الكتاب المقدّس | العهد الجديد
١٥‏/١٠‏/٢٠١٦ إنجيل يوحنا | الأب بيار نجم ر.م.م

مدخل إلى الإنجيل بحسب يوحنّا

 

يقول أوريجانوس في شرحه لإنجيل يوحنّا: "لا يمكن لأحدٍ فهمَ انجيل يوحنّا إن لم يتّكيء على صدر يسوع ولم يحصل من يسوع نفسه على مريم أمّاً له، كما صار ليوحنّا".  وأطلق اقليمنضس الإسكندري على الإنجيل الرابع لقب "الإنجيل الرّوحيّ"، وهو دون شكّ الإنجيل المميّز، الإنجيل اللاّهوتيّ الّذي ارتفع في عالم اللاهوت المسيحانيّ متميّزاً ليس من الناحية اللاهوتيّة فقط، إنّما من الناحية الأدبيّة أيضاً ومن حيث غناه الروّحي وخصائص المصادر التي استقى منها معلوماته.

 

إن إنجيل يوحنّا يختلف عن الأناجيل الثلاثة الأخرى التي ندعوها "الأناجيل الإزائيّة"، إن من ناحية المحتوى، إذ يُبرز يوحنّا اختلافات واضحة، إن من حيث الإضافات (مثل رواية عرس قانا الجليل الّتي لا نجدها في الإناجيل الأخرى) وإن من حيث الإنقاص (مثل رواية العشاء السرّي التي لا نجد لها أثراً واضحاً في الإنجيل الرابع).

 

إن هذا الإختلاف بين يوحنّا والأناجيل الإزائية قد دفع العلماء الى إيلاء هذا الموضوع حيّزاً هاماً من الدراسات المقارَنة ومن الكتب والمقالات ما نعجز عن إيراده في مقدّمتنا هذه.  فنكتفي بإعطاء فكرة أوّلية تدخلنا في إنجيل يوحنّا لنقدر على فهم روايات الإنجيل الرابع بشكل أعمق وأسهل.

 

الكاتب:

على غرار سائر الإناجيل، وبخلاف النوع الأدبيّ المختص بالرسائل وبالرؤيا كنوع أدبيّ، لا يعطي الكاتب الإنجيليّ لنفسه إسماً، وهو أمر طبيعيّ إن كان الكاتب ينطلق من مفهوم عقائدي مفاده أن الإنجيل هو قصة اختبار الجماعة مع المخلّص، والإنجيل هو تأوين لكلام المسيح لجماعة اليوم، فيصبح إسم الكاتب التاريخيّ نافلاً دون ذي قيمة من الناحيّة اللاهوتيّة، فالأهم هو المسيح في الإنجيل، والجماعة التي يوجّه اليها هذا الإنجيل.

 

لقد أورثنا التقليد الكنسيّ المتناقل منذ العصور الأولى اسماً لكاتب الإنجيل الرابع: هو يوحنّا الرسول، أمّا الكاتب فيقول عن نفسه أنّه التلميذ الحبيب، فهل يكفي لنؤكّد هويّة الكاتب الحقيقيّة؟  لنقرأ أوّلاً ماذا يقول الإنجيل، وهذا ما ندعوه القرائن الداخلّية، أي الدلائل المتعلّقة بالنصّ نفسه:

 

يو 21، 20-24 " فالتفَتَ بُطرُس، فرأَى التِّلميذَ الَّذي أَحَبَّهُ يسوعُ يَتبَعُهما، ذاكَ الَّذي مالَ على صَدرِ يسوعَ في أَثناءِ العشاء وقالَ له: "يا ربّ، مَنِ الَّذي يُسلِمُكَ؟" 21 فلَمَّا رَآهُ بُطرس قالَ لِيسوع: "يا ربّ، وهذا ما شأنُه؟" 22 قالَ لَه يسوع: "لو شِئتُ أَن يَبْقى إِلى أَن آتي، فما لَكَ وذلك؟ أَمَّا أَنتَ فَاتبَعْني". 23 فشاعَ بَينَ الإخوَةِ هذا القول: إِنَّ ذلِكَ التِّلميذَ لَن يَموت، مَعَ أَنَّ يسوعَ لَم يَقُلْ إِنَّه لَن يَموت، بل قالَ له: لو شِئتُ أَن يَبْقى إِلى أَن آتي، فما لكَ وذلك ؟ 24 وهذا التِّلميذُ هو الَّذي يَشهَدُ بِهذِه الأُمور وهو الَّذي كَتَبَها، ونَحنُ نَعلَمُ أَن شَهادتَه صادِقَة. 25 وهُناكَ أُمورٌ أُخرى كثيرةٌ أتى بِها يسوع، لو كُتِبَت واحِداً واحِداً، لَحَسِبتُ أَنَّ الدُّنْيا نَفْسَها لا تَسَعُ الأَسفارَ الَّتي تُدَوَّنُ فيها. "

الآية 24 التي تنسب الإنجيل الى التلميذ الذي كان يسوع يحبّة هي ما ندعوها postscriptum أي"ما هو مكتوب في مرحلة تالية"، أو "المضاف الى خاتمة النص".  هذه الآية تجعل من هذا التلميذ كاتباً للإنجيل من ناحية والمرجعيّة اللاهوتيّة والرّوحيّة للإنجيل.  تجدر الإشارة الى التوتّر القائم بين بطرس وبين التلميذ الآخر، لأنّه يزيل بطرس عن لائحة الكتّاب المحتملين، لأّنه هو أيضاً تلميذ كان يسوع يحبّه، إذ غفر له وجعله الأوّل بين الرسل الآخرين.  ومن ناحية أخرى تفيدنا هذه الآية بصراع لاهوتيّ أو عمليّ كان قائماً لا بين بطرس والكاتب، إنّما ربّما بين جماعة بطرس وجماعة التلميذ الحبيب، وهو ما سوف نشير اليه لاحقاً في درسنا لروايات الإنجيل الرّابع.

