عظات
٥‏/١٠‏/٢٠١٦ زمن الصوم | الأب بيار نجم ر.م.م

أحد شفاء الأعمى

 

إن رواية الشفاء هذه يضعها مرقس كخاتمة لقسم من الإنجيل تحضّر لمرحلة بغاية الأهميّة.  يسوع ينتقل من الجليل الى أورشليم عابراً أريحا.  يكوّن هذا النّص خاتمة الجزء الأوّل من القسم الأخير في إنجيل مرقس (8، 27- 16، 8) الّذي يروي وجود الرّب في أورشليم.  يمكننا ان نعطي القسم الممتد من 8، 27- 10، 25 عنوان "السير نحو أورشليم"، يبتدىء بسؤال حول هويّة يسوع.  بعد رسالة يسوع الجليليّة، يذهب مع التلاميذ نحو الشمال، الى قيصريّة، لتبدأ المسيرة من النقطة الشمالية الأقصى نحو المدينة المقدّسة، نحو أورشليم، لتتميم الفصح الحقيقيّ، بموت يسوع وقيامته.

(مر 10 /46-52)

بَيْنَمَا يَسُوعُ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحا، هُوَ وتَلامِيذُهُ وجَمْعٌ غَفِير، كَانَ بَرْطِيمَا، أَي ابْنُ طِيمَا، وهُوَ شَحَّاذٌ أَعْمَى، جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الطَّريق. فلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيّ، بَدَأَ يَصْرُخُ ويَقُول: "يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ  ارْحَمْنِي!". فَانْتَهَرَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ لِيَسْكُت، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ صُرَاخًا: "يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!". فوَقَفَ يَسُوعُ وقَال: "أُدْعُوه!". فَدَعَوا الأَعْمَى قَائِلِين لَهُ: "ثِقْ وانْهَضْ! إِنَّـهُ يَدْعُوك". فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَ هُ، ووَثَبَ وجَاءَ  إِلى يَسُوع. فقَالَ لَهُ يَسُوع: "مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ؟". قالَ لَهُ الأَعْمَى: "رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِر!". فقَالَ لَهُ يَسُوع: "إِذْهَبْ! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ".

يُختَتَم هذا الجزء الأوّل من القسم الأخير برواية شفاء الأعمى في أريحا.  هي المعجزة الأخيرة التي سوف يقوم بها يسوع قبل دخوله الى أورشليم.  لقد حافظ مرقس حتى الآن على السرّ المسيحانيّ، فيسوع يطلب دوماً من الّذين شفاهم ومن التلاميذ عدم إعلان هويّته، لا خوفاً من اليهود إنّما لأن الشعب لم يكن بعد مستعدّاً لفهم حقيقة هويّته ودوره، ولهذا صرخوا له أثناء دخوله أورشليم، ظنّاً منهم أنّه المخلّص العسكري والقائد اليهوديّ المزمع رفع النير اليونانيّ عنهم.  إن السرّ المسيحاني لا يعتلن نهائيّاً إلاّ فوق الصليب وعلى لسان قائد المئة الرومانيّ: "لقد كان هذا حقّاً إبن الله" (15، 39).  إنّما هذا الإعتلان النهائيّ يمهّد له مرقس رويداً رويداً بطريقة تصاعديّة.  فالشعب يقدر أن يفهم بواسطة الله نفسه الّذي يتدخّل ليفتح أعينهم، وهذا الحدث هنا، رواية شفاء الأعمى، الى جانب حقيقته التاريخيّة، ينطوي على بعدٍ لاهوتيٍّ مهمّ: لقد فتح الله عيني الأعمى كما فتح أعين الشعب ليصبحوا قادرين على فهم هويّة يسوع المسيح.

 

الشخصيات في هذا النص:

برتيماوس (إبن طيما): يوضِح لنا النصّ الانجيلي أن برتيماوس كان متسوّلاً أعمى "جالس على جانب الطريق" يستعطي خارج أريحا، يطلب الحسنة من جمهور الحجاج الذاهبين إلى مدينة أورشليم لِقضاء عيد الفصح.  في كُلِّ الشِفاءات لم يُذْكَر إسمِ الشَخصِ المريض:النازِفة، ألابرص، المُخَلَّع. في هذا النص ذُكِرَ إسم ألاعمى.  إن ذكر الإسم قد يكون دليلاً على اتّباع هذا الشخص ليسوع ودخوله في الجماعة الكَنَسِيَّة.

