عظات
٢٤‏/١١‏/٢٠١٦ زمن القيامة | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد الرابع من زمن القيامة

هو ظهور الرّب الثالث للتلاميذ، وهذه المرّة على شاطيء بحيرة طبريّة، مكان اللّقاء الأوّل والدعوة الأولى. عاد إلى حيث جعلهم تلاميذ منذ ثلاث سنين، عاد ليعيدهم إلى حقيقة التتلمذ له، ليدخلهم من جديد، رغم خيانتهم وشكّهم ونكرانهم، إلى حالة الصداقة معه وإلى المصالحة مع الله الآب.

(يوحنا 21 /1-14)

ظَهَرَ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ مَرَّةً أُخْرَى عَلى بُحَيْرَةِ طَبَرَيَّة، وهـكَذَا ظَهَر: كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُس، وتُومَا الـمُلَقَّبُ بِالتَّوْأَم، ونَتَنَائِيلُ الَّذي مِنْ قَانَا الـجَلِيل، وابْنَا زَبَدَى، وتِلْمِيذَانِ آخَرَانِ مِنْ تَلامِيذِ يَسُوع، مُجْتَمِعِينَ مَعًا. قَالَ لَهُم سِمْعَانُ بُطْرُس: "أَنَا ذَاهِبٌ أَصْطَادُ سَمَكًا". قَالُوا لَهُ: "ونَحْنُ أَيْضًا نَأْتِي مَعَكَ". فَخَرَجُوا وَرَكِبُوا السَّفِينَة، فَمَا أَصَابُوا في تِلْكَ اللَّيْلَةِ شَيْئًا. ولَمَّا طَلَعَ الفَجْر، وَقَفَ يَسُوعُ عَلى الشَّاطِئ، ولـكِنَّ التَّلامِيذَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ يَسُوع. فَقَالَ لَهُم يَسوع:"يا فِتْيَان، أَمَا عِنْدَكُم شَيءٌ يُؤْكَل ؟". فَقَالَ لَهُم:"أَلقُوا الشَبَكَةَ إِلى يَمينِ السَفِينَةِ تَجِدُوا". وأَلقَوها، فَمَا قَدِروا على اجتذابِها مِنْ كَثْرَةِ السَمَك. فقالَ ذلِكَ التِلْميذُ الَّذي كانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطرُس:"إنَّهُ الرَبّ". فلمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَبّ، إِتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأَنَّهُ كانَ عُريانًا، وأَلْقَى بِنَفْسِهِ في البُحَيرَة. أَمَّا التلاميذُ الآخَرونَ فَجَاؤوا بالسَفينَة، وهُمْ يَسْحَبُونَ الشَبَكَةَ المَمْلُوءَ ةَ سَمَكًا، ومَا كانوا بَعِيدينَ عَن البَرِّ إلاَّ نَحوَ مِئَتَي ذِرَاع. وَلَمَّا نَزَلُوا إلى البَرّ، رَأَوا جَمْرًا وَسَمَكًا على الجَمْر، وخُبْزًا. قالَ لَهُم يَسُوع:"هَاتُوا مِنَ السَمَكِ الَّذي أَصَبْتُمُوهُ الآن". فصَعِدَ سِمْعَانُ بُطرُسُ إلى السفينَة، وجَذَبَ الشَبَكَةَ إلى البَرّ، وهِيَ مَمْلوءَ ةٌ سَمَكًا كَبيرًا، مِئَةً وثَلاثًا وخَمْسين. ومَعَ هَذِهِ الكَثْرَةِ لَمْ تَتَمَزَّقِ الشَبَكة. قالَ لَهُم يَسُوع:"هَلُمُّوا تغدَّوا". ولم يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنَ التَلاميذِ أَنْ يَسْأَلَهُ:"مَنْ أَنْت ؟"، لأَنَّهُم عَلِمُوا أَنَّهُ الرَبّ. وتَقَدَّمَ يَسُوعُ وأَخَذَ الخُبْزَ ونَاوَلَهُم. ثُمَّ فَعَلَ كذلِكَ بالسَمَك. هذِهِ مَرَّةٌ ثالِثَةٌ ظَهَرَ فيها يَسُوعُ لَلتَلاميذِ بَعْدَ أَنْ قامَ مِنْ بَينِ الأَمْوات.