 

نصّ ثان يجدر التنويه به هو يو 19، 25-35:

 

" 25هُناكَ عِندَ صَليبِ يسوع، وقَفَت أُمُّه، وأُختُ أُمِّه مَريَمُ امرأَةُ قَلُوبا، ومَريَمُ المِجدَلِيَّة. 26فرأَى يسوعُ أُمَّه وإِلى جانِبِها التِّلميذُ الحَبيبُ إِلَيه. فقالَ لأُمِّه: "أَيَّتها المَرأَة، هذا ابنُك". 27ثمَّ قالَ لِلتِّلميذ: "هذه أُمُّك". ومُنذُ تِلكَ السَّاعةِ استَقبَلَها التِّلميذُ في بَيتِه. 28وبَعدَ ذلك، كانَ يَسوعُ يَعلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ قدِ انتَهى، فلِكَي يَتِمَّ الكِتاب، قالَ: "أَنا عَطْشان". 29وكانَ هُناكَ إِناءٌ مَمْلوءٌ خَلاًّ. فوَضَعوا إِسْفَنجَةً مُبتَلَّةً بِالخَلِّ على ساقِ زوفى، وأَدنَوها مِن فَمِه. 30فلَمَّا تَناوَلَ يسوعُ الخَلَّ قال: "تَمَّ كُلُّ شَيء"  ثُمَّ حَنى رأسَهُ وأَسلَمَ الرُّوح. 31وكانَ ذلكَ اليَومُ يَومَ التَّهِيئَة، فَسأَلَ اليَهُودُ بيلاطُس أَن تُكسَرَ سُوقُ المَصلوبين وتُنزَلَ أَجسادُهُم، لِئَلاَّ تَبْقى على الصَّليبِ يَومَ السَّبت، لِأَنَّ ذاكَ السَّبْتَ يَوْمٌ مُكَرَّم. 32فجاءَ الجُنودُ فكَسروا ساقَيِ الأَوَّلِ والآخَرِ اللَّذينَ صُلِبا معَه. 33أَمَّا يسوع فلَمَّا وَصَلوا إِليه ورأَوهُ قد مات، لَم يَكسِروا ساقَيْه، 34لكِنَّ واحِداً مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء. 35والَّذي رأَى شَهِد، وشَهادَتُه صَحيحة، وذاك يَعلَمُ أَنَّه يَقولُ الحَقَّ لِتُؤمِنوا أَنتُم أَيضاً "

وفي 13، 23-25:

 

"23وكانَ أحدُ تَلاميذِه، وهو الَّذي أَحبَّه يسوع، مُتَّكِئاً إِلى جانبِ يسوع، 24فأَومَأَ لَه سِمْعانُ بُطرس وقالَ له: "سَلْهُ على مَن يَتَكَلَّم". 25فمالَ دونَ تَكَلُّفٍ على صَدرِ يسوعَ وقالَ له: " يا ربّ، مَنْ هو؟" "

وفي 21، 2-7:

 

" كان قدِ اجتَمَعَ سِمْعانُ بُطرُس وتوما الَّذي يُقالُ له التَّوأَم ونَتَنائيل وهو مِن قانا الجَليل وَابنا زَبَدى وآخَرانِ مِن تَلاميذِه.3فقالَ لَهم سِمعانُ بُطرُس: "أَنا ذاهِبٌ لِلصَّيد". فقالوا له: "ونَحنُ نَذهَبُ معَكَ". فخَرَجوا ورَكِبوا السَّفينَة، ولكِنَّهم لم يُصيبوا في تِلكَ اللَّيلَةِ شَيئاً. 4فلَمَّا كانَ الفَجْر، وقَفَ يسوعُ على الشَّاطِئ، لكِنَّ التَّلاميذَ لم يَعرِفوا أَنَّه يسوع.5فقالَ لَهم: "أَيُّها الفِتْيان، أَمعَكُم شَيءٌ مِنَ السَّمَك ؟" أَجابوه: "لا".6فقالَ لَهم: "أَلقُوا الشَّبَكةَ إِلى يَمينِ السَّفينة تَجِدوا". فأَلقَوها، فإِذا هُم لا يَقدِرونَ على جَذبِها، لِما فيها مِن سَمَكٍ كَثير.7فقالَ التَّلميذُ الَّذي أَحبَّه يسوعُ لِبُطُرس: "إِنَّه الرَّبّ". فلَمَّا سَمِعَ سِمْعانُ بُطرُس أَنَّه الرَّبّ، اِئتَزَرَ بِثَوبِه، لأَنَّه كانَ عُرْياناً، وأَلْقى بِنَفْسِه في البُحَيرة."

