مقالات
١٠‏/٢‏/٢٠١٤ Fiat Lux | أنطوانيت نمّور

الصنم الأخير

فيما تعمّ العديد من كنائسنا فرحة الإحتفالات بعيد "مار مارون"؛ غير أننا نشهد بأسف كيف نحوّل في مرات كثيرة زهد حياة هذا القديس إلى حكايةٍ لا روح فيها، تُسرد فنتلقّاها من باب العادة التي فقدت وهج قلوب قاصدي ذاك الناسك القديس على جبال قوروش. متعبّدًا كان مارون ومجتهدًا في الأصوام والصلوات والليالي الساهرة والركوع والسجود لإنّه عرف أنّ رحلة حجنا الروحية ليست سوى القضاء التدريجي على أصنامنا الواحد بعد الآخر. لا ينتصر إيماننا ولا يستريح إلا بتدمير تلك الأوثان حتى الوصول إلى ذاك المكان المقدس حيث وحده الله يسود كحاكم على القلوب. إختبر مار مارون قدس الأقداس ذاك حيث بنعمة الإيمان وجهاد الأعمال يُسمع جليًّا تسبيح الرب هو الله وتصبح إرادة الأنسان متحرّرة بالإستسلام الكلّي لله.

 

ولرُبَّ سائل عن أيّ أوثان نتكلم  مستهجنًا وجودها في حياة المؤمن؟! والحقيقة تكمن في أنّ الصنم هو أي شيء يستهلك الفكر والحياة ويمنعنا من محبة الله من كل قلبنا، وعقلنا وقوّتنا. وما أكثر ما يستعبدنا: كبرياؤنا، مجد العالم الباطل، المال، والتساهل المفرط في ملذات الحياة...

 

وممّا لا شك فيه أنّ فعل تحطيم الأصنام هذا يحمل تحدّ مؤلم وقليلون مَن ينجحون بالوصول إلى خواتمه السعيدة: فالبعض مِنّا لا يناسبه ألم التحرّر، وآخرون سوف يعيشون حالة إنكار دائمة مِن وجود هكذا أصنام في حياتهم. بعض مِنّا سيضفي عليها سببًا وجوديًّا يحتِّم "منطقيًّا" حكمها على حياته، فيما البعض الآخر سيتخلّص مِن عدد منها وسيبقى أسير أوثان أخرى... وممّا لا شكّ فيه أنّ الجزء الأكثر صعوبة يكمن في القضاء على ذاك الصنم الأخير المتبقي على قيد الحياة. فعندما يتعلّق الأمر به يعاند المؤمن: أنّها المساومة... سيقول لله، "لا أقوم بأي أشياء سيّئة ولكن هذا هو الشيء الوحيد الذي يعطيني بعضًا مِن الّلذة. لماذا لا يمكنني الشرب؟ لماذا لا يمكنني التدخين؟... لقد تخلّيت عن كلّ شيء آخر وأنت إله رحيم لن يغضبك أنْ أحافظ على ضعفي الوحيد الصغير..."  كان ولع سليمان بالنساء آخر أصنامه، وكانت قوّة وإغواء الملكة إيزابيل آخر أصنام زوجها... وكلّ ذلك لم يجلب سوى حصاد الخطيئة: المحن والمصائب. كلّ مؤمن يجب أنْ يعي أنّ هذا الصنم الأخير قد يلغي التعب الكبير ويمنعه من التمتّع بالحياة مع الله!!

 

نعم إنّ استكمال التدمير التام لكلّ أوثان حياتنا سيبقى أكبر حجر عثرة لإتمام الخطوة التاسعة والتسعين المؤدّية إلى جبل الربّ...

 

وعند هذه الخطوة بالذات نجح زهد أبينا الروحيّ مارون: تخلّى عن كلّ ما يعرقل مسيرته وبقي حتّى المنتهى متأصِّلاً بالكلمة المقدّسة والجِهاد الروحيّ والأمانة لأسرار الكنيسة وتعاليمها. فلا ما يبهجه ليستقرّ عنده غير السيّد المسيح سرّ بهجته الحقيقيّة وهدف مسيرة حياته الأرضيّة. فذاع صيته في الآفاق كلّها، وتقاطرت إليه الناس مِن كلّ جانب، وكان جميعهم قد علموا بالاختبار أنّ ما اشتهر عنه من الفضائل صحيح وإنّ نعمته الربّانيّة لم تقتصر على شفاء أمراض الجسد بل كان تبرّئ أيضًا أمراض الروح. لقد حطّم مار مارون كلّ الأصنام، ولم يستبقِ لنفسه أيّ مِن أوثانه الصغيرة ففاضت نعمة الرب إبتداءً من أعتابه في هذه الدنيا ولا زالت تفيض في حياته الأبديّة.

 

لا تقوم حريّة الإنسان على القيام بما يريد، بل على مواجهة الموت، لا الموت الأخير، بل ذلك الموت اليوميّ الذي تفترضه علينا أصنامنا. مع مار مارون نحن اليوم مدعوّون لتحطيم آخر الشواهد على استعبادنا مِن أجل الأمانة لشاهد لحريّة الله الأزليّة: مَن فضّل الموت على إنكار نفسه وحبّه لنا... اليوم، مع مارون (السيّد) حبّذا لو نختار درب موران (سيّد السادة)!!

صور