عظات
٩‏/٨‏/٢٠١٧ زمن الصليب | الأب بيار نجم ر.م.م

عيد إرتفاع الصليب

إن احتفالنا بعيد ارتفاع الصليب المقدّس في ١٤ أيلول هو استمراريّة لتقليد كنسيّ طويل جدّاً. في ١٤ أيلول من سنة ٣٣٥ اجتمع حشد غفير من المؤمنين والحجّاج والرهبان والأساقفة في أورشليم، وقد جاؤوا من جميع أنحاء الأمبراطوريّة الرومانيّة، ليحتفلوا بتكريس كنيسة عظيمة أمر الأمبراطور قسطنطين ببنائها حيث صلب السيّد المسيح ودُفن. وقد استمرّ الإحتفال بهذه الذكرى في التاريخ عينه في القرون التالية: تروي المورّخة إيجيريا في مذكّرات رحلات حجّها الى الأراضي المقدّسة أن أكثر من خمسين أسقفاً كانون يجتمعون مع آلاف الحجّاج كلّ سنة للإحتفال لمدّة ثمانية أيّام بهذه الذكرى.

(يوحنا 12: 20 - 32)

كَانَ بَينَ الصَّاعِدِينَ لِيَسْجُدُوا في العِيد، بَعْضُ اليُونَانِيِّين. فَدَنَا هؤُلاءِ مِنْ فِيلِبُّسَ الَّذي مِنْ بَيْتَ صَيْدَا الجَلِيل، وسَأَلُوهُ قَائِلين:"يَا سَيِّد، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوع". فَجَاءَ فِيلِبُّسُ وقَالَ لأَنْدرَاوُس، وجَاءَ أَنْدرَاوُسُ وفِيلِبُّسُ وقَالا لِيَسُوع. فَأَجَابَهُمَا يَسُوعُ قَائِلاً: "لَقَدْ حَانَتِ السَّاعَةُ لِكَي يُمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَان. أَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّ حَبَّةَ الحِنْطَة، إِنْ لَمْ تَقَعْ في الأَرضِ وتَمُتْ، تَبْقَى وَاحِدَة. وإِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يَفْقِدُهَا، ومَنْ يُبْغِضُهَا في هذَا العَالَمِ يَحْفَظُهَا لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّة. مَنْ يَخْدُمْنِي فَلْيَتْبَعْنِي. وحَيْثُ أَكُونُ أَنَا، فَهُنَاكَ يَكُونُ أَيْضًا خَادِمِي. مَنْ يَخْدُمْنِي يُكَرِّمْهُ الآب. نَفْسِي الآنَ مُضْطَرِبَة، فَمَاذَا أَقُول؟ يَا أَبَتِ، نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَة؟ ولكِنْ مِنْ أَجْلِ هذَا بَلَغْتُ إِلى هذِهِ السَّاعَة! يَا أَبَتِ، مَجِّدِ اسْمَكَ". فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ يَقُول: "قَدْ مَجَّدْتُ، وسَأُمَجِّد". وسَمِعَ الجَمْعُ الحَاضِرُ فَقَالُوا: "إِنَّهُ رَعد". وقَالَ آخَرُون: "إِنَّ مَلاكًا خَاطَبَهُ". أَجَابَ يَسُوعُ وقَال: "مَا كَانَ هذَا الصَّوْتُ مِنْ أَجْلِي، بَلْ مِنْ أَجْلِكُم. هِيَ الآنَ دَيْنُونَةُ هذَا العَالَم. أَلآنَ يُطْرَدُ سُلْطَانُ هذَا العَالَمِ خَارِجًا. وأَنَا إِذَا رُفِعْتُ عَنِ الأَرض، جَذَبْتُ إِليَّ الجَمِيع".

كان الحجّاج والمومنون الأورشليميّون يحتفلون في تلك الفترة باكتشاف خشبة عود الصليب، وكانوا يقومون برتبع رفع الصليب المقدّس (من هنا اسم العيد حتّى يومنا هذا)، وبما أن مكان الصلب كان يعتبر محور الكون كلّه، لأن منه جاء الخلاص للعالم بأسره، جرت العادة أن يبارك بطريرك أورشليم بالصليب أربعة إتّجاهات العالم، وهو ما تقوم به جميع الكنائس اليوم في رتبة عيد الصليب. وكان الحجّاج يحملون معهم قوارير يملأونها زيتاً، يباركونها بلمسها عود الصليب ويحملونها الى بيوتهم للتبرّك، فصارت عادة تبريك الزّيت، ومع مرّ الأيام استبدل تبريك الزيت بتبريك المياه، التي تقوم بها العديد من الكنائس، ومن بينها الكنيسة المارونيّة، في رتبة قدّاس عيد ارتفاع الصليب المقدّس، وصارت روما تحتفل بالعيد أيضاً حين كانت الكنيسة تحت رعاية البابا سرجيوس، قبل العام ٧٠٠. 

اعتمدت كنيسة القسطنطينيّة هذا العيد في العام ٦١٢، وتمّ نقل أجزاء من الصليب المقدّس اليها والى مراكز الكنائس الأخرى. في سنة ٦١٤، إحتلّ الفرس أورشليم، ودمّروها وأشعلوا فيها النّار، ووضعوا يدهم على خشبة الصليب، ولكن الإمبراطور هرقل قام بمواجهتهم واسترجع المدينة المقدّسة من بين أيديهم وأجبرهم على إعادة الصليب المقدّس، الّذي أعيد وضعه في كنيسة القبر المقدّس في ٢١ آذار من سنة ٦٣٠. 