 

الجموع:  كما في رواية الإمرأة النازفة، وفي رواية الكسيح في كفرناحوم، وفي رواية زكّا العشّار، يشكّل الجموع حاجزاً بين الانسان الطالِب للشِفاء وبين يسوع المسيح.  إنّهم مجموعة تتبع يسوع لأسباب شخصيّة، بدافع من الحشريّة أو طلباً لشفاء.  لم يدخلوا حتّى الآن في سرّ هويّة يسوع المسيح، لم يقبلوا حقيقة المسيح المتألّم والمائت.

 

التلاميذ:إنهم أشخاص تَبِعوا يسوع المسيح، إقتَنَعوا بمنطِقِه انّما لا يزالون على الحياد وغير مُدرِكين ماذا يَحدُث.  إنّهم أشخاص في مسيرة تعلّم، أحياناً يفكّرون مثل الجموع، يريدون من يسوع تلبية رغباتهم، كما في النّص السابق لرواية الشفاء هذه حين يطلب ابنا زبدى من يسوع إجلاسهما عن يمينه وعن يساره في مجده (مر 10، 35-36)، وأحياناً أخرى كانوا يتجادلون في من هو الأعظم بينهم (مر 9، 33-37).

 

في القسم ألاول من الاناجيل الازائية، تَبِعَ التلاميذ يسوع وهم لا يفهمون شيئًا، كان لكُلُّ واحِدٍ منهم نظرة خاصَّة حوله. منهم من كان يَعتَقِد أن يسوع جاء لِيُخَلِّصَهم من الاحتلال الروماني، ومنهم من رآى فيه معلّماً كسائر المعلّمين، وبطرس نفسه سَحَبَ السيف ليُدافِع عن يسوع ليلة أُسلِمَ إلى اليهود.

 

الاماكن:

أريحا: تَقَع هذه المدينة في شرق الاراضي المُقَدَّسة على حدود الأردن وهي بالتالي ليست قريبة من أورشليم. لدينا هنا نَقْلَة جُغرافِيَّة.  لا نَعرِف حتى الان ما الرابِط بين المِنطقتين انما سنجِد هذا الرابِط من خلال الآية الاخيرة في هذا النص:"وتَبِعَ يسوع في الطريق".  هذه الطريق لم تَكُن قصيرة أو سهلة انما كانت طويلة.  هي ليست فقط الطريق الجُغرافيَّة التي تربط أريحا بأورشليم إنما هي خاصًّةً الطريق الروحية، طريق التتلمذ ليسوع المسيح.

 

أورشليم هي نقطة الوصول، هي مكان الألم والموت، مكان تمجيد يسوع على الصليب.  لدى دخول يسوع اليها أعلنته الجموع مخلّصها وابن داود المُنتَظر، وأمام بيلاطس صرخوا ضدّه ليُصلب.  إن أورشليم هي غاية المسيرة ومكان إتّمام فصح العبور من أرض الخطيئة الى أرض الميعاد، عبور يتمّ بدم يسوع المسيح المعلّق فوق الصليب.  هذا النص يسبق دخول يسوع الى أورشليم، كتتميم لنبوءات العهد القديم في شخص يسوع المسيح.

 

 النوع الأدبيّ:

يندرج هذا النص ضمن مجموعة معجزات الشفاء، وكسائر روايات الشفاء في إنجيل مرقس وفي الازائيين، يَتَكَوَّن هذا النّص من الاجزاء التالية:

 

·     يسوع مَارًّا في الطريق

·     التلاميذ مقابِل الجموع

·     الشَخص المُحتاج

·     نوع المَرَض أو الحاجة

·     الانطلاق نحو يسوع

·     إعلان الحاجة وطلب التدخّل (في أغلب الاحيان تُحاوِل الجموع وحتى التلاميذ إبعاد الشَخْص عن يسوع)

·     تَدَخُّل من يسوع مع حوار بين الاثنين

·     إعلان الايمان من قِبَلِ الشخص المُحتاج

·     إعلان الشِفاء من قِبَل يسوع المسيح

 