يعطي الإنجيليّ لائحة التلاميذ الحاضرين بطريقة غير اعتياديّة، بطرس أوّلاً ومن ثمّ توما معطياً تفسيراً لمعنى اسمه، ونتنائيل الّذي يرد لأوّل مرّة أنّه من قانا الجليل، وابنا زبدى، وتلميذان آخران.  نعلم من الآية السابعة أن أحد التلميذين هو التلميذ الّذي كان يسوع يحبّه، وتبقى هويّة السابع سريّة.  يبدو هذا الإبهام متعمّداً من قبل الكاتب، أوّلاّ لإبقاء هويّة التلميذ الحبيب سريّة، إنّما أيضاً لهدف آخر تعليميّ:  لقد بقي التلميذ السابع دون هويّة، والرقم سبعة هو رقم رمزيّ، رمز التلميذ الكامل، ومن خلاله يفسح الإنجيليّ مكاناً لقاريء الإنجيل ليكون موجوداً في النّص هذا.  إن التلميذ السابع هو كلّ واحد منّا يقرأ النّص ويطبّقه على حياته الخاصّة من خلال الإختبار الشخصيّ مع يسوع.

أنا ذاهب أصطاد

هذا الحدث الّذي تمّ منذ ثلاث سنوات مع بطرس على نفس الشاطيء، شاطيء بحر الجليل، كان بداية مسيرة تتلمذ خلف المعلّم.  لقد بدّل الصيد الأوّل حياة بطرس، تبع يسوع، أحبّه، تتلمذ له، والآن يعود بطرس إلى الصيد من جديد، إنّما هذه المرّة يعود والربّ قد مات، الأحلام تحطّمت والآمال اندثرت.  لقد أراد بطرس أن يعود إلى حياته الأولى، يريد أن ينسى المعلّم الّذي أحبّه وتبعه وعلّق عليه الآمال.  لقد ترك بطرسُ يسوعَ وعاد إلى شبكته القديمة.  بطرس مثل توما، صورة الإيمان الضعيف، المفتّش عن ضمانات ملموسة ليبقى قائماً وإذ به يصطدم بموت المعلّم، لقد اصطدم إيمان بطرس بفشل الصليب، ففضّل العودة إلى ضماناته الماضية، إلى شبكة قديمة وقارب يعود به إلى حياته الماضية.

وحين يشتد الشّك يتدخّل المعلّم، لا يترك قطيعه وحيداً على مياه الخوف ووسط أمواج الشّك.  إلى جانب البعد التاريخيّ لهذا النّص نجد العديد من العناصر الرّمزية: الصيد، الرقم سبعة، القارب، المياه، الليّل، السمتوماك، الشباك والعُري.

الصيّد: يرتبط مفهوم الصيد بالبشارة وإعلان الإنجيل، إنّما في هذا النّص تأخذ رحلة الصيد هذه معنى بغاية السلبيّة، ترتبط باليأس وفقدان الرجاء وعودة التلاميذ إلى حالة ما قبل تعرّفهم على يسوع. 

يفترض معظم الشرّاح أن هذا الفصل من الإنجيل هو إضافة للإنجيل الأصلي، وضعه الكاتب في فترة لاحقة أو أعاد إضافته تلميذ من المدرسة اليوحنوّية.  إنّما إذا أخذنا الإنجيل بشكلة الحالي يتّضح لنا أن التلاميذ كانوا قد علموا بقيامة السيّد، رأوا القبر الفارغ، زارهم الرّب في مكان اقامتهم وأرسلهم لإعلان الإنجيل، وأعاد بعدها توما إلى الإيمان.  والآن نجد التلاميذ على شاطئ الجليل عادوا إلى حياتهم السابقة.

