عظات
٥‏/١٠‏/٢٠١٦ أسبوع الآلام | الأب بيار نجم ر.م.م

الجمعة العظيمة

تبارك ذاك المساء الّذي بدّل حقيقة وجودنا التافه، تباركت تلك الساعة السادسة التي قلبت مقاييس حياتنا وأنظمتها الكئيبة، تبارك ذاك المصلوب على خشبة، متألّماً، مشوّهاً، نازفاً وجريح القلب بحربة خطيئتنا.

(يو 19 /31-37)

إِذْ كَانَ يَوْمُ التَّهْيِئَة، سَأَلَ اليَهُودُ بِيلاطُسَ أَنْ تُكْسَرَ سِيقَانُ الـمَصْلُوبِينَ وتُنْزَلَ أَجْسَادُهُم، لِئَلاَّ تَبْقَى عَلى الصَّليبِ يَوْمَ السَّبْت، لأَنَّ يَوْمَ ذلِكَ السَّبْتِ كَانَ عَظِيمًا. فَأَتَى الـجُنُودُ وكَسَرُوا سَاقَي الأَوَّلِ والآخَرِ الـمَصْلُوبَينِ مَعَ يَسُوع. أَمَّا يَسُوع، فَلَمَّا جَاؤُوا إِلَيْهِ ورَأَوا أَنَّهُ قَدْ مَات، لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْه. لـكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الـجُنُودِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَة. فَخَرَجَ في الـحَالِ دَمٌ ومَاء. والَّذي رَأَى شَهِدَ، وشَهَادَتُهُ حَقّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الـحَقَّ لِكَي تُؤْمِنُوا أَنْتُم أَيْضًا. وحَدَثَ هـذَا لِتَتِمَّ آيَةُ الكِتَاب: "لَنْ يُكْسَرَ لَهُ عَظْم". وجَاءَ في آيَةٍ أُخْرَى: "سَيَنْظُرُونَ إِلى الَّذي طَعَنُوه".

فوق تلك الجلجلة انفتحت أعيننا، وعرفنا كم هو ثمين ذاك الآدم الخاطيء الشريد المطرود، لقد نال الفداء بدم الحمل الأزلّي المذبوح.  كلمة الله التي خرجت من فم الله وحضنه منذ الأزل، كلمة الله الخالقة والمحيّية، هي اليوم الكلمة المذبوحة المتألّمة الفاديّة.  لقد أخذ الله صورتنا ليجدّد صورته فينا. صورة المسيح المشوّه، المثخن جراحاً، المتألّم والمعذّب هي صورة إنساننا نحن، إنساننا الرازح تحت الخطيئة، أدمته أشواك المعصيّة، فقد جمال البنوّة الإلهيّة، وصار قلبه نازفاً، لاهثاّ وراء حبّ لا يحصل عليه، وراكضاً إثر خلاص لا يجده.

 

لقد أخذ المسيح صورتنا هذه ليعطينا من جديد صورة أبناء الله، مات ليعطينا الحياة، فتح قلبه ليهبنا الحبّ كاملاً، طاهراً، مجانّياً وفادياً.  لقد أخذ موتنا ليعطينا حياته.

 

صرخ صرخة عظيمة وأسلم الرّوح: هو الصامت دوماً، أمام القضاء لم يفتح فاه، لم يصرخ تحت وقع السوط يجرح جسمه الطاهر، لم يصرح لحظة عرز المسامير في يديه الخالقتين، لم يصرخ عندما كُللت هامته بالشوك أو ضُربَ على رأسه بقصبة، لقد صرخ حين أسلم الروح.

 

هي أعمق صرخة يطلقها وجودنا البشريّ حين لا يجد جواباً على السؤال الأكثر حلوكاً يطرحه كلّ يوم: "لماذا الموت وماذا بعد الموت؟" لقد حمل الرّب صرختنا هذه وقدّمها الى أبيه مع رفع يديه في أعظم تقدمة من تقادم المساء.  لقد أعطانا المسيح الجواب بموته، لم يقدّم نظريّات تقنع ربّما إنّما لا تعطي القلب طمأنينته المنشودة، بل قدّم ذاته مائتاً ليقول لنا أن الموت ليس نهاية لكلِّ شيء، فما هو إلاّ البداية، هو الدخول في علاقة حبّ لا تنتهي ولا ترتوي، تستمر أبديّة متجدّدة في معاينة وجه الله والعيش معه في البيت الوالديّ.