رأينا سابِقًا، في إنجيل مرقس وفي الاناجيل الازائيَّة، يسوع المسيح يمنع الشخصَ المُحتاج من إعلان هويّته ونشر خبر المعجزة. هذا ما سُمِّيَ بالسِرِّ المسيحاني في إنجيل مرقس وأخذه عنه الإزائيّيَن الآخَرَين.  أمّا هنا فلا نجد لهذا السرّ المسيحانيّ من أثر:  لقد بدأ المسيح يعلن سرّ هويّته تمهيداً للإعتلان الأعظم على الصليب.  من خلال شفاء الأعمى بدأ الرّب "يفتح عيون الشعب ليبصروا ويعودوا إليه فيشفيهم".  لهذا السبب نجد سلسلة من الإعتلانات في هذا الجزء من الإنجيل: الدخول الى أورشليم (مر 11)، يسوع يعلن عن خراب الهيكل والتحذيرات حول الخراب العظيم ومجيء ابن الإنسان (مر 13) وصولا الى أحداث الآلام والقيامة.

 

لهذا السبب لا نجد أثراً للسرّ المسيحانيّ في هذا النّصّ: لقد صَرَخ الاعمى بأعلى صَوتِه، وبأكبَر لَقَب مسيحاني مُمكِن أن يُطْلَقَ على إنسان يهودي، "يا ابن داود" أي المسيح المُنتَظَر. اليهود يَعرِفونَ العَهدِ القَديم وتَحْديدًا سِفر صَموئيل الثاني ويُدرِكون ما هي نُبُوءَة ناتان وَيَعْرِفون الوَعْد الذي قَطَعَهُ الله منذ ألفين سنة للشعب الاسرائيلي بأن يُرسِل من نسل داود مَن يَجْلِس على عَرْشِه إلى الابد ولا يَكون لِمُلْكِهِ إنقِضاء. بِقولِهِ هذه العِبارة "يا ابن داود ارحمني"، يُعَرِّضِ الاعمى نَفسَه للرَجْمِ في مَجمَعِ اليهود لانه أطلَقَ إسمِ المسيح ابن داود على شَخص مارّ في الطَريق بِرِحلة حَجّ من الجليل إلى أورَشليم في عيد المَظال.  هذا الصِياح ما هو إِلاَّ مقدّمة لهتافات الجموع عندما دَخَلَ يسوع أورشليم كَمَلِكٍ ظَافِر: "هوشعنا! تبارك الآتي باسم الربّ!تباركت المملكة الآتية، مملكة أبينا داود!هوشعنا في العلى!"

 

 "جالِسًا على جانِبِ الطريق"

 

جانب الطريق:ليست مُجَرَّد المكان الجُغرافي انما أيضًا الروحي . para tyn hodon عبارة نَجِدها ايضاً في مثل الزارع، حيث تسقط البذار على جانب الطريق وتبقى عقيمة. البِذار المُلقاة إلى جانِبِ الطريق بَقيت خارِج سِرّ يسوع المسيح، بَقِيت para وبالتالي لا يُمكِن أن تَلتَقي مع يسوع المسيح. 

 

في هذا النَصّ إِنتَقَلَ الاعمى من قارِعَة الطريق إلى إِتِّباع يسوع. لقد كان الأعمى على هامش الوجود. إنه شخص فاقِد للمركز الاجتماعي وللهوية والمُستقبل.

 

جالِسًا: كان جالِسًا لِمُدَّةٍ طويلة وكان بقي جالساً هناك لولا مرور يسوع في حياته. نوعية الفعل اليونانيّ تَدُلّ على الجمود والثَبَات وهذا قبلَ أن يَلتَقي بيسوع المسيح. بعد وصول يسوع المسيح تَغَيَّرت نوعِيَّة الافعال: "ألقَى رِداءَهُ وقام وجاء" هناك إنتِقال مِن حالَة الجُمود الذي كان يَعيش فيه الاعمى إلى حالة الحَرَكة، إنتِقال من حالة الانسان المُهَمَّش إلى حالَة الانسان الذي وَجَدَ هَوِيَّتَهُ، وَجَدَ الطريق الذي يجِب أن يَسْلُكَها وهي طريق يسوع المسيح.

