صلوات
١‏/٥‏/٢٠١٧ صلوات مريميّة | الأب بيار نجم ر.م.م

تأملات كهنوتية في أسرار الفرح

السرّ الأوّل: البشارة

فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: "كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً ؟" فأَجابَها الـمَلاك: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى...  فَقالَت مَريَم: " أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ". وَانصرَفَ الـمَلاكُ مِن عِندِها.

فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: "كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً ؟"

كم هو قاس الرب أحياناً، حين لا ترى أعيننا سوى ظاهر الأمور، وتعجز عن سبر خفايا إرادة الرب.

مريم صورة إنسانيتنا الضعيفة، الجاهلة، الفتية، المملوءة أحلاماً وآمال مستقبل،

مريم صورة تاريخ بشريتنا العائشة في آنية اللحظة، مدعوة لفتح أبوابها أمام أرادة الرب غير المفهومة.

حياتنا، تاريخنا، واقعنا وأحلامنا مشابهة هي لفتاة الناصرة الراقدة على غد خلاّب، تلتقي كلمة الرب تدعوها إلى ترك كل شيء والمغامرة معه.  مدعوة للتخلّي عن أحلام ومشاريع وقدرات وغد خططت له، إلى إتّباع كلمة الرب تقودها إلى المجهول.

كم هو عميق إيمان مريم، وكم عليه أن يكون عميقاً إيماننا بقدرة الرب في تحويل تاريخنا أيضاً.

مريم صورة دعوتنا الكهنوتية، تسمع مخطط الرب في حياتها فيبهرها جمال وجهه.  تترك أحلام المستقبل ولا تخشى إتباع إرادته، إنما حائرة هي، كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلا؟ وكم مرّة نقول نحن: "كيف يكون لي هذا، كيف أحمل كلمتك وأنا ضعيف والعالم أقوى منّي، كيف أعلن مشيئتك أنا العاجز وغيري لهم من القوة ما يغنيك عنّي؟ كيف أبشر بحكمتك وهي جهالة لهذا العالم، كيف أتبعك وأحمل فقرك، ومادية هذا العالم أقوي مني؟"

مريم سمعت كلمة الملاك، علمت أن قوة العليّ تظللها، كما همست بالأنبياء من قبلها.  الرب يدعوها لتكون صوتاً نبوياً في تاريخنا المتألم، فقبلت ولم ترفض كلمة الحياة فيها.

هي أم الكاهن تقول له، أنت مدعو لتكون مسيحاً آخر، لا تقتل كلمة الحياة فيك ولا ترفض صوت الله يقول لك: إحمل كلمتي وأعطها للعالم، لا تخشَ أن تكون نبياً يذكر الكون بارادة خالقه، ولا تقل: كيف يكون لي هذا والعالم أقوى مني،فقوة العلّـي تظلّــلك.

 

السرّ الثاني: الزيارة

وفي تلكَ الأَيَّام قَامَت مَريمُ فمَضَت مُسرِعَةً إلى الجَبَل إلى مَدينةٍ في يَهوذا.  ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات. فلَمَّا سَمِعَت أَليصاباتُ سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فَهَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: (( مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء ! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ ! مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟

وأَقَامَت مَريمُ عِندَ أَليصاباتَ نَحوَ ثَلاثَةِ أَشهُر، ثُمَّ عادَت إلى بَيتِها. وَأَمَّا أَليصابات، فَلَمَّا تَمَّ زَمانُ وِلادَتِها وَضَعَتِ ابناً.

 

من أرسل ومن ينطلق، فقالت مريم: ها أنذا أرسلني. وانطلقت مريم.

هو خائن للدعوة التي دعي إليها من يقول: أنا مدعو، دون أن ينطلق.  فما من دعوة تبقى مغلقة على ذاتها.  كلمة الرب في حشا مريم هي دعوة الرب في كهنوت كل واحد منّا، مريم قبلت الحياة، ولم تجعلها حكراً لها، قبلت كلمة الحياة وانطلقت بها، لكانت قد خانت دعوة الله الكلمة في حشاها لو بقيت في ناصرتها، مغلقة أبواب حياتها دون حاجات الآخرين.  فدعوة الإنسان الإلتقاء بالآخر، ملاقاة الإنسان من خلال لقاءه بالله، ومريم التقت في صمتها بالله خالقها، فحملت كلمته وانطلقت تعلنها، سمعته يقول: من أرسل ومن ينطلق فقالت: ها أنا أمة الرب، وانطلقت تزور من هي بحاجة اليها.

