مقالات
١٠‏/٥‏/٢٠١٠ تعليم الكنيسة | الأب بيار نجم ر.م.م

دور مريم في حياة المسيحي

لماذا إكرام مريم؟

يعلّمنا الكتاب المقدّس أن العبادة لا تجوز إلاّ لله وحده. ففعل العبادة يعني الإعلان، من خلال الفكر والقول والعمل، أنّ الله هو مصدر وجودي، وأنّي بكّلّيّتي متعلّق به. لا يمكن أن أكون موجوداً ولا أن استمرّ بالوجود إلاّ بنعمة منه وحده.

 أمّا في ما يتعلّق بالعذراء والقدّيسين مهما على شأنهم، فأنا لا أعبدهم، بل أكرّمهم. إن فعل الإكرام يختلف تماماّ عن فعل العبادة، أكرم القدّيسين في حياتي الروحيّة والليتورجيّة، لأنّهم إخوة لي في الإنسانيّة دخلوا مجد السماء وكانت حياتهم مثالاً كاملاً في حبّ الله، لذلك استحقّت حياتهم أن تكون مثالاً لي كمسيحيّ، تساعدني إن اقتديت بهم، على السير على دروب القداسة.

الشفاعة والوساطة: حين نعلن أن العذراء أو القدّيسين هم شفعاء لنا، نعني بقولنا أنّهم يصبحون وسطاء لنا لدى الآب. ولكن هل يجوز أن نفهم في هذا القول أنّ الشفاعة هي محاولة بشريّة لتغيير رأي الله، فالله يحبّنا أكثر من أي كائن آخر، ولا يحتاج الى من يذكّره بمحبّته لنا وبحاجتنا اليه. إنّ الشفاعة هي ليست محاولة لتغيير رأي الله ليخّلصنا بدلاً من معاقبتنا، بل هي مشاركة إنسانية في الخلاص الإلهيّ. من خلال طلب الشفاعة نفهم ان الله يشركنا في خلاصه للإنسانيّة من خلال الصلاة. إن القدّيسين، وبنوع خاص والدة الله مريم، يشاركون الله في مجده السماويّ، وبصلاتهم لنا يشاركوننا مصيرنا الإنسانيّ ويشاركون الله في رغبته في خلاص البشريّة. صلاتهم لنا لا تعني محاولة تغيير رأي الله، بل هي مشاركة معه في خلاص كلّ واحد منّا. من خلال شفاعة القدّيسين يخلق الله رباط محبّة مع إخوتنا القدّيسين الّذين يشاركون الله في مجده، وبالتالي نصبح كلّنا مرتبطين معاً في رباط من محبّة لا ينقطع.

لا يمكننا أن نفصل دور مريم عن دور ابنها، فأهمّية مريم تأتي من أهميّة دور ابنها في خلاص بشريّتنا، فبإكرامنا الأمّ نكرم الإبن، وما كان ممكنا أن يكون لشخص مريم أهمّية تُذكر لولا وجود ابنها، المخلّص الأوحد لجنسنا البشريّ. فالله القائل بإكرام الأب والأم، كيف لا يطلب منّا أن نكرم تلك التي صارت أمّ الله بالجسد؟ ففي سفر الخروج نقرأ:  أكرم أباك وأمّك لكي يطول عمرك في الأرض التي أعطاك إياها إلهك (خر 20، 12)، ومن ضرب أباه وأمه فليُقتل قتلا (خر 21، 15)، Ex 21,17 ومن لعن إباه وأمه فليُقتل قتلا (خر 21، 17)، وفي سفر اللاويين يقول الرّب: " ليحترم كل إنسان أباه وأمه  و احفظوا يومي المقدس أنا الرب إلهكم" (لا 19، 3).