 

هذا النَصّ هو نَصّ رابِط بين مرحلة ومرحلة أُخرى أو بين قِسم من الانجيل وقِسم آخَر أو يُسَمَّى أيضًا النص الجِسر.  يُمَهِّد مرقس من خلال هذا النص للاحداث التي سَتَتِمّ لاحِقًا بطريقة رَمْزِيَّة، من هنا الاختلاف بين هذه المُعْجِزة وسَائِرِ المُعجِزات. في هذه المُعْجِزة نَجِد إنتقال من العَمَى إلى الرؤيا تَحقيقًا لِنُبُوءة أشِعيا ("في تلك الايام عندما يأتي المسيح العُميُ يُبصِرون والاعرج يَقفِزُ كالأيِّل). استعملَ مرقس الفعل نَفْسُه: فَوَثَبَ وَرَكَضَ عليه. هذا الانتقال من حالة العَمَى إلى حالة الرؤيا ليست مُجَرَّد حادِثة مع برتيماوس، الشعب كُلُّه قد أصبَحَ بإمكانه الانتقال من حالة عَدَم رؤيَة حَقيقة يسوع المسيح إلى حالة رؤية يسوع المسيح الحقيقي ابن داود بالصورة التي يجب عليهم أن يَروه فيها وليس حسب تَصَوُّرِهِم. يسوع المسيح ليس القائد العسكري الذي أتى لكي يُبيد الرومانيين وليس صانِعِ المُعْجِزات فقط إنما هو يسوع المسيح تتمة نُبُوءات العهد القديم.

 

 رَمَى رِداءَه

 

الرِداء لدى الشَحاذ هو كُلّ ما يَمْلِكُ، ليس فقط من الناحية الماديّة انما أيضا من ناحية المَقَام والمَركَز الاجتِماعي. الرِداء يُظهِر مَقام الانسان ويُظهِر أن لديه هوية رغم فَقرِه.  بتركه ردائه، ترك الأعمى كلّ شيء في سبيل إتّباع يسوع المسيح. وفي الحادِثة التي تلي شِفاءِ الاعمى، أي رواية دخول يسوع الى أورشليم, نجد العمل ذاته يتكرّر: رمى الناس رِداءَهم على الطريق أمام يسوع.  صَرَخَ الاعمى يا ابن داود ارحمني وصَرَخَ الشعب مُبارك المسيح ابن داود، هوشعنا يا رَبّ خَلِّصْنا.

 

وتَبِعَ يسوع في الطريق  

 

السير خلف يعني التتلمذ، سارَ الأعمى البصير خَلفَ يسوع في الطريق، تماماً كما فعل بطرس حين وجّه يسوع الدعوة نفسها اليه: قال له سِرْ خَلْفي. لقد صار الأعمى المشفيّ تلميذاً وبدأ يسير على الطريق التي سبقة بطرس في خطّها. هذه الطريق هي طريق اعتناق مَنْطِق يسوع المسيح والتَتَلْمُذ له والانطِلاق نحو أورَشليم إلى الموت والقِيامة، إنها دَعوة التلميذ المسيحي أن يسير خَلفَ يسوع المسيح نحو الموت والقيامة. هذا الانجيل كُتِبَ إلى جَماعة روما المُتَأَلِّمَة من الاضطهاد، وكان الكثير منهم يَجحدون الإيمان بسبب الاضطِهاد وخوفًا من الموت.  وهنا يُعلِن مرقس لكنيسة روما أن التلميذ الحقيقي هو الذي يَختار السير وراء يسوع المسيح وصولاً إلى الموت.

 

 

التأمّل:

إن اختيار الكنيسة المارونيّة لإنجيل شفاء الأعمى في هذا الأحد السابق لأحد الشعانين هو ليس من قبيل الصدفة، فمسيرة الصوم هي مسيرة تعليميّة، وأناجيل الصوم، ولا سيّما أناجيل الآحاد تقودنا في هذه المسيرة نحو لقاء المسيح القائم من بين الأموات.  فإذا أخذنا أناجيل الآحاد منذ مدخل اليوم ماذا نجد؟

 

-         أحد مدخل الصوم، عرس قانا الجليل، هو إعتلان يسوع وإيمان التلاميذ، أي بدء مسيرة التتلمذ على هدي صوت مريم: إفعلوا ما يأمركم به.

 

-         الأحد الثاني من زمن الصوم، أحد شفاء الأبرص: هي بدء مسيرة التنقّي، البعيد عن المجتمع ينال شفاءه ويعود.  هو الشفاء الإجتماعي والمصالحة مع العالم.