إن ردّات فعل التلاميذ تشير إلى أنّهم كانوا يعلمون أن السيّد قد قام، فالتلميذ الّذي كان يسوع يحبّه قد أعلن دون تعجّب أنّ الشخص الموجود على الشاطيء هو المعلّم، وبطرس رمى بنفسه في المياه ذاهباّ اليه دون إشارات حذر أو خوف أو تعجّب.  لقد كانوا عالمين بقيامة السيّد، وسمعوا منه الدعوة للذهاب إلى التبشير (20، 22-23)، ورغم هذا عادوا إلى حياتهم السابقة.  إن زيارة المسيح هذه للتلاميذ هي دعوة جديدة اليهم للتلمذ، لترك كلّ شيء واتّباعه مجدّداً، مرّة أخرى يشهد شاطيء الجليل دعوة التلاميذ لإتّباع المعلّم.

فخَرَجوا وركِبوا القارِبَ، ولكِنَّهُم في تِلكَ اللَّيلَةِ ما أمسَكوا شيئًا مِنَ السَّمَكِ

القارب هو رمز الكنيسة في العهد الجديد، كنيسة تسير في ليل مظلم، على مياه الشر تتقاذفها أمواج الخطر، والرّب غائب، هو ليل لأنّ الرّب غائب، ظلام قاسٍ، عمل دؤوب لا يعطي ثمار، فلا ثمار يعطيها الرسول خارج إيمانه بالرّب القائم من بين الأموات.  رسالة يسوع تبقى عقيمة إذا أبعدنا عن محورها حقيقة قيامته من بين الأموات، فيسوع ليس فيلسوفاً، ولا مجاهداً إجتماعياً، يسوع ليس إنساناً يحاول أن يكسر التقاليد، يسوع هو الإله القائم من بين الأموات، يعطي حياتنا حقيقة ومعنى لا يمكن لأيّ فلسفة أن تعطيه.  لقد عاد الرسل إلى القارب، حاولوا جاهدين أن يصطادوا، فما أمسكوا شيئاً، لأنّ عملهم تنقصه حقيقة القيامة.  مفكّرون كثر يرون اليوم في يسوع ثائراً ومجدّداً، وكثيرون يعملون في الحقل الإجتماعيّ باسم تعاليم يسوع الثائر والمجاهد، إنّما لا يمكن لعملهم أن يعطي الثمار إلاّ إذا أنطلقوا من حقيقة يسوع الحاضر، لا من خلال تعاليمه فقط، ولا من ناحية كونه مثالاً وحذوة فحسب، بل من خلال الإنطلاق من قناعة أن الرّب هو حاضر فعلاً، شخصيّاً، يرافق ويساعد ويقوّي.  لقد حمل التلاميذ يسوع في ذاكرتهم دون شكّ، ففشلوا في رسالتهم لأنّ يسوع ليس ذكرى ووجوده ليس عاطفيّاً أو عقليّاً، بل هو الإله الحاضر، هو الّذي يعمل من خلال التلاميذ، وهو وحده القادر على إعطاء رسالة الرسل نتيجة خلاصيّة.

وفي الصَّباحِ وقَفَ يَسوعُ على الشّـاطئِ، فما عَرَفَ التَّلاميذُ أنَّهُ يَسوعُ

وكيف يمكن للتلاميذ ان يعرفوا يسوع أن لم يؤمنوا بقيامته؟ فشلوا في التعرّف على من يحملوه في ذاكرتهم، لأن صورته حطّمها اليأس والخوف والهروب.  في الصباح ظهر يسوع، والأصّح أن الصباح قد طلع لأنّ يسوع كان هناك.  لقد انتهى ليل الفشل والصيد العقيم، لأنّ المعلّم، ربّان السفينة الحقّ قد ظهر.

ظهر واقفاً على الشاطيء، والتلاميذ لا يزالون في السفينة المبحرة على مياه الخوف.  الشاطيء هو هدف القارب الأخير، المسيح هو هدف القارب، هدف الكنيسة الأوحد، ينتظرها السيّد على الشاطيّ، وهي تبحر نحوه، تستثمر تعب التلاميذ الملاّحين لتصل بشعب الله إلى شاطيء الخلاص، إلى المعلّم القائم من بين الأموات.

فقالَ لهُم: "أيُّها الشُّبانُ، أمَعكُم شَيءٌ يُؤكلُ؟" فأجابوهُ: "لا".