فماذا يمكننا ان نستنتج من هذا الروايات؟ إن التلميذ الحبيب في 19، 35 وفي 21، 24 هو نفسه إذ يُعطي في المكانين المواصفات نفسها.  هو ليس بطرس، ولا بد أن يكون واحداً من مجموعة "توما الَّذي يُقالُ له التَّوأَم ونَتَنائيل وهو مِن قانا الجَليل وَابنا زَبَدى وآخَرانِ مِن تَلاميذِه" (21، 2-7).  التلميذان الآخران لا يسميّان بسبب عدم معرفة هوّيتهما على الأرجح بسبب البعد الزمني بين الحدث الإنجيلي وبين كتابته، أو لأن التقليد الشفهي الّذي يكوّن مصدر هذه الرواية لم يورد الأسمين.  فلو كان واحداً منهما لدعاه الكاتب "التلميذ الّذي كان يسوع يحبّه".  فلا بدّ أن يكون من مجموعة توما، نتنائيل وابني زبدى.  يوحنّا هو واحد من ابناء زبدى.  أيكون هو الكاتب؟

 

قرائن داخليّة أخرى:

معرفة الكاتب بمعالم فلسطين الجغرافيّة: فمن النص يعلم أنّه يعرف الجليل، السامرة واليهوديّة (1، 28؛ 2، 1؛ 3، 23؛ 4، 20؛ 11، 54؛ 12، 21)، كما يعرف عن كثب معالم أورشليم (5، 2؛ 9، 7؛ 11، 18؛ 18، 1. 28؛ 19، 14) ويعرف تفاصيل الهيكل (2، 14. 20؛ 8، 2. 20؛ 10، 23).  من هذه المعرفة الدقيقة للتفاصيل الجغرافية وحتى الهندسيّة يمكننا أن نستنتج أن الكاتب هو يهوديّ من أورشليم.  وما يؤكّد لنا صحّة هذه النظريّة معرفة الكاتب بالتفاصيل الحضاريّة والعادات والتقاليد الدينيّة لفئات اليهود (4، 9؛ 7، 35؛ 11، 49؛ 18، 13. 28. 31. 39)، ويعرف الفرق بين المعتقد اليهوديّ والمعتقد السامريّ (1، 41. 46؛ 4، 9؛ 6، 15)، معتاد على إحتفالات اليهود وعاداتهم، مثل الإغتسال قبل الصلاة (2، 6؛ 3، 25؛ 11، 55؛ 18، 28) والأعياد: التجديد (10، 22) والمظال (7، 2. 37) والفصح (2، 13. 23؛ 6، 4؛ 13، 1؛ 18، 28).

 

إذا اخذنا كلّ هذه العناصر على محمل الجدّ يضحي من الصعب قبول النظريّات القائلة أن الكاتب لا ينتمي الى المجتمع اليهوديّ أو انّه اخذ معلوماته من شخص آخر.

 

الكاتب هو شاهد عيان: كما قلنا سابقاً وأوردنا في النصوص اليوحنّوية، يظهر أن الكاتب هو من جماعة الرسل التي عاينت وشهدت شخصيّاً.  إن الإنجيل الرابع من حيث التكوين هو بغاية التعقيد ويعتمد على عدّة مصادر، وتكوّن على مرّ عشرات السنين، إنّما يبدو أن أحد مصادر الإنجيل الأساسيّة قد كان التلميذ الحبيب نفسه، ككاتب وكمرجعيّة أساسيّة لهذا الإنجيل.  ففي يو 1، 29. 35. 39؛ 7، 14؛ 11، 6؛ 12، 1؛ 13، 1-2؛ 19، 14. 21؛ 20، 1. 19. 26) نرى أن الكاتب قد كان حاضراً شخصيّاً، وكان من ضمن جماعة الرسل.  لذلك نقول أنّ من المرجّح ان يكون الكاتب واحد من جماعة الرسل وقد عايش الرّب في حياته وفي عمله التبشيرّي.

 

ثقافة الكاتب الأراميّة:  إن لغة الكاتب تُظهر تأثّراً كبيراً بالمنطق اللّغوي الآراميّ العبريّ، وهو ما تظهره عدّة عناصر أدبيّة نجدها في نصّ الأنجيل الرابع، على سبيل المثال:

 

- استعمال الكلمات الآراميّة في النصّ اليونانيّ بدل ترجتمها، ثم ترجمتها في ما بعد (مثل 1، 38. 41. 42؛ 4، 25، 20، 16...).

 

- إستعمال الأداة kai واو العطف بشكل مبالغ به لربط الجمل في ما بينها، بينما كان يمكنه استعمال صيغة إسم الفاعل اليونانيّ الّذي يستعمل لهذه الغاية.  إستعمال يوحنّا ل kai هي ترجمة لواو العطف المشتركة في اللّغات الساميّة، لذلك نجده على سبيل المثال في 9، 6-7 يستعمل kai خمس مرّات لربط خمس افكار في ما بينها.  هذا دليل على ان الكاتب، في سياق كتابته للنصّ اليونانيّ، كان يفكّر بمنطق آراميّ.