 

-         الأحد الثالث هو أحد شفاء المنزوفة: الإمرأة النازفة التي كانت تحيا ألم حقيقتها بعيدة عن الناس، نالت الشفاء الداخليّ جاءت الى يسوع تلمس من الخلف رداءه، خوفاً من أن تنجّس ابن الله بعدم طهارتها، فجلبها يسوع الى الأمام، وقفت امامه، نظرت في عينيه وأعلنت أمام الجميع ما جرى لها.  لم تعد ترى في ذاتها مصدر شقاء الآخرين، لم تعد تحيا خجل حقيقتها.  هي المصالحة مع الذات.

 

-         الأحد الرابع هو أحد الأبن الشاطر، هي حقيقة الإنسان البعيد عن الله يفتّش عن حريّته فيجد الشقاء في الخطيئة، ويعود الى حضن الآب تائباً.  هو الأحد الّذي ينتصف الصوم، هو أحد التوبة والتوبة محوريّة في الصوم.  هي المصالحة مع الله.

 

-         الأحد الخامس هو أحد شفاء الكسيح، نال الشفاء بسبب إيمان الجماعة التي تحمله نحو السيّد.  هو خلاص الرّب يتجلّى عبر الكنيسة، هي المصالحة مع الكنيسة، مع جماعة الإخوة.

 

الأحد الأخير هو الأحد الّذي يفتتح أسبوع الشعانين، هو أحد شفاء الأعمى، هي نهاية رحلة التتلمذ، التلاميذ أعجبوا بيسوع مصدر الفرح في قانا وبدأوا مسيرة التتلمذ، مسيرة الشفاء والمصالحة مع العالم والمجتمع، المصالحة مع الذات، المصالحة مع الله، الإلتزام في الكنيسة.  في ختام هذه المسيرة تتفتّح أعين التلاميذ، يصبحوا قادرين على فهم حقيقة معلّمهم.  هم مدعوّون الى الدخول معه الى أورشليم عالمين أنّه ملك الكون والمخلّص الأوحد، لا القائد الزمنّي الّذي سوف يهتف له الشعب الّذي لم يفهم حقيقته.  هذا هو صومنا، إنتقال من حقيقة يسوع صانع المعجزات، الى معرفة يسوع الفادي المتألّم حبّاً بنا.

 

إيمان الإعمى وعقلانيّة الجموع:  كم هو مثير للإهتمام أن "الجمع الكبير" الّذي كان يتبع يسوع ويهتف له قد "أخذ ينتهر الأعمى ليسكت".  ما سبب اتّباع الجموع ليسوع إن لم يؤمنوا بقدرته على تبديل واقع الحياة؟ لقد آمن الأعمى بقدرة يسوع على نقله من عن جانب الطريق وإعادته الى وسط الحياة، من ظلمة العمى الداخلي الى نور لقاء الرّب في حياته.

 

إن هذه الجماهير تشبه الى حدّ كبير جماهير المؤمنين بيسوع، يتبعون يسوع، اعتادوا عليه، صار في حياتهم أمراً روتينيّاً، أو يتبعونه لأنّهم يريدون أمراً ما، أو لشعور بحماية أو لخوف أو وسواس، إنّما في عمق أعماقهم لا يؤمنون بأن الرّب قادر على تبديل واقعهم وواقع الآخرين، ينتهرون من يؤمن بقدرة يسوع ويسكتونه بطرق شتّى: بالقمع، بالسخرية، بالتهميش أو بالشفقة أحياناً.  لقد اعتادت جموعنا على يسوع في حياتنا اليوميّة الى حدّ جعلنا ننسى جمال لقاءه، ونفقد الإيمان بقدرته.  نقدّم ضمانات عقلانيّتنا على ثقة الإيمان، نخاف أن نبدو حمقى، نخاف أن نصطدم بواقع عدم الوصول الى مبتغانا، نخشى الاّ يجيب يسوع سؤلنا، فلا نخاطر، لا نطلب، نبقى في خط المؤمنين التقليديّين، أي في خطّ من حصر إيمانه بيسوع في مجرّد تطبيق للوصايا وإتمام الواجبات، دون شوق وحبّ ورغبة.  لقد كان هذا الأعمى البصيرَ الوحيدَ بين الجموع، كلّهم كانوا عمياناً أظلم قلبهم وخفتت ثقتهم ونسيوا جمال المغامرة مع يسوع.  هو هتف مسبقاً نشيد الدخول الى اورشليم، صرخ: هوشعنا، أي خلّصني، هتف "يا ابن داود"، وألقى رداءه: أعمال سوف نراها تتكرّر بعد أيّام قليلة على يدّ الجموع التي تعلّمت من هذا الأعمى شجاعة إعلان الإيمان.