هو عقم رسالة التلاميذ المنطلقين دون إيمان بيسوعٍ قائمٍ من بين الأموات، بمعلّم حيّ وحاضر، يرافق كنيسته ويقودها وينتظرها على الشاطيء، يقودها إلى هدفها الأخير، خلاص البشر كلّهم.

يسوع يطلب الثمار من تلاميذه، فالمهمّة التي أوكلها إليهم لا بدّ أن تكون مثمرة، ولا تساهل مع من يهمل دعوة يسوع اليه ليكون صيّاد بشر إلى الملكوت.  هي كلمات إدانة قاسية وأمثولة يعطيها الربّ لتلاميذه: بكلماته هذه أظهر الرّب للتلاميذ فشلهم، جعلهم يقرّون بعقم رسالته، رأوا فراغ شباكهم فتعلّموا.  عرفوا أن لا ثمار بمعزل عن يسوع، عرفوا أنّه هو الصيّاد الحقّ، مالك القارب ومنتظر الثمار.  يطلب المعلّم من التلاميذ ما يؤكل، يتّكل عليهم لإكمال عمل الخلاص.  دونه لا ثمار، إنّما الثمار هي مهمّة التلاميذ.  هو فعل ثقة يبديه المسيح لتلاميذه، يسلم اليهم اكمال عمل الخلاص الّذي بدأه ومات من أجل إتمامه.  هي كنيسة المسيح مدعوّة لإكمال حضوره في هذا العالم والمساهمة في تتميم عمل الخلاص الّذي يحقّقة.

قالَ لهُم: "ألقُوا الشَّبكةَ إلى يَمينِ القارِبِ تَجدوا سَمكًا". فألقَوا الشَّبكَةَ وما قَدِروا أنْ يُخرِجوها، لِكَثرَةِ ما فيها مِنَ السَّمكِ. فقالَ التِّلميذُ الّذي كانَ يُحبُّهُ يَسوعُ لِبُطرُسَ: "هذا هوَ الرَّبُّ!"

نفترض أن ناحية اليمين ترتبط برمزيّة الكلمة في العهد الجديد، فاليمين صار رمزاً لجماعة المخلّصين، على مثال المسيح الجالس عن يمين الآب يصبح آل اليمين مخلّصين يشاركون المسيح في الملكوت.  هي كلمات تذكير للتلاميذ بأن مهمّتهم هي اجتذاب البشر إلى الخلاص، تحويلهم من أسماك تائهة في بحر العالم إلى مخلّصين تجتذبهم شباك السيّد إلى الشاطيء.  كلمة "كثرة" يستعملها يوحنّا في مكان واحد آخر، في 5، 3 حيث يقول الإنجيليّ أن المسيح قد شفى كثير من المرضى وذوي الأسقام.  هو المسيح لا يزال يتابع مهمّته، إنّما هذا المرّة من خلال تلاميذه الّذين يسيّرون القارب، يقودون سفينته.

نتيجة لوفرة الخلاص علم التلميذ الذي كان يسوع يحبّه أن الواقف على الشاطيء هو المعلّم، فما من أحد آخر يقدر على إعطاء الخلاص.  يذكّرنا هذا النّص بنصّ آخر في الإنجيل الرابع، حين ركض التلميذ عينه أمام بطرس نحو القبر (20، 4-8)، لقد كان أسرع من بطرس، وصل أوّلا إلى القبر وانتظر بطرس، رأس الرسل، ليدخل أوّلاً.  وحين دخل رأى وآمن.  وهنا أيضاً يعاين ويؤمن، ويرشد الآخرين إلى الرّب.

لا إمكانيّة للتعرّف إلى يسوع وإلى ثمار الخلاص التي يعطيها ما لم يكن التلميذ حبيباً ليسوع، فالتلميذ يقدر أن يحقّق الرسالة التي أولكها اليه الرّب إن كان قلبه ممتلئاً حبّاً له.  الإيمان هو فعل ثقة وعمل حبّ، يتخطّى العقل ويرفع الكيان كلّه نحو الرّب الحبيب.  ولا نجاح لرسالة التلميذ دون حبّ، حبّ للرّب يتجلىّ من خلال محبّة الآخرين.