 

إنّما هي أيضاً صرخة من لا صوت لهم، من يمنعهم بيلاطس المعاصر وقياّفا العالم الحديث من إيصال صوتهم: إنّهم ملايين البشر يموتون كلّ يومٍ جوعاً وظلماً وبسبب الحروب، إنّها صرخة الأمّهات اللواتي ترَين إبنائهنّ يموتون بين إيديهنّ، إنّها صرخة المتألّمين من جور الإضطهاد والتمييز والتفرقة، إنّها صرخة المظلوم يأكل الأقوياء حقّه، إنّها صرخة الوالد لا يقدر أن يسدّ رمق أبنائه، إنّه صراخ الإنسان التي يمتهن البشر كرامته وجسده وقيمته، يُستعمل سلعة لإرواء شهوة، ويُرمى.  هي كلّها صرخات احتضنتها صرخة المسيح ذاك المساء.

 

صرخة المسيح هي صرخة التغيير، صرخة تدعو إنسانيّتنا الى العودة الى ذاتها، صرخة يوحنا يدعو الشعب للتوبة قد بلغت ملأها بصرخة يسوع يدعونا للعودة عبر موته الى صداقتنا مع الله.  فلا نتركنّ موت المسيح عقيماً، لنجعل من جرح قلبه بوابة عبور الى الله أبينا، نعود مع يسوع الى تلك الصداقة، فيسوع قد مات لنضحي لله أبناء وأصدقاء.

 

لقد علّمنا المسيح كيف نحوّل الألم من حالة يأس الى مصدر للخلاص.  فالمسيح على الصليب "لا منظر له يُشتهى كما يقول إشعيا ، مزذرىً ومرذول من الناس، كرجل أوجاع يحوّلون وجههم عنه، من يراه يخفي وجهه لكي لا يراه.  إنّها خطيئة الإنسان لا رغبة الله، فالله لا يريد الألم، وهو المحبّة المطلقة، هي خطيئة كلّ واحد منّا، خطيئة المعصية ورفض الله، خطيئة جعلتنا نتشوّه ونتألّم، جعلتنا نغرق في وحدتنا، نرغب شرّنا، نبتعد عن الله، وفي الإبتعاد عنه الألم والموت، دون الله نحيا في ظلمة وجود لا طعم له، يضحي كياننا جريحاً، نصير دون هدف ونفقد معنى الوجود.  ولأن الخطيئة كانت ضدّ الله، وحده الله يقدر أن يسدّد ثمن عدالتها، الإنسان أخطأ والإنسان الإله سدّد.  فوق الصليب دفع المسيح ثمن حريّتنا ومزّق صكّ عبوديّتنا، أعطانا الحريّة، ومع الحريّة أعطانا معنى جديداً للالم.

 

ألم المسيح هو نفسه ألم المريض يعاني وحيداً في ظلام الليل، ويجد أيامه تقارب نهايتها.  ألم المسيح هو نفسه ألم الأم تفقد وحيدها، ألم الأب يرى عائلته يخطفها ظلهم حرب وإرهاب، ألم المسيح هو الم الزوجة تفقد زوجها، ألم الأرملة واليتيم والشريد.  ألم المسيح هو ألم الفقير لا يقدر أن يسد رمق أطفاله.  ألم المسيح هو ألم الوالدين يرون أبنهم يضيع في متاهات حياة العبث والمخدّرات، وألم الفتاة تبيع جسدها لتحتمي من قسوة الحياة بقسوة من يشتريها أداة متعة.  ألم المسيح هو ألم عالمنا اليوم تجرح جمالَه حروب كثيرة، يملأه الحقد والدم والموت.

 

هو شرّ كلّه، شرّ لم تُعط له الكلمة الأخيرة، ولا النصر النهائي، فبالمسيح صار للألم معنى، كان شرّاً وشرّاّ يبقى، فالله لا يريد ألَمَنا، ولسنا مرضى لنفتّش عن الألم، إنّما نحن أبناء الرجاء، نؤمن بإله تألّم من أجلنا وانتصر على الألم، لم يبق معلّقاً على الصليب ولا ابتلعه الى الأبد ظلام القبر.  لقد حوّل المسيح الألم من مصدر يأس وهلاك الى وسيلة قداسة وبطولة: لقد مات ليعطينا الحياة، حوّل الشرّ الى خير، أستخرج من الألم حياة، حوّل اليأس الى تضحية، حول آلة موت العبيد الى آداة تحرير للآخرين.  فقط بالإيمان نفهم معنى ألمنا، وبالرجاء نقدر أن نغيّر اتّجاهه، وبالمحبّة نعطي الحياة للآخرين.  فداء المسيح للبشريّة يعلّمني أن أصليّ للمرضى حين أكون مريضاً، وأقدّم آلامي للمعوزين.  ألم يسوع يدعوني الى تحرير الآخرين من ألمهم، وإشراك المعوزين في خيراتي، وردّ الكرامة الى من أفقدهم المجتمع كرامتهم.

