مقالات
٢٣‏/٦‏/٢٠١٥ قرأنا لكم | عدي توما

أنتم أطهارًا ...

" أنتم أطهارًا ... " سرّ وقدوة - عطيّة وواجب (الوصيّة الجديدة)

هبةُ الطهارة هي عمل من الله "

بحسب البابا  بنديكتوس السادس عشر 

كاستيل غاندولفو ٣٠ آب 2009

الفصل الثالث عشر من إنجيل يوحنا يقول فيه يسوع لتلاميذه، في حادثة غسل الأرجل: "أنتم أطهارًا". فهبةُ الطهارة ِ هي عملٌ من الله. ولا يستطيع الإنسان من تلقاء ذاته أن يصير أهلا لله، أيّا كان نظامُ الطهارة الذي يلجأ إليه. ففي كلمة يسوع الرائعة والبسيطة "أنتم أطهارًا" تعبير مختصر لسموّ سرّ المسيح. الله الذي ينزلُ إلينا يجعلنا أطهارًا. فالطهارة عطيّة. 

لكن، يبرزُ هنا إعتراضُ (يقول بنديكتوس): بعد ذلك ببعض آيات، يقول يسوع: "فإذا كنتُ أنا الربّ والمعلّم قد غسلتُ أرجلكم، فيجب عليكم أنتم أيضا أن يغسل بعضكم أرجلَ بعض. فقد جعلتُ لكم من نفسي قدوة ً لتصنعوا أنتم أيضا ما صنعت إليكم" (يوحنا 13 : 14). ألا نجد أنفسنا بإزاء رؤية أخلاقيّة بحتة للمسيحية؟ 

يتحدّث رودلوف شناكنبورغ عن تفسيرين متناقضين لغسل الأرجل في الفصل 13: التفسير الأوّل "لاهوتيّ"، وهو أكثر عمقا... ويفهم عملية غسل الأرجل  حدثا رمزيّا، يشير إلى موت يسوع؛ التفسير الثاني نموذجيّ صرف، يتوقف عند تواضع يسوع في غسله الأرجل. يؤكّد رودلوف أنّ التفسير الثاني هو "إختراعٌ تحريري"، ولا سيّما وأن" التفسير الثاني، بحسب رأيه، يتجاهل، على ما يظهر، التفسير الأوّل". لكن هذا التفكير محدود جدا، وشديد الإرتباط بنماذج منطقنا الغربيّ. بحسب يوحنا، أنّ عطية يسوع وفعاليّتها المستدامة لدى التلاميذ يسيران معًا في وجهة واحدة. 

لقد لخّص الآباء الفارق بين التصوّرين وبين علاقاتهما المتبادلة في مقولتي السرّ والقدوة. بلفظة السر لا يقصدون هنا سرّا خاصّا، لكن، سرّ المسيح بكامله -  في حياته وموته - إذ فيه يأتي إلى لقائنا نحن البشر ومن خلال روحه يأتي فينا ويحوّلنا. لكن هذا السرّ "يُطهّر " الإنسان حقا، ويجدّده من الداخل، يصبح حينئذ ديناميّة لوجود جديد. والطلب أن نعمل ما عمله يسوع ليس ملحقــًا أخلاقيّا للسرّ، أو شيئا ينقضه. فهو يتأتّى من ديناميّة العطيّة الجوهريّة، التي بها يجعل الربّ منّا بشرًا جددًا، ويتقبّلنا في ما هو خاصّ به. 

هذه الديناميّة "ديناميّة العطية الجوهريّة"، التي يعمل، هو نفسه، من خلالها الآن فينا، ونعمل نحنُ بوساطتها فيتماهى عملنا مع عمله، تظهر بجلاء خاصّ في قول يسوع التالي: "من آمن بي يعمل هو أيضا الأعمال التي أعملها أنا، بل يعمل أعظم منها، لأني ذاهبٌ إلى الآب" (يو 14 : 12). نجدُ هنا، يقول بنديكتوس السادس عشر، تعبيرًا دقيقـــًا لما تعنيه في أثناء غسله الأرجل هذه الكلمات: "جعلتُ لكم من نفسي قدوة ً، يصبح تصرّف يسوع تصرّفَنا، لأنه هو الذي يعمل فينا.

إذن، إنطلاقا من هنا، علينا أن نفهم أيضا الكلام على "الوصيّة الجديدة" التي بها، بعد المقطع حول خيانة يهوذا، عاود الدعوة إلى غسل ِ أرجل ٍ متبادَل، وحوّل هذا العمل إلى مبدإ (يو 13 : 34 - 35). يتساءل البابا، علامَ تقومُ جديّة الوصيّة الجديدة هذه؟ لأنّ جديّة العهد الجديد هي هنا، في النهاية، أساس الموضوع، وبالتالي  السؤال عن "جوهر المسيحيّة"، نجد مهمّا التطرّق إليها بإنتباه ٍ خاصّ.

قيلَ إنّ الجديّة - خارج وصيّة محبّة القريب التي كانت موجودة من قبل - تظهر في العبارة "أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم"، أي في المحبّة حتى درجة الإستعداد للتضحية بالحياة الخاصّة من أجل الآخر. فإذا كان جوهر "الوصيّة الجديدة" وكمالها يقوم على ذلك، فيجب تحديد المسيحيّة، حينئذ، على أنها نوعٌ من الجهد الأخلاقيّ الأقصى. على هذا النحو، يفسّر كثيرون العظة على الجبل: قياسًا على ما رسمه الطريق القديم، طريق الوصايا العشر - التي تصف على نحو ما طريق الإنسان المتوسّط، فتحت المسيحيّة، مع العظة على الجبل، الطريق السامية المبنيّة على تطلّب جذريّ، التي تجلّى فيها مستوىً إنسانيّ جديد، في قلب الإنسانيّة. 

لكن، مَن يستطيع القول عن نفسه، في الواقع، أنه سما على "وسطيّة" الوصايا العشر، وتركها خلفه كأي شيء مكتسب، ومشى أبدًا في إتجاه العلى، في "الشريعة الجديدة"؟ كلا، فجديّة الوصيّة الجديدة الأصليّة، لا يمكن (يقول البابا بنديكتوس) أن تكون في سموّ التصرّف الأخلاقيّ. المهمّ، في الحقيقة، حتى في هذه الكلمات، ليس النداء من أجل تصرّف أعظم، بل الأساس الجديد للكيان الذي أعطيَ لنا. الجديّة لا تستطيع أن تتأتّى إلاّ من عطية الكيان مع المسيح ومن الكيان فيه.