فلمَّا سَمِعَ سِمعانُ بُطرُسُ قولَهُ: "هذا هوَ الرَّبُّ"، لَبِسَ ثَوبَهُ لأنَّهُ كانَ عُريانًا، وألقى نَفسَه في الماءِ.

لا نزال في إطار الرمزيّة اللاهوتيّة، فمن غير المرجّح أن يكون بطرس قد بقي عرياناً طوال الليّل في وسط البحر، إنّما هذا التفصيل يشير برمزيّته إلى عدم استعداديّة بطرس، فاللبس والإئتزار هما علامتا الكائن المستعد.  نتيجة أعلان يوحنّا عن حضور الرّب لبس بطرس ثوبه، لقد عاد إلى حالة الإنسان المستعدّ، المتصالح مع الله والمرتمي في بحر المجتمع لجمع النفوس للسيّد، فلبس الثوب في إنجيل يوحنّا يعني الإستعداد للخدمة (13، 4).  رمى بطرس بنفسه في البحر لا ليتّجه نحو الشباك بل لينطلق نحو هدف رسالته، نحو الشاطيء.  الهدف الأوّل والأخير لكلّ رسول هو يسوع الرّب والمعلّم، دونه لا قيمة لأّي عمل رسوليّ.

 

وجاءَ التَّلاميذُ الآخَرونَ بالقارِبِ، يَجُرُّونَ الشَّبكَةَ بِما فيها مِنَ السَّمَكِ، وكانوا لا يَبعُدونَ إلاَّ مئتَي ذِراعٍ عَنِ البَرِّ9 فلمَّا نَزَلوا إلى البَرِّ رأَوا جَمرًا علَيهِ سمَكٌ، وخُبزاً0فقالَ لهُم يَسوعُ: "هاتوا مِنَ السَّمَكِ الّذي أمسكْتُموهُ الآنَ". فصَعِدَ سِمعانُ بُطرُسُ إلى القارِبِ وجذَبَ الشَّبكةَ إلى البَرِّ وكانَت اَمتَلأت بِمئَةٍ وثلاثٍ وخَمسينَ سَمكَةً كَبـيرةً، مِنْ دونِ أنْ تتَمزَّقَ معَ هذا العَدَدِ الكثيرِ.

لم يكن يسوع محتاجاً اليهم ليحضّر الطعام، فهو الإله القدير، إنّما هو أيضاً إله المشاركة، يطلب منّا المساهمة في خلاص الإخوة.  لا يكتفي بالخلاص الّذي تمّمه هو، بل يطلب من التلاميذ إحضار ثمر تعبهم الرسوليّ.  يسوع يطلب من كلّ واحد منّا ثمرة الإيمان، وثمرة الإيمان هي إعلان الإنجيل واجتذاب الجميع إلى الملكوت.  لذلك جذب بطرس شبكة امتلأت "بِمئَةٍ وثلاثٍ وخَمسينَ سَمكَةً كَبـيرةً"  دون أن تتمزّق.  لقد أعطى الشرّاح تفاسير متعدّدة لرمزية هذا العدد، إنّما يبقى الأكثر إقناعاً شرح القدّيس إيرونيموس: في أيّام كتابة الإنجيل، كان علماء اليونان قد أحصوا 153 نوعاً من الأسماك، واستنتجوا أن هذا هو عدد الأسماك الموجودة في البحار.  مغزى العدد هو الإعلان عن شموليّة الخلاص الّذي تمّمه يسوع، لقد دعى البشرية جمعاء، بكافة قبائلها وألوانها، إلى الدخول في شبكة الخلاص، لقد جاء فادياً للعالم بأسره، لا لأقليّة مميّزة ولا لشعب مختار، فجعل من البشريّة بأسرها شعباً له مختاراً.  أوكل إلى بطرس سحب شبكة الشعوب إلى شاطيء الخلاص، وفي بطرس يجد كلّ رسول ليشوع ذاته، ويدرك دعوته ان يكوناً مشاركاً في إيصال رسالة الخلاص إلى الشعوب كافّة.  لم تتمزّق الشبكة لأن الملكوت يتّسع لجميع البشر، شبكة تستمد صلابتها من حقيقة يسوع التي لا تتمزّق.  هي علامة قوّة الخلاص ورمز لوحدة الكنيسة التي، على مثال ثوب يسوع وشبكة بطرس، لا تتمزّق.