 

الصليب هو فعل طاعة للآب، فالمسيح الّذي قال: "طعامي أن أعمل مشيئة أبي" قد أطاع حتى النهاية هذه المشيئة، "لتكن مشيئتك لا مشيئتي" صرخت بشريّته في بستان الزيتون ليعلّمنا أن نثق بالآب، ونعلم أنّه يحضر الأحسن والأفضل والأقدس لكلّ واحد منّا.  يسوع المصلوب  يعلّمنا أن نثق بالله حين نكون في قمة ألمنا.  هذا ما فعله الربّ، وما فعله القدّيسون، وما يفعله اليوم إخوة لنا وأخوات، بدل ثورات الغضب يصلّون، وبدل اليأس يصبرون، ولأنّهم يحبّون، يعلمون أن لا يمكن للموت أن ينتصر.

إن موت المسيح يعطي المعنى الحقيقيّ للموت، ولو لم يمت المسيح لما كان لنا أي رجاء.  إلهنا إله يحبّ، ويتألّم لأنّه يحب، يشارك أحبّائه الألم، ويعلّمهم كيف يكون الموت بوابة عبور نحو الحياة.  لقد وُضعت علي قبر المسيح صخرةٌ كبيرة، وكم من صخور تحجب بصيص الأمل عن قلوبنا؟ كم هي ثقيلة صخور مشاكلنا وأمراضنا؟ نرزح تحتها ونقول: "ها هي النهاية، وما من خلاص".  لقد سدّت الصخرة باب القبر، وحاولت التهام الحيّ والمحيّي فكان كخميرة يزرع الحياة في عالم الموت.  حاول القساة إخماد نور المسيح، كما يخمد منطق العالم كلّ بصيص رجاء في قلوبنا، يضعنا في قبرٍ مظلم، يقيّدنا برغبات وأهواء وأحقاد تشدّنا الى منطق الظلام، الى منطق القبر والموت، وتحجب عن تفكيرنا حقيقة الحياة ومعناها.  هل يبقى عالمنا في ظلمة قبره؟ هل يبقى المظلوم مظلوماً، والجنين مجهضاً والعجوز لا قيمة له؟ هل يبقى الفقير عالّة والمتألّم ثقلاً علينا؟ هل نُبقي إخوة لنا وأخوات في ظلام قبر حياتهم، نسدّ قبرهم بصخرة حقدنا أو عدم مبالاتنا، ندفنهم في عدم اكتراثتنا لئلا يزعجنا صراخهم؟ موت المسيح دعوة لنا للتفتيش عن قيمة الحياة، وإعلان ثقافة الحبّ والتخلّي عن منطق العنف، فالعنف قتل المسيح البريء على الجلجلة ويقتل ملايين الأبرياء على جلجلات عالم اليوم، فهل نكمل السير وكأنّ شيئاً لم يكن؟ هل نترك المسيح يموت مجدّداً كلّ يوم؟ هل نغسل أيدينا في دماء أبرار هذا العالم وأبريائه؟ هل نبيع المسيح بثلاثين فضّة إهمالنا؟ هل نكون مثل من أعمى الحقد قلوبهم فصرخوا إرفعه"، إرفعه عنّا، فهو كثير التطلّب وصعب الإتّباع؟ هل نقتل المسيح مجدّداً إذا جاء اليوم الى حياتنا؟

وتبقى مريم، الأمّ المتالّمة والمعلّمة في الإيمان، ترى وحيدها معلّقاً فتقف الى جانب التلميذ، هي الى جانبنا تعلّمنا معنى التتلمذ وحمل الصليب، تعلّمنا أن عمق الإيمان يتجلّى من خلال الصبر والرجاء والإتّكال على الله، من خلال قبول صلبان حياتنا لتحويل الى وسيلة قداسة.  مريم هي الأمّ الحزينة وهي أمّ الرجاء، معلّمة في الإيمان، حزنت، بكيت، تألّمت فقدانها وحيدٍ احبّته وكان ثمرة وعود الله لها ولشعبها، حزنت ولم تغضب، بكيت ولم تيأس، تألمث وما ثارت أو رفضت الله في حياتنا.  هي المعلّمة تقود التلميذ الى الرّب، وتبقى قربه عندما يحمل صليبه، كنجمة الصباح تقود سفينتا الى ميناء ابنها حين تضرب بحر حياتنا عواصف اليأس والألم.