 

لقد خطّ هذا الأعمى مسيرة إيمان على كلّ واحد منّا أن يسيرها:

-         الإيمان هي حالة انطلاق من الهامش الى عمق الوجود، ومن حالة الظلمة الى حالة النور.  لقد بدأ الأعمى بالسماع لا بالمعاينة، يسمع عن يسوع، يخبره الآخرون عن قدرته، وهو باقٍ على هامش الطريق.  في ذلك اليوم مرّ يسوع من هناك، عابراً المدينة، فاغتنم الأعمى فرصته الوحيدة.  الإيمان يدعونا الى تغيير حالة لا الى اعتناق عقيدة أو ايديولوجيا، هو تغيير حالة وجودنا الإنساني من حالة الثبات في الروتين، من حالة البقاء على هامش طريق الحياة، الى حالة الإنسان "الواثب" مثل الأعمى، يلقى عنه رداء عاداته، ومهنته، رداء حياته الفارغة وينطلق وراء يسوع، معلناً إيّاه المخلّص وطالباً منه الرحمة.

 

-         الإيمان هو صرخة تنطلق نحو شخص لا نراه، إنّما نعلم أنّه موجود وأنّه قادر على تغيير واقع حياتنا.  الأعمى لم ير يسوع بنور العين الجسديّة، إنّما آمن به، وبدافع من رجائه العميق وثقته بقدرة الرّب صرخ له: إريد أن أبصر.  هي حقيقة إيماننا، لا ننطلق من المعاينة لنفهم، بل نؤمن بإله سمعنا عنه كما سمع ذاك الأعمى عن قدرته، نعلم أنّه يدعونا فنثب وراءه، نسمع صوته، نعلنه مخلّصاً، فنبصر.  مسيرة الإيمان تنطلق من دوماً من عدم المعاينة الى المعاينة، فلو كنّا نبصر ما نؤمن به لما كان إيماناً، لأضحى ضمانة ملموسة وحسيّة.  لا يمكننا أن نفتّش عن الضمانات الحسيّة الملموسة لإيماننا، بل نثق ونؤمن، وعندها نبصر، لا بعين الجسد أو العقل، إنّما بواسطة الحبّ الّذي يبادلنا إياه الرّب.  نلمس عمله في حياتنا، نختبر حضوره معنا، ينتشلنا مروره من هامش عبثية الحياة ليضعنا في صميم العلاقة الإلهيّة، يصبح لوجودنا معنى بدخولنا في علاقة مع السيّد.

 

-         العوائق التي كادت تمنع الأعمى من الوصول الى يسوع هي نفسها تمنعنا من التعرّف الى يسوع يمرّ في حياتنا ويدعونا للسير وراءه على طريق أورشليم نحو الجلجلة والقيامة.  لقد أخذ الجمع ينتهره ليسكت، وينتهرنا عالم اليوم لنسكت نحن أيضاً، يخنق منطق العصر فينا الرجاء، يغلقنا على منطق العنف والقوّة والحرب، أو على منطق المادّة والإستهلاك، أو على السعي الى لذّة عابرة تنتهي فنبدأ بالتفتيش عن أخرى.  العالم ينتهرنا لأن منطق الإيمان هو لا منطق بالنسبة إليه.  الإيمان هو منطق الضعفاء والحمقى، أمّا الأقوياء بأفكار قلوبهم فيفتّشون عن ضمانات حسيّة.  والعائق الآخر كان يمكن أن يكون الثوب الّذي كان يملكه، مُلكه الأوحد.  لو تعلّق به لكان خسر يسوع، لو خاف من خسارة من يملك لكان مرّ يسوع وعبر، لو خاف من فقدان المكان على قارعة الطريق أو من رمي الثوب والركض خلف يسوع، لما كان قد شُفي.  هي عوائق إيماننا نحن أيضاً: كم يخيفنا منطق الترك والتغيير؟ كم نرغب بالثبات ولو كان هذا الثبات لا يلذّ لنا.  دعوة الإيمان هي الترك والإنطلاق خلف يسوع.  ترك أفكارنا الخاطئة، أو عاداتنا السيئة، أو خطايانا اليوميّة، أو منطقنا المغلوط.  ترك كبريائنا أو حسدنا أو حقدنا أو كسلنا.  اتّباع المسيح يستلزم كياناً قادراً على الوثب كما وثب ذلك الأعمى، كياناً غير خائف من التغيير، فإن لم نتخلَّ عن ثقل ما نملك، لا يمكننا التتلمذ ليسوع.