 

فقالَ لهُم يَسوعُ: "تعالَوا كُلُوا!" وما جَرُؤَ أحَدٌ مِنَ التَّلاميذِ أنْ يسألَهُ مَنْ أنتَ، لأنَّهُم عَرَفوا أنَّهُ الرَّبُّ. ودَنا يَسوعُ، فأخَذَ الخُبزَ وناوَلَهُم، وكذلِكَ ناوَلَهُم مِنَ السَّمَك. هذِهِ مرَّةٌ ثالِثَةٌ ظهَرَ فيها يَسوعُ لتلاميذِهِ بَعدَ قيامتِهِ مِنْ بَينِ الأمواتِ.

لا يمكننا أن نقرأ هذا النّص خارجاً عن البعد الإفخارستيّ: لقد دعاهم يسوع، وناولهم.  "تعالوا وكلوا" قال لهم.  هي وليمة حضرت اليها الشعوب كافّة من خلال ال 153 سمكة.  تناولوا وتحوّل تعبهم إلى وليمة افخارستيّة.  هو قدّاسنا الحقيقيّ، مع التقادم نرفع إلى يسوع تعبنا وعرق جبيننا، نقدّم له فرح العطاء، نحمل الإخوة أجمعين إلى وليمة الخلاص الّتي أعدّها.

لم يجرؤ التلاميذ أن يسألوه عن هوّيته، لقد عرفوا فيه يسوع التاريخيّ وأيقنوا أيضاً أنّه يسوع ابن الله وفادي البشر.  على مرّ السنوات الثلاثة التي قضوها معه كانوا يسألونه دوماً عن هويّته ولم يحصلوا قطّ على جواب واضح، كانوا بحاجة إلى انتظار هذه اللّحظة ليدركوا حقيقة يسوع الإلهيّة، لا المعلّم الإنسان وصانع الآيات فقط، بل إله الحبّ الّذي بذل نفسه وقام ولا يزال وفيّاً لوعده لهم رغم خيانة بطرس وشكّ توما وهرب التلاميذ.

هذا العبور من الجهل إلى المعرفة، من البحث عن هويّة إلى نيل الجواب في صمت الإيمان وفهم القلب، هو العبور الثاني.  العبور الأّول كان عبور الرسل من ليل الشّك وعقم الرسالة إلى صباح الإيمان ولقاء السيّد.  العبور الأوّل تمّ بقيامة يسوع من بين الأموات، والعبور الثاني تمّ ويتّم بكسر الخبز في الإفخارستيّا.  كما عرف تلميذا عمّاوس الرّب عند كسر الخبز، نال الرسل الجواب على أسئلتهم في سرّ الإفخارستيّا.  هي مسيرة إيماننا نحن أيضاً لا تزال مستمرّة في حياة الكنيسة: عبثاً نفتّش عن المسيح خارج سرّ الكنيسة، سرّ الإفخارستيّا، فهناك يعطينا الرّب جسده ودمه، ومن خلالهما ندخل في سرّ هوّيته.  لا يمكننا أن نجد المسيح في حياتنا دون التفتيش عنه في الإخوة، دون السعي إلى جمع البشريّة بأسرها في شبكة الخلاص، دون تهميش لأّي نوع أو لون أو عرق أو دين أو سياسة، فالجميع مدعوّ إلى الدخول إلى وليمة الرّب على شطآن الملكوت.  دعوة التلميذ هو أن يجمع، يلقي الشباك ويسهر اللّيالي، ينتظر بصمت وبرجاء لحظة تجلّي الرّب في صبحه العظيم، يحمل اليه الشباك، يقدّم له تعب ليل حياته وجنى رسالته، ينال خبز الحياة من يدّ الرّب ويسمع دعوته: "هلّم يا مبارك أبي، كنت أميناً على القليل، سأقيمك على الكثير، أدخل فرح سيّدك".