إكرام الأم هو إكرام للإبن، والعهد القديم يعطينا مثلاً جميلاً عن كلمة الأم المقبولة التي لا يرفضها الملك ابنها، ففي سفر الملوك الأوّل نقرأ: " فدخلت بتشابع على الملك سليمان فقام الملك لإستقبالها وسجد لها ثم جلس على عرشه ووضع عرشا لأم الملك فجلست عن يمينه. وقالت إنما أسألك حاجة واحدة صغيرة فلا ترفض طلبي فقال لها الملك أطلبي فأنا لا أرفض طلبك" (1مل 2، 19). فإن كان الملك الأرضي لا يرفض لأمّه طلباً فكم بالأحرى الملك السماويّ، ربّنا المسيح يسوع؟

أمّا العهد الجديد فيقدّم لنا حدث عرس قانا، حين تمّم الرّب معجزته الأولى بطلب من الوالدة العذراء، من مريم التي حملت حاجة العروسين الى السيّد، واشتركت في رغبته الخلاصيّة. إن عرس قانا يشرح لنا معنى شفاعة القدّيسين: لقد طلبت من الرّب، ولكنّها أيضاً علّمت التلاميذ أن يفعلوا ما يأمرهم الرّب به.

الإكرام هو اقتداء، بإكرامنا القدّيسين نحاول أن نقتدي بحياة بطولة عاشوها ليستحقّوا الدخول مجد الرّب. وباكرامنا للعذراء نحاول أن نقتدي بسيرتها لنكون نحن أيضاً، على مثالها، حاملين للرّب في قلوبنا كما حملته هي في أحشائها:

مريم هي صورة كلّ واحد منّا في علاقته مع الربّ يسوع، فهي سمعت دعوة الله لها لتدخل في مخطّطه الخلاصيّ، فآمنت وأطاعت. هي لم تفهم كل شيء دفعة واحدة، ولكن رغم عدم فهمها الكامل كان لمريم إالثقة بالله والإيمان بقدرته على التدخل في حياتها وتركت له مجال العمل في حياتها. بإكرامنا لمريم، نحاول أن نتعلّم منها قوّة الثقة بالله الّذي يحبّها وبحبّنا: كم من المرّات نتردّد إزاء دعوة الله لنا، لأنّنا لا نثق به كفاية لنضع مصيرنا بين يديه، أمّا مريم فكانت على ثقة بأن الله يحبّها، ويحضّر الأفضل لها وللبشريّة بأسرها، لذلك لم تخف من أن تسلمه حياتها كلّها.

مريم هي أيضاً تلميذة إبنها يسوع، ففي مسيرة نموّها الرّوحيّ، فتحت مريم باب قلبها على سرّ ابنها الموجود في داخلها، وتعرّفت عليه أكثر فأكثر، لم تخش المجازفة والإنطلاق. لقد احتاجت الى حياة جهاد بطوليّ لتتعرّف على أسرار ابنها الإله والإنسان. ولم تقتصر معرفتها على البعد العقليّ والمعرفيّ، بل اجتازته ايضاً الى البعد العمليّ، فسمعت كلام ابنها وتأمّلت به في قلبها وطبّقته في حياتها، فصارت التلميذة الصامته التي تنشر حبّ المسيح وخلاصه في الكون بأسره.

هذه التلميذة المطيعة قد صارت معلّمة للتلاميذ في كيفيّة الإقتداء بابنها وربّها، فهي التي قالت: "افعلوا ما يأمركم به"، دعوة لنا كلّنا اليوم للإقتداء بالرّب والعمل بما يأمرنا به، فهو وحده يقدر أن يحوّل ماء نقصنا الى خمرة فرح، خمرة الخلاص الأبدي.

إن إكرامنا لمريم يرتبط بعبادتنا لإبنها، فلا قيمة لمريم إذا فصلناها عن سرّ المسيح. أمّا ما ندعوه عادة "العقائد المريميّة"، فهي في الحقيقة عقائد ترتبط بسرّ المسيح، ولا قيمة لها خارج سرّ المسيح ومخطّطه الخلاصيّ. لذلك سوف نعرض أهم أحداث حياة مريم والعقائد "المريميّة" لنفهم أكثر أهميّة شخص مريم في سرّ المسيح وفي عمله الخلاصيّ من أجلنا.