 

- نجد أحياناً في النص عدم ترابط بين جملتين أو بين فكرتين في إطار سرده لحدث مترابط بسبب غياب أدوات الوصل وأحرف العطف، وهو ما يُدعى باليونانيّة Asundeton، فنجد مثلا في 4، 6-7 عدم ترابط لغويّ بين الجمل، وإذا أردنا ان نترجم الجملة حرفيّا تصبح:"6 وكان هناك بِئرُ يَعقوبَ. وأمّا يَسوعُ تَعِبٌ كان مِنَ السَّفَرِ، قَعَدَ على حافَّةِ البئرِ. كانَ الوَقتُ نحوَ الظُّهرِ.7 جاءَتِ اَمرأةٌ سامريَّةٌ تَستَقي مِنْ ماءِ البِئرِ، قالَ لها يَسوعُ: "أعطيني لأشرَبَ". نقص الترابط هذا بين الجمل هو غريب عن المنطق اليونانيّ، ولكنّه طبيعيّ في الأراميّة والعبريّة.

 

- غالباً ما يبدأ الكاتب جمله بالأفعال وهو امر طبيعيّ في كلّ اللّغات الساميّة.

 

- لا يستعمل الكاتب مرادفات يونانيّة متنوّعة بل يقدّم عدداً قليلاً من الكلمات مقارنة مع الأناجيل الأخرى ونسبيّاً مع حجم الإنجيل الرابع نفسه، أمّا لغته فبسيطة غير معقدّة لغويّاً.

 

من هذه المعطيات يمكننا ان نستنتج أن الكاتب لم يكن ينتمي الى الثقافة اليونانيّة بل كان أراميّ المنطق والفكر.

 

 القرائن الخارجيّة:

كلّ ما درسناه لغاية الساعة يبحث في امكانيّة استشفاف هويّة الكاتب من الإنجيل نفسه، وقد لاحظنا صعوبة هذا الأمر، إذ يمكننا أن نطرح نظريّات وتكهّنات لا يمكنها أن ترقى الى مستوى التأكيد العلميّ الموثّق.  فهل يساعدنا التفتيش في القرائن الخارجيّة، أي البحث عن شهادات من خارج الإنجيل نفسه، على توضيح هويّة الكاتب الّذي أعطاه التقليد إسم يوحنّا؟

واحدة من أكثر الشهادات قيمة تأتينا من القدّيس إيريناوس أسقف مدينة ليون.  ففي الربع الأخير من القرن الثاني كتب: "يوحنّا، تلميذ الرّب، الّذي اتّكأ على صدره، قد كتب الإنجيل وهو في أفسس في آسيا" (adv. Haer. 3. 1,2)).  فلا بدّ أنّه يقصد يوحنّا ابن زبدى إذ يقول "تلميذ الرّب".  إنّما ماذا تنفعنا شهادة قدّيس عاش في أواخر القرن الثاني، نفصله مسافة زمنيّة غير قصيرة عن تاريخ كتابة الإنجيل الرابع؟  إن أهميّة شهادته تكمن في كونه عرف القدّيس بوليكربوس وتتلمذ له.  لقد استشهد بوليكربوس سنة 155 وكان طاعناً في السّن.  يقول إيريناوس في رسالة أرسلها الى صديقه فلورينوس: "لا يزال باستطاعتي أن أصف المكان الّذي الطوباويّ بوليكاربوس جلس يخطب، خروجه ودخوله، عاداته اليوميّة، مظهره ومواعظه للشعب، والروايات الّتي أخبرها عن أحاديثه مع يوحنّا ومع آخرين ممن عاينوا الرّب" (أوسابيوس، التاريخ الكنسي HE 5، 4-8).  إذاً فشهادة أيريناوس مهمّة لأنّ هذا القديّس قد وصلته المعلومات من شهود عيان ليوحنّا.  ويخبر أوسابيوس في تاريخه الكنسيّ أن بوليكاربوس كتب الى البابا فيكتوريوس الأوّل يخبره فيها عن "النيّرات المدفونة في آسيا على رجاء القيامة، وبينهم فيليبّس الرسول وبناته الثلاث، ويوحنّا شاهد العيان والمعلّم، الّذي اتّكأ على صدر السيّد، وبما أنّه كاهن (شيخ presbyteros) تقلّد الملابس الكهنوتيّة وهو يرقد في أفسس (HE 3.31.3).

 

واقليمنضس أسقف الإسكندريّة، في سرده للأناجيل قال: "وآخرهم هو يوحنّا، أدرك أن البعد الجسدّي صار طاغياَ في الأناجيل، شجّعه أصدقاءه، فكتب، بالهام الرّوح القدس، الإنجيل الروحيّ" (HE 4.14.7). 

 

ونجد في قانون Muratori (مخطوط قديم يحتوي على لائحة بالكتب المقدّسة القانونيّة، أي المعترَف بها ككتب مقدّسة، تعود على الأرجح الى السنوات 180- 200 لأنّها تذكر البابا بيوس، كُتبَ في روما ودُعي قانون موراتوري نسبة الى إسم مكتشفه) ما مفاده: "إن الإنجيل الرابع كتبه يوحنّا، أحد التلاميذ.  إثر لجاجة طلب أصدقاءه والأساقفة قال: "صوموا معي اليوم لثلاثة أيّام وهلمّوا نخبر بعضنا ما يمكن أن يلهم الله كلّ واحد منّا.  في الليّلة نفسها أوحي لإندراوس الرسول، ان سوف يكتب يوحنّا كل شيء بنفسه، بعد أن يستذكروا كلّهم الأشياء التي حدثت كلّها.  إذاً، رغم ان تعاليم مختلفة قد كُتبت في الأناجيل، لا يؤثّر هذا شيئاً في إيمان السامعين، بما أن كلّ هذه التعاليم في الأناجيل كلّها قد أعطيت بالهام من الروح القدس الأسمى".  من هنا نستنج أن التقاليد القديمة نفسها لا تنفي أن يكون الإنجيل الرابع هو نتاج مشترك لعدّة أشخاص، وقد مثّل يوحنا بينهم السلطة التي خطّت الرواية.