اليستا في الوضع عينه مريم واليصابات كلتاهما بحاجة للخدمة؟ فماذا تقدر مريم على إعطاء اليصابات، وماذا أقدر أنا على إعطاء الآخر؟ الست أفقر منه؟ الست بحاجة إلى المساعدة مثله؟ فماذا أقدر أنا المدعو أن أعطي مجتمعي ولي من المشاكل ما يكفيني؟

هي دعوة الله لنا أن نعطي دون حساب وبلا حدود، وفي ضعفنا تتجلى قوة الله فينا.

كلنا مثالنا مريم، مدعوون لنعطي أكثر مما نمتلك، لأننا مدعوون أن نعطي الله للعالم، و الله لا يُمتلك. هو يعطي نفسه للآخرين من خلال ضعفنا، هو يحوّل حقارتنا مجدا وضعفنا قوة.  هو اختارنا نحن أحقر القدّيسين ليُعلن مجده للآخرين.

دعوتنا أن نخرج نحو الآخر، أن نحب الآخر ونخدمه، فالمسيح أحبه حتى الموت.  دعوتنا أن نحطّم أبواب أبراجنا العاجية ونذهب لغسل قدمي إليصابات، كل إنسان يحتاج للمسيح الذي نحمله.

وبقيت مريم تخدم نسيبتها العجوز، واحتجبت ساعة ولادتها، ساعة تلقي الشكر، هي دعوتنا أيضاً أن نحمل كلمة الله إلى الآخر، وأن نكون قربه في بحثه عن الله، وأن نحتجب، دون شكر، ساعة تولد أرادة الرب في حياة الآخر.

 

السرّ الثالث: الميلاد

وحانَ وَقتُ وِلادَتِها، فولَدَتِ ابنَها البِكَر، فَقَمَّطَتهُ وأَضجَعَتهُ في مِذوَدٍ لأَنَّهُ لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ.

ها هي مريم تحمل بين يديها وعود الله لها، وعود تتحقق، وبدلا من أن تكون نقطة وصول تضحي نقطة أنطلاق. هي بداية الطريق.

مريم لم تكن مجرد قناة عبرت فيها الإلوهة إلى تاريخنا، أو مجرد وسيلة إستعملها الله الكلمة لياخذ جسداً، مريم حملت الله الكلمة في أحشائها، اعطت الحياة بالجسد لمن أخرجها إلى الوجود من العدم، ولدها من العدم إلى الوجود، فولدته في الجسد ليعود فيلدها مع البشرية كلها إلى شركة الحياة.

هي ليست وسيلة، بل علامة حسّية لمشاركة إنسانيتنا في مخطط الخلاص، فالله افتدانا بارادتنا، من خلال إرادة أمناـ كنا أن الموت ملك علينا من خلال إرادة أم لنا، الرب بحاجة إلى نعم نقولها فنفُتدى، ومريم قالت النعم وأعطت الحياة.

ولادة مريم ليسوع هي بداية مشوار على طريق الجلجلة، وقبولنا لدعوة الله لنا هي أيضاُ بداية مسيرة تنتهي معلّقة على الصليب لتدخل مجد القيامة.  دعوتنا الكهنوتية تتعلم الكثير من مريم أم الكاهن الأول:

ففي بيت لحم وُلدت دعوتنا، دعوة لأن نكون في العالم، حاملي بشارة من العالم الآخر إلى إخوتنا، بشارة لا يقدلا هذا العالم أن يقدّمها. نرتقي بهم من مادية الكون والسلطة والمال، من قصور هيرودس وبيلاطس وقياصرة العالم، إلى مغارة تعطي الحياة.

هي دعوة لنا، لكل مكرس، أن نتذكر أن دعوتنا ولدت في مذود وانتهت معلقة على خشبة، لتدخل مجد السماء، فلا نبدلنّ المذود بقصور ليست لنا، ولا نهربنّ من صليب دعوتنا، إخوة يسوع الصغار تعبوا من المادة واستهلكتهم الثروات، يبحثون عن معنى الحياة، فلنعلن لهم، على مثال مريم، أن مجد الحياة قد يتجلى لهم في مغارة بيت لحم.

 

السرّ الرابع: تقدمة يسوع إلى الهيكل

ولـمّا دَخَلَ بِالطِّفلِ يَسوعَ أَبَواه، لِيُؤَدِّيا عَنهُ ما تَفرِضُه الشَّريعَة، حَمَله عَلى ذِراعَيهِ وَبارَكَ اللهَ فقال:  "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها..."

ها هما الكهنوتان يلتقيان: كهنوت العهد القديم، سليل هارون وكهنوت العهد الجديد، يسوع الكاهن والذبيحة، بين يدي أمه، أم الكهنة.