 

مولد العذراء

يقول سفر المزامير: "إن إنتظار نفسي للرب أشد من إنتظار الرقباء للصبح والساهرين للفجر" (مز 130). بهذا نفهم معنى أهمّية حدث مولد العذراء. لولا المسيح، لكانت ولادة مريم كولادة المئات من بنات مدينتها، وكآلاف الولادات من بني شعبها، ابنة تضاف الى عداد شعب الله واسم آخر يسجّل في سجلاّت جماعات اسرائيل. إن أهميّة ولادة العذراء يرتبط بأهميّة ولادة ابنها في المستقبل، لذلك قلنا: " إن إنتظار نفسي للرب أشد من إنتظار الرقباء للصبح والساهرين للفجر"، فولادة العذراء هي الفجر، والفجر ليس هو الشمس، بل هو النور الّذي يكبر رويداً رويداً معلنا قرب وصول الشمس. ومريم هي مثل الفجر الّذي يشير الينا الى أن شمس خلاصنا بدأت تطلع، وأن نور مخلّصنا بدأ يكبر. مريم هي علامة رجاء للبشريّة، لأنّ ولادتها هي تمهيد لولادة الطفل الّذي سوف يعطينا الخلاص.

إكرامنا للعذراء هو مثل التطلّع الى الفجر يبزغ. من منّا لم يختبر ليل قضيناه في مستشفى، في الليل، حين تخفت كلّ الأصوات حولنا ونبقى وحدنا مع ألمنا. صمت الليل هذا يضعنا أمام أنفسنا، أمام خوفنا، أمام موتنا. ولكن الرجاء يعود الى قلبنا حين نبدأ برؤية الفجر يولد، يشير الينا الى أن الشمس سوف تسطع قريباً، والحياة سوف تدبّ على الأرض وحولنا من جديد، سوف نسمع أصوات أحبّائنا، ونرى من حولنا أخرين يعزّوننا في ألمنا ويخّففون عبء الوحدة التي نشعر بها. هكذا نفهم ميلاد السيّدة العذراء، هي الفجر يسطع معلناً: لقد اقترب وصول شمس البرّ والقداسة، شمس الخلاص والحبّ، شمس المسيح المخلّص. لهذا ننادي المسيح في الليتورجيا المارونيّة قائلين: "يا شمس البرّ الخارج من مريم، الفجر الحقّ، على ظلام هذا العالم لتنيره".

 

الرسالة

إن طفولة مريم هي صورة روحيّة لكلّ واحد منّا، فالطفل هو رمز للبراءة وللإتّكال:

مريم الطفلة الرضيعة هي صورة للكائن الرّوحيّ الّذي يجب أن نصل اليه، الكائن البريء، الّذي يرى جمال الخليقة وجودة البشر الآخرين. هي صورة الكائن الّذي لم يحوّله المجتمع والخطيئة الى كائن قاس، أنانيّ، ينتقم، يكره، يحقد، يشكّ ويقتل.

ولكّنها أيضاً صورة للإتّكال على الله الآب، فالطفل يستسلم بين يدي والده، يشعره بينهما بالآمان، لا يخشى السقوط، لا يتسائل أبداً إن كان والده سوف يجعله يسقط في لحظة ما. لأنّه يحبّ يثق، ولأنّه يثق يستسلم لإرادة والده. هو مثال لكلّ واحد منّا يعلّمنا معنى الإيمان، أن نحبّ ونثق ونستسلم بين يدي الآب ونقبل بإرادته، لا نطرح تساؤلات ولا نضع على الله شروطاً.

الطفولة هي أيضاً صورة للكائن المحتاج الى عناية دائمة، هي صورة للملكوت الّذي رغم قوّته الا أنّه يحتاج الى عنايتنا لكيلا يموت، تماماً مثل الطفل الّذي رغم جماله، هو معرّض للموت إن لم يهتم والداه به. مريم الطفلة هي صورة للملكوت الّذي قدّمه الله لنا والّذي يحتاج الى عنايتنا ليبقى حيّاً ولا نفقده بخطيئتنا.