآب. أعطانا سرّ المغفرة، سرّ المصالحة مع الله. الشجرة التي تسلّقها زكّا ليعاين الله، هي شجرة الصليب التي عُلِّق عليها المسيح، ثمرة الحياة، ليعطينا الغفران والحياة الجديدة.

ولأن خلاص الله هو نعمة تُعطى من حنان الآب، ولكنها تتطلّب قبولنا وجهادنا، فالرّب يطلب منّا المشاركة، يطلب منّا تخطّي العوائق التي تمنعنا من الوصول اليه، يطلب منّا أن نصنع كما زكّا، نجد الوسيلة التي تجعلنا نبصر المخلّص رغم العوائق. يدعونا المسيح ألاّ نسمح لعوائقنا الجسديّة، والنفسيّة والروحيّة والإجتماعيّة أن تكون حاجزاً يحول دون وصولنا إلى الخلاص. لقد تسلّق زكّا الشجرة، فتّش عن مخرج، لم يسمح لعائقه الجسديّ، ولا لعقدة نقصه حيال الفرّيسيّين، ولا للخطايا التي اقترفها في ماضيه، ولا للمجتمع الّذي قرّر أن يضعه في خانة الخطأة المهمّشين، لم يسمح لكل هذا أن يمنعه من الوصول إلى المسيح. لقد أخذ المبادرة، وتسلّق تلك الشجرة.

هي دعوة لنا اليوم أن نخرج عن صمتنا وخوفنا، أن نعمل شيئاً لنظهر لنفسنا أوّلاً وللرّب بنوع أخصّ، أن لا شيء يقدر أن يمنعنا عن الوصول إلى الخلاص: لا خطايا ماضينا، ولا ضعف قوانا، ولا خوفنا ولا يأسنا ولا مشاكلنا، ولا نظرة المجتمع الينا، لا شيء يقدر أن يحول دون وصولنا إلى الخلاص. رواية زكّا هي دعوة لنا لنبدأ من جديد، لنفتّش عن بداية جديدة، نرتفع من خلالها عن واقعنا اليائس كما ارتفع زكّا ذاك اليوم فوق كلّ ما يحيطه، ونرى المسيح ينظر الينا، يشاهدنا رغم زحمة الجموع، يقرأ ما في قلبنا من رغبة وشوق للخلاص. نسمع صوت المسيح يدعونا للعودة، للنزول، فدعوتنا ليست في البقاء في الأعلى هرباً من الواقع والمجتمع، بل واجبنا أن نعود إلى حيث كنّا، لنخبر الآخرين بما رأينا حين ارتفعنا للقاء الرّب في الصلاة، في التأمّل، في الإختلاء. دعوتنا أن نعود إلى واقعنا اليوميّ لنطهّره، ننقيّه من الشوائب والأخطاء، نحوّله من واقع خطيئة إلى حالة نعمة، نحوّل وجودنا إلى مكان بركة يقول لنا الله أنّه سوف يحلّ فيه هذا المساء ضيفاً، يقاسمنا خبزنا اليوميّ، يشاركنا فرحنا، فرح الخلاص الّذي هو وحده يقدر أن يعطينا إيّاه.