يورد أوسابيوس أيضاً شهادة بابيّاس: "لن أتردّد في أن أضيف الى الشروحات كلّها كلّ ما تعلّمتُه من الشيخ وما زلت اذكره جيّداً لأنّي أثق بصدقهم.  إن جاء أحد من الّذين تبعوا الشيوخ، استعملت منهم عن كلمات الشيوخ، ما قاله إندراوس أوبطرس أو فيليبّس أو توما أو يعقوب أو متّى، أو واحد من تلاميذ الرّب، وعمّا كان يقوله أريستيون ويوحنّا الشيخ، تلميذ الرّب.  فأنا لا أعتبر أن معلومات الكتب سوف تساعدني بقدر الكلمات الحيّة التيّ لا تزال على قيد الحياة" HE 3.39.3 f) ).  إذا هل نستنتج أن بابيّاس لم يكن تلميذ يوحنّا نفسه بل استقى تعليمه من آخرين عرفوا يوحنّا؟  في وصفه ليوحنّا الشيخ يدعوه بابيّاس تلميذ الرّب.

إنّما من ناحية أخرى يشكّك اوسابيوس في قول أيريناوس في أن بابيّاس قد عرف يوحنّا الرسول، بل يستشف من كلمات بابيّاس وجود شخصين باسم يوحنّا: يوحنّا الرسول ويوحنّا الشيخ، ويدعم نظريّته بواقع وجود قبرين ليوحنّا في أفسس.  فمن الممكن إذاَ أن يكون أيريناوس قد اخطأ بين الشخصين، سيّما وأنّه يقصّ حوادثا وقعت في طفولته ومضى عليها زمن طويل.  من الممكن أن يكون كاتب الإنجيل الرابع يوحنّا الشيخ لا يوحنّا الرسول.  إن بابيّاس يذكر يوحنّا الشيخ مرّة واحدة ويميّزه عن يوحنّا التلميذ

 

 (HE 3.39.4)ومن الممكن أن يكون هذا الشيخ قد ذهب الى افسس حيث كتب الإنجيل ومن بعدها أعتُبر الشخصان شخصاَ واحداَ، فكل التقليد الكنسيّ القديم ينسب الإنجيل الى يوحنّا الرسول ولا يأتي على ذكر الشيخ.

 

ممّا لا شكّ فيه هو ان يوحنّا الكاتب، إن كان يوحنّا ابن زبدى أو يوحنّا الشيخ (في حال كانا شخصين مختلفين)، قد كان مرجعيّة قويّة في كنائس آسيا الصغرى، وهو لا يذكر إسمه في الإنجيل ولا ينسب لنفسه مرجعيّة رسوليّة (كما فعل متّاب الأناجيل المنحولة مثلاً) ممّا قد يشير الى عدم خوفه من أن يُرفَض إنجيله في الكنائس المحليّة. 

 

تاريخ الكتابة:

لقد اجتمع التقليد والعلم هذه المرّة على اعتبار انجيل يوحنّا هو الأنجيل الأحدث، كتب بعد الأناجيل الثلاثة الأخرى.  إنّما هل من السهل إعطاء تاريخ دقيق لكتابة الإنجيل الرابع كونه من اكثر الأناجيل الّذين عرفوا اضافات على مرّ حوالي نصف قرن؟

 

العديد من علماء الكتاب المقدّس ينسبون الإنجيل الرابع الى القرن الثاني، منهم في فترة ما بين 100 و 125، ومنهم بين 130- 140، أو 140-155، ومنهم من وصل الى 160-177.

 

ما الّذي دعا هؤلاء العلماء الى تأخير فترة كتابة الإنجيل الرابع الى القرن الثاني، والى النصف الثاني من القرن الثاني بالتحديد؟

 

السبب الأوّل هو جهل الآباء الرسوليّين (أي آباء الكنيسة الّذين عايشوا الرسل أو تتلمذوا لهم) لهذا الإنجيل وعدم الرجوع اليه في كتاباتهم.  والسبب الثاني هو اللاهوت المسيحانيّ العميق والمتقدّم الّذي قد احتاج الى فترة طويلة نسبيّاً ليختمر ويتوضّح.

 

ففي الكتابات المسيحيّة الأقدم، مثل رسالو اقليمنضوس الرومانيّ الأولى، رسائل برنابا، الديداخيه، اغناطيوس الإنطاكي، راعي هرماس وأناشيد سليمان لا نجد استشهاداً، ولو غير مباشر، لآيات من إنجيل يوحنّا.