إنّما عيد الصليب الّذي نحتفل به نحن أبناء اليوم ليس هو مجرّد تكرار لتقليد تاريخيّ كنسيّ عريق وراسخ في القدم فحسب، بل هو مشاركتنا نحن المؤمنين اليوم بالإيمان الواحد الّذي يجمعنا بالإخوة الّذين سبقونا وأوصلوا الينا معني إكرام الصليب الأقدس. وهو من ناحية أخرى عيش لمعنى الصليب في حياتنا، ليس الصليب علامة الألم والعذاب والموت، إنّما علامة الإنتصار الّذي أعطانا إيّاه المسيح بانتصاره هو على الموت، وبانتصار الرجاء على اليأس. 

"ما من حبّ أعظم من أن يهب الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه"، عبارة قالها الرّب وطبّقها من أجلنا حبّاً بنا ورغبة بخلاصنا، هي عمل حبّ وفعل تضحية ولا أعظم، حقّقها الرّب مجّاناً لأنّه يحبّنا. الصليب بالنسبة لنا هو ضمانة حبّ الله المجّانيّ لكلّ واحد منّا، ولا بدّ أن يصير علامة حبّنا للآخرين وخدمتنا لهم وتضحيتنا من أجلهم. إن لم نضع منطق التضحية والخدمة وبذل الذات موضع التطبيق، يصبح الصليب عقيماً في حياتنا، لا يعطي ثمار الخلاص لإخوتنا الّذين هم في العالم. 

الصليب هو حبّ الله الآب لنا، آب تألّم هو أيضاً من أجلنا، إذ بذل ابنه الوحيد حبّاً بنا. بالصليب نختبر بنّوتنا للآب السماوي ونوقن أنّه هو أبونا. علامة الصليب التي نكرّمها في كنائسنا، ونضعها فوق أبوابنا وفي صدر بيوتنا وعلى صدرنا فوق قلبنا، هي العلامة التي أعلم من خلالها أنّني ابن ملك سماويّ أحبّني، أراد أن يجعلني إبناً له بالتبنّي، وأن يشركني في ملكوت حبّه الأبديّ. هو رمز الحبّ الّذي يضحيّ، يبذل أثمن ما يملك في سبيل الحبيب: الصليب هو علامة حبّ الآب لنا، الّذي لم يبخل على العالم بابنه في سبيل الخلاص. هو علامة التضحية التي يتعلّم من خلالها كلّ والد ووالدة حسّ التضحية ومعنى أن يكرّسا وجودهما وحياتهما في سبيل أولادهم. في منطق أبينا السماويّ تجد التربية المسيحيّة معناها وغايتها، منه نتعلّم أن تكون حياتنا كلّها مكرّسة لتربية أولادنا، لا من الناحية الجسديّج والثقافيّة فقط، بل من الناحية الروحيّة بالمرتبة الأولى. كلّ عطيّة لنا هي من الله، الّذي لم يكتفي بأن يعطينا الغذاء والمعرفة، بل أعطانا بالمقام الأوّل أن نحيا بعدنا الرّوحي، فلا يكون وجودنا مقتصراً على وجود ماديّ جسديّ مائت، بل أعطانا أن نعي اختلافنا عن المخلوقات الأخرى من ناحية كوننا مخلوقين على صورة الله ومثاله. من خلال الوحي والأنبياء والمرسلين أفهمنا الله قيمتنا، ورغم خطيئتنا بقي وفيّاً، الى أن أرسل ابنه الوحيد متجسّداً، ليقاسي الموت من أجل خلاصنا، ،هكذا بقي لنا الصليب علامة حبّ الآب لنا، وضمانة قيمة وجودنا، لا ككائنات حيوانيّة، بل كمخلوق يأخذ ملء كرامته من حقيقة وجوده كابن لله، مخلوق على صورته ومُفتدى بدم الإبن. لقد صار الصليب علامة هذه القيمة، وتعبيراً عن حبّ الله لنا. فكيف نربّى نحن الّذين آمنوا بالصليب أولادنا؟ هل نقدّم لهم منطق الآب السماويّ؟ هل نجعلهم يعون قيمتهم كأبناء لله أم أنّهم يكبرون واهمين أن الحياة هي اللّهو واللّذة والمادّة؟ هل نضع وجودنا في خدمتهم كرسالة وكمسؤوليّة من الله، كما أن الله وضع كلمته في خدمة خلاصنا وأحبّنا فلم يبخل علينا بابنه؟ هل نعلّمهم قيمة الصليب كفعل محبّة وبذل الذّات في سبيل المحتاج والمتألّم أم نربّيهم على الفرديّة والأنانيّة وعدم الإكتراث بالآخر؟ هب نحيا الصليب في حياته أم نجعله مجرّد أداة زينة في أعناقنا؟ هل نجعل الصليب يثمر خلاصاً للإنسانيّة في أيّامنا وبواسطتنا، أم صار مجرّد لحظة تاريخيّة تذكّرنا بحدث قديم إنتهى وعبر؟ 

والصليب هو علامة حبّ الإبن الّذي وهبنا الخلاص.