مقالات
١٣‏/١١‏/٢٠١٦ حياة روحيّة | عدي توما

التجسّد دخول الله في الحياة

كيف أنّ التجسّد هو دخول الله في عجينة الحياة اليوميّة وبلوغ قامة الإنسان الحقيقيّة وسرّ تطوّره؟!

يكشفُ سرّ ميلاد المسيح، الذي شطرَ التاريخ لنصفين، ما قبل الميلاد وما بعد الميلاد، أنّ الله قادرٌ على ما لا نتوقّعه. فنحنُ، كثيرًا ما، بدلا من أن نسمع ونطيع الله، نعطي صورًا وأفكارًا وآراءا لما نحنُ نريده؛ فلا عجب إن كان يستحيلُ على الناس عدم تصديق سرّ تجسّد المسيح ودخول الله في عجينة التاريخ البشريّ، إن كانوا هم من يقرّرون ما هو الصحيح وما هو الخطأ، واللازم والــ يجب واللابدّ والممنوع والمسموح...!

ويقول البابا بنديكتوس السادس عشر: "البسيط هو الصحيح، والصحيح هو بسيط (....)، مشكلتنا هي أننا لكثرة الأشجار لا نعود نرى الغابة، وأننا لكثرة