 

نجد في المقابل استشهاداً بيوحنّا عند ثيوفيلوس الإنطاكيّ، أي حوالي العام 180، وقبله بعشرين عاماً استعمل تاتيانوس يوحنّا حين كوّن الدياتسّرون، واضعاً في نصّ واحد نصوص الإنجيل الأربعة مكمّلاً ما نقص عند واحد بما أورده آخر.  بالتالي نستنتج أن الإنجيل الرابع كان موجوداً عام 160.

 

إنّما يغالط هذه النظريّات وقائعٌ ظهرت على الملأ مع عند اكتشاف أجزاء مخطوطات بردى تحتوي على مقاطع من إنجيل يوحنّا، وتعود هذه الأجزاء الى أوائل القرن الثاني، حوالي العام 100.

 

من الناحية المقابل، يقدّم تيّارٌ علميّ آخر نظريّة تقدّم كتابة يوحنّا تاريخيّاً على سائر الإناجيل، إذ يظهرون أن يوحنّا لم يعتمد على الأناجيل الأخرى لأنه كان يجهلها، أو على الأرجح لأنّها لم تكن قد خُطَّت بعد.  ويعتمدون على الرؤية البدائية لشخص يسوع إذ يعطيه يوحنّا لقب "رابي" أي معلّم، وهي صفة تتلازم مع المفهوم الكريستولوجي في فترته البدائية قبل أن تتّضح جيّداً بالنسبة للكنيسة هوّية يسوع الحقيقيّة، أو يشدّد على دور يسوع كنبيّ مثل موسى، ويظهر إيماناً مسيحيّاً لا يزال متجذّراً بالديانة اليهوديّ.  كما انّه يتكلّم عن الهيكل غير المدمّر بعد (يو 5، 2)، وبالتالي يكون الإنجيل قد كتب قبل دمار الهيكل عام 70. 

 

يظهر أخرون نقاطاً في يوحنّا تشير الى تأثير ما لجماعات قمران على الإنجيل، وهذه الجماعة قد زالت عن الوجود مع الهيكل عام  70.  آخرون يعتمدون على النقاش الدائر حول شخص يوحنّا المعمدان ويروا في هذا الأمر صدى لصراع ما كان قائماً بين تلاميذ يوحنّا وتلاميذ يسوع، ويضعوا تاريخ كتابة الإنجيل الرابع في هذه الحقبة، أي 40- 60.  إنّما هذه كلّها إثباتات غير كافيّة، لأنّ الإنجيل الرابع قد كتب على مراحل عدّة واستقى مصادره من تقاليد شفهيّة، قد تعود الى حقبة الجدل المعدانيّ- المسيحانيّ، أو مصادر تاثّرت بشكل ما بتعاليم قمران، ووصلت الى الإنجيل عبر تقليد شفهيّ دخل النصّ الإنجيليّ حين كتابة الإنجيل.

 

هناك إشارة واضحة يمكنها أن تحدّد لنا الحدّ الزمنيّ الأدنى لكتابة الإنجيل: نجد في إنجيل يوحنّا 9، 1- 41 في رواية شفاء الأعمى إشارة الى قرار إتّخذه اليهود بأن كلّ من يعترف أن يسوع الناصرّي هو المسيح يخرج من المجمع.  ونجد عدّة إشارات لهذا الواقع في يوحنّا مثل 9، 22؛ 12، 42؛ 16، 2).  إن الكلمة المستعملة "aposunagogoi" أي الّذين هم خارج المجمع، تشير ليس الى عقوبة تأديبيّة مؤقّتة، إنّما الى طرد نهائيّ، وهذه الروايات الإنجيليّة هي صدى للواقع التاريخيّ الّذي تمّ بعد موت وقيامة يسوع المسيح، مع الإنفصال النهائيّ بين المجمع والكنيسة.  مع مجمع يمنيا قام اليهودّي صموئيل الصغير بإضافات الى مجموعة البركات اليهوديّة، ومنها البركة ضدّ الهراطقة، تقول: "لا يكن رجاء للمرتدّين، وليقلع حكم المتكبّرين من جذوره في أيّامنا.  وليُدمّر النصارى والهراطقة في لحظة واحدة ولتُنزع أسماؤهم من كتاب الحياة ولا تكون مع أسماء الأبرار.  مبارك أنت يا ربّ، يا من خفضت المتكبّرين"[1]، هذه الإضافة قد تمّت عام 85 فلا بدّ أن يكون تاريخ كتابة الإنجيل الرابع تالياّ لهذا التاريخ.

 

هكذا يمكننا أن نضع الإنجيل الرابع بين العام 85 والعام 100- 120، إذا ما استندنا الى مخطوطات البردى وجعلناها حدّنا الأقصى

 

 مكان الكتابة:

إن أقدم الشهادات تنسب الى افسس مكان كتابة الإنجيل، وذلك بسبب مسألة يوحنّا الشيخ وعلاقته بأفسس وبكنائس آسيا الصغرى.  علماء آخرون يرون في الإسكندريّة مكاناً محتملاً وذلك بسبب التشابه أحياناً بين أفكار الإنجيل الرابع وعباراته وبين الفكر الأفلاطونيّ الحديث، وأفلوطين تحديداً، وبسبب بعض العناصر التي يمكن أن نجدها أيضاً في رسائل برنابا والرسالة الى ديوجنيس والتي كانت متداولة في الوسط الإسكندريّ الغنوصيّ، بالإضافة الى أننا نجد أقساماً من الإنجيل الرابع في بعض مخطوطات البردى الإسكندريّة المنشأ.  ما يعزّز هذه النظريّة هو كون الإسكندريّة واحدة من المدن ذات الوجود اليهوديّ الكثيف، حيث كانت تتواجد جميع التيّارات والمدارس اليهوديّة وحتى الجماعات السامريّة.  وكلّ هذه التيّارات نجد لها صدى واسع في إنجيل يوحنّا.