كهنوت المسيح لم يبطل كهنوت سمعان، بل أعطاه معناه.  الكهنوت الشيخ، كلت عيناه من الترقب وتعب جسده منتظراً أفتداء إسرائيل، يبتهج لرؤية صبية حاملة في حضنها الكاهن الطفل.

مريم بين الكهنوتين نقطة التقاء، تقدم الطفل إلى الشيخ ليسلّم الشيخُ الأمانة ويستلم من الطفل الموعد.  مريم نقطة التقاء في حياة كل كاهن، تجمع أحلام سمعان وترقّباته، تحمل تعب كهنوته وخدمته، صلواته وحبه للرب، وتسلّمها لابنها، وتحمل أبنها إلى سمعان، تحمل إبنها إلى كل كاهن، تقول له: هذا هو معنى كهنوتك، نقطة أنطلاقك ووصولك، تحمل الغاية إلى الوسيلة وتسلّم الوديعة إلى حاملها.  هو كهنوتنا: إنتظار وفرح نحيا وعود المسيح لنا، وننتظرها.  نعلن في العالم صدق وعود الرب لنا ووفاءه، ونترقب التحقيق.  نعلن حقيقته كوسيلة وحيدة لخلاص الكون أجمع.  نحمل في كهنوتنا، كهنوت المسيح، سمات سمعان الشيخ الشيخ، يؤمن ويعلن ويحيا وينتظر، يبتهج حين يدرك أنه لم يعد مهماً فالسيد قد وصل.  السيد الذي تقدمه اليه مريم، كلمة الله يعلنها للكون وسيلة خلاص وغاية انتظار. كاهن لا يتعب من إنتظار عزاء الله لشعبه، كاهن ينتظر دوما الكاهن الأول ويعلم أن كهنوته مستمد منه، ليس كهنوت جاه ولا مركز ولا جسر عبور ولا منبر يقفز منه إلى ما هو أعلى، بل كهنوت خدمة، يسلّم وديعة إستلمها، وديعة أيمان تلقيها مريم الكنيسة بين يديه ليعلنها للعالم كلّه.  كاهن لا يحجب نور المسيح ليعتلن هو، بل يصرخ مع سمعان: الآن أطلق عبدك بسلام، يقول لكل مكرّس منّا: عليك أن تحتجب ليتجلى المسيح.

 

السرّ الخامس: وجود يسوع في الهيكل

فَوجداهُ بَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الـهَيكَل، جالِساً بَينَ المُعَلِّمين، يَستَمِعُ إِلَيهم ويسأَلُهم. وكانَ جَميعُ سَامِعيهِ مُعجَبينَ أَشَدَّ الإِعجابِ بِذَكائِه وجَواباتِه.

منذ ذلك اللقاء والعالم لم يتبدّل، فلاسفة هذا الدهر وحكماءه يبشّرون بنور فكرهم، ينادون بأفكارهم، يملون نظرياتهم وتياراتهم كحقيقة مطلقة.  ذلك اللقاء في الهيكل قد خذلهم، آلمهم، وجعلهم لا يدرون ماذا يقولون.

معلمو الشريعة والأقوياء بأفكار قلوبهم صمتوا أمام طفل يسألهم، يستمع أليهم، يحاورهم، ويعلن حقيقة الله.

والعالم اليوم ضائع بين أفكار وفلسفات ومعتقدات، كلها تبحث عن الإنسان، وعن خير الأنسان، وتضع الله على الهامش، تنسى أنه هو محور سعادة الأنسان ومصدر حريته.

إخوتنا البشر خائفون، قلقون، لا يجدون يسوع، خائفون خوف مريم وقلقون قلق يوسف، إذ لا يجدون الطفل يسوع، يسوع وحده يقدر أن يعطي جوابا لسعيهم وتساؤلاتهم.

يسوع يحاور، ويستمع، ويحب، ويقبل، أنما يعلن حقيقة الله، حقيقته هو الطريق الأوحد والحقيقة المطلقة والحياة الأبدية،

ومريم أمه تبحث اليوم عن طفلها، لتقدمه للعالم من جديد، لأن ثقافة العالم قد حجبته، لأن فخر الحياة يرفض صليبه، وشهوة العين ترفض فقره، ورغبة الجسد لا تقبل حبّه.

مريم اليوم تقول لنا، المسيح هو الجواب الوحيد على حاجة العالم، وهو وحده الذي يروي غليله.  فلنحاور ونستمع ونحب العالم كما حاوره واستمع اليه يسوع وأحبه، لا لنرضخ لنداءاته، بل لنزرع فيه من جديد حب المسيح له، ولنعلن للكون أجمع، دون خجل ولا مساومة أن المسيح هو هو المخلص الأوحد أمس واليوم وإلى الأبد.

 

صور