 

-         لقد أجاب يسوع على صراخ الأعمى فناداه.  إن ديناميّة الإيمان تنطلق من نعمة الرّب، من مروره في حياتنا، هو دوماً صاحب المبادرة، مبادرةٌ تبقى عقيمة إن لم يقبلها الإنسان ويستجيب لها.  مرور يسوع يجعلنا "ننهض"، نقوم من رتابة واقعنا، ننهض من تحت أثقال حياتنا، صوته يجعلنا نقلب معادلات حياتنا، نتحوّل من أعمى القى بذاته على هامش طريق الحياة الى كائن واثب وثبة الإيمان، كائن شجاع يترك كلّ ما يملك ليتبع يسوع، ليتتلمذ له.  الجموع التي كانت تنهره ليصرخ قد بدّلت منطقها أيضاً، صارت صوتَ يسوع نفسه، تحوّلت بفضل الرّب من حاجز أمام الأعمى الى وسيلة تساعده للوصول الى السيّد: "تشجّع وقم فهو يدعوك"، السبب الأوّل هو دعوة الرّب، دعوة تحتاج لشجاعة في سبيل إتمامها، شجاعة في المغامرة، فيسوع لا يعطي ضمانات ملموسة، يطلب ثقة الصداقة، يطلب حريّة القلب وشجاعة الحبّ.  عندها فقط يمكن لكياننا أن يقوم ويتتلمذ، ودون الشجاعة يبقى كياننا ميتاً كجثة تتخبّط في بحر حياة دون هدف ودون رجاء.

 

-         الإيمان هو لقاء خاصّ بيسوع المسيح، لم يعد مجرّد سماع عنه، بل هو اكتساب للرؤية من أجل معاينة الرّب وجهاً لوجه: النعمة الحقيقيّة  ليست اكتساب النظر، بل هي رؤية يسوع، اكتساب النظر ما هو الاّ وسيلة، والنعمة الحقيقيّة هي رؤية يسوع الّذي سمعنا عنه كثيراً من الآخرين.  اكتساب النظر هو الإيمان، والإيمان وسيلة تنتهي مع انتهاء حياتنا، وسيلة لا نحتاجها في العالم الآخر فسوف نعاين الرّب وجهاً لوجه. ما يبقى هناك هو الحبّ، هو النظر في عينيّ يسوع المسيح دون خجل.  ما تمّ مع الأعمى هنا ما هو إلاّ استباق بسيط لما هو مدعوّ اليه في علاقة أبديّة لا تنتهي.

 

 نتيجة الإيمان التتلمذ، فلا يمكننا أن نسمح أن يكون لقاؤنا بالرّب عقيماً، إيماننا هو فعل التزام بالطريق التي يسير عليها السيّد، وهي ليست سهلة.  قام وتبعه في الطريق، الطريق التي سوف تقوده الى الجلجلة، الى ألم الصليب، الى ظلمة القبر، والى القيامة.  درب إيماننا وتتلمذنا ليسوع لا بدّ أن تنطوي على هذه كلّها.  لا بدّ أن يكون إيماننا سبب ألم لنا، يتطلّب تضحيات وأعمال بطولة، يمنعنا من التفتيش عن الطريق الأسهل، ويجعلنا نسعى الى الخير رغم التضحيات الكبيرة.  إيماننا يقودنا الى طريق الجلجلة، الى سخرية الآخرين كما سخر الجنود من يسوع وضربوه بقصبة على رأسه كعبد حقير.  قد نصل في إيماننا الى ظلمة القبر، كلّ شيء حالك مظلم حولنا، لا نجد أجوبة على اسئلة كثيرة نطرحها، نظن أنفسنا وحدنا دون إله يقودنا ويحمينا، هي ظلمة الإيمان تشابه ظلام القبر حيث يرقد السيّد.  إنّما لا بدّ أن يسطع نور القيامة، لا بدّ أن نخرج من ظلمة قبرنا، إذ تستطع علينا أنوار قيامة. السيّد.