 

إنّما هذه الإعتبارات وحدها لا تكفي، إذ يمكننا ان نجد مخطوطات اسكندريّة تحتوي الأناجيل الأخرى ذات المنشأ غير الإسكندريّ، كما أن الجماعات اليهوديّة كانت متوافرة في مدن أخرى أيضاً مثل انطاكيا وروما.

 

أمّا التيار السريانيّ القديم فقد نسب الإنجيل الرابع لمدينة إنطاكيا، وهناك شهادة نجدها في النصّ الأرمنيّ لشرح مار افرام السريانيّ لدياتسّرون تاتيانوس يقول فيه "أن يوحنّا كتب في إنطاكيا حيث عاش الى أن ارتقى تريانوس العرش".  أن العناصر الآراميّة التي تكلّمنا عنها سابقاً، بالإضافة الى قرب أسلوب الإنجيل من أسلوب إغناطيوس الإنطاكيّ ومن أناشيد سليمان ومن محتواهما أيضاً، جعل بعض الدارسين يتبنّون فكرة أن الإنجيل الأصلّي قد كُتب بالآراميّة ومن ثمّ تُرجم الى اليونانيّة، إنّما هي نظريّة غير مؤكّدة وغير مرجّحة حتى.

 

هناك من يربط الإنجيل الرابع بفلسطين نفسها، بسبب محتواه وبسبب عناصر مشتركة مع أدب قمران، ولأنّه يشدّد دوماً على العلاقة مم السامريّين أو على التيّارات اليهوديّة المختلفة وعلى الصراع بين المجمع والكنيسة.  يبدو من الإنجيل أن قرّاء هذا الإنجيل هم يهود سابقون، والإنجيل يوجّه اليهم، بينما البعد الإرساليّ الى الأمم يحتل مركزاً ثانويّاً وهامشيّاً احياناً.  إنّهم جماعة في صراع مع السلطات اليهوديّة.

 

أن نقول ان في الإنجيل الرابع عناصر فلسطينيّة هو ليس أمراً مستبعداً أو مستحيلاً، بما ان الإنجيل الرابع يستند على مجموعات شفهيّة قد يكون مصدرها فلسطين.  إنّما كيف نشرح المفهوم اللاّهوتي أو الكريستولوجي أو النظرة الى الملكوت المختلفة جذرياً عن العقيدة اليهوديّة، وكيف نشرح العناصر اليونانيّة القريبة الى الأفلاطونيّة الحديثة أكثر منها الى المنطق الساميّ، وكيف نفسّر منطق "الكلمة" logos اليونانيّة؟  الم يكن اليهود والسامريّون موجودين في العالم اليونانيّ الرومانيّ القديم خارج فلسطين بعد العام 70؟ ألا تضطرّنا نظريّة المصدر الفلسطينيّ الى تقريب تاريخ الكتابة الى ما قبل العام 70؟ أيمكن شرح المعضلات التيّ تتاتى عن نسبة الإنجيل الرابع الى هذا فترة مبكّرة؟

 

على الأرجح ان هذه العناصر اليهودّية الفلسطينيّة قد نبتت في المجتمع الإسرائيليّ، إنّما عرفت بدورها الهجرة، فالعناصر الروائية يمكن أن تكون قد انتقلت من فلسطين الى إنطاكيا مع دمار اورشليم، فتطعّمت هناك بالعناصر الإنطاكيّة الساميّة واليونانيّة، ثم وصلت الى أفسس حين جُمعت في نص الإنجيل الرابع، إنجيل سوف يحتاج لعشرات السنين الأخرى ليكتسب الشكل الحاليّ الّذي هو بين أيدينا اليوم.

 

مصادر إنجيل يوحنّا:

لا يمكننا ان نأخذ أقوال بابيّاس واقليمنضس الإسكندريّ حرفيّاً لنؤكّد أن يوحنّا الرسول قد كتب الإنجيل الرابع بكامله ودفعة واحدة كمذّكرات لما شهده حين كان في رفقة الرّب.  إنّما ما يقوله إقليمنضس وقانون موراتوري حول تشجيع سائر الأساقفة والرفاق، وطلب يوحنّا منهم أن يضعوا معاً ما يذكرونه من الأحداث يشير الى إمكانيّة أن يكون إنجيل يوحنّا هو نتاج معقّد لمجموعة من المصادر جمعت لاحقاً في نصّ الإنجيل الرابع ثم أضيفت اليها عناصر أخرى.  من الشهادات الأقدم نستنتج أن هذه المصادر كانت شفهيّة. ولا يمكننا أن ننفي أيضاً تأثير الأناجيل الأخرى على الإنجيل الرابع سيّما وأنّه قد كُتب بعدها ولا بد أنّها كانت قد وصلت الى جماعة يوحنّا وقرأتها.

 

إن البحث في مصادر الإنجيل الرابع هو أمر معقّد ويبقى دوماً في إطار النظريّات والتحليلات، فلا يقدر أحد أن يزعم أنّه يقدّم الحقيقة كاملة، نظراً لصعوبة الأمر وتعقيداته.  فماذا يمكننا أن نقول في هذا الأمر؟

 

-        تأثر يوحنّا بالأناجيل الإزائيّة: لقد كُتب الإنجيل الرابع بعد كتابة الأناجيل الأخرى، والسؤال المطروح هو حول أمكانيّة اعتماد يوحنّا على الأناجيل السابقة، وإن جزئيّاً، كمصدر معلومات لإنجيله كما اعتمد متّى ولوقا على إنجيل مرقس قبله؟  يجد بعض العلماء أن هناك نقاطاً في يوحنّا تشير الى اعتماده على مرقس، من ناحيّة اللّغة ومن ناحيّة التصميم، وإن كان هذا الإعتماد جزئيّاً ومحصوراً.  أنّما يبقى التساؤل: هل إنّ هذا التشابه مردّه الى اعتماد يوحنّا على الإزائيّين (ومرقس تحديداً) أم لسبب آخر ممكن، كاستقاء يوحنّا لمعلوماته من تقليد شفهيّ مشترك؟  فإن كان يوحنّا يعتمد على مرقس كيف نشرح الإختلاف الكبير في ما يتعلّق بأحداث جوهريّة في العهد الجديد، مثل دعوة الرسل واعتراف بطرس (الإعتراف المسيحانيّ في مرقس 8، 27- 29 وقدّوس الله في يوحنّا 6، 66-71)، وفي إطار محاكمة يسوع يورد يوحنّا أن حنّان يرسل يسوع الى قيّافا بينما المحاكمة تتم أمام حنّان عند مرقس؟  إن المشترك بين الإثنين هي الحقيقة التاريخيّة التي حملها التقليد الشفهي الخاصّ بكلّ من التقليدين: الإزائيّ واليوحنّوي، إنّما هذا التشابه لا يعطينا مبرّراً لنقول أن يوحنّا قد اعتمد على الإزائيّين كمصدرٍ لرواياته.  قد يكون كاتب الإنجيل الرابع قد إطّلع على انجيل مرقس، إنّما هذا لا يؤكّد تعلّق يوحنّا بمرقس كمصدر له، بل قد يكون قد أخذ هذه الروايات بعين الإعتبار في إطار تدوينه لرواياته الخاصّة، أو من الممكن أيضاً أن يكون قد أخذ روايات الإزائّيين التي اطّلع عليها وطوّعها لرؤيته اللاهوتيّة ليضعها في خدمة حاجات جماعتها الخاصّة.  قد يكون من الممكن أن يوحنّا قد ارتكز على مصادره الخاصّة، لا سيّما في ما يتعلّق بروايات "الآيات" و "الأقوال"، واخذ بعين الإعتبار بعض العناصر الإزائيّة إنّما دون أن يدرجها كما هي في إنجيله، حفاظاً على الهدف التبشيريّ الخاصّ بالجماعة اليوحنّوية التي لا تتطابق بالضرورة احتياجاتها اللاهوتيّة والراعويّة مع احتياجات الكنائس الّتي وُجّهت اليها الأناجيل الأخرى.  فتطوّر النصّ اليوحنّوي على مرّ سنوات تكوّنه الطويل قد تمّ بمعزل عن التاثير الإزائيّ المباشر، فوراء نصّ الإنجيل الرابع يكمن تقليد تاريخيّ خاص بالتراث اليوحنّوي لا يمكننا ان ننسبه بسهولة الى تأثير الأناجيل الإزائيّة.

 

-        مجموعة مصادر مستقلّة أضيفت الى نصّ أوّلي للإنجيل

 

o       مجموعة التجلّي: إن مقدّمة الإنجيل تبدو مستندة الى نوع شعري وهي على الأرجح متأخرّة عن الأجزاء الروائية التالية.  يعتقد بولتمان أن المقدّمة في الأصل كانت تمهيداً لمجموعة من الخطب الإعلانيّة، أي التي يعلن فيها المسيح حقيقته الإلهيّة، وهي على الأرجح من أصل آراميّ ذات صلة بمحيط يوحنّا المعمدان.

 

o       مصدر أخر كان في أساس مجموعة الآيات (semeia)، دعاه بولتمان مصدر الآيات (Semeia Quelle)، وهي مجموعة تطلق دوماً على أعاجيب يسوع كلمة آيات (semia) وتظهر نظرة بدائية لعجائب يسوع قريبة من المفهوم الميتولوجيّ اليونانيّ وتعطي صورة يسوع شبيه بالإنسان- الإله اليونانيّ (Theios aner)المجترح المعجزات، استعملها يوحنّا وأدخل لاهوته من خلالها.  ونجد هذا في عرس قانا الجليل، حيث نجد تشابهاً كبيراً في الرواية الأصليّة بين يسوع وباخوس أله الخمر، أنّما في شكل النصّ النهائي نجد أن الكاتب استعمل هذه العناصر ليعلن ألوهة يسوع ورفعته فوق الآلهة الميتولوجيّة اليونانيّة.

 

o       مصدر روايات الآلام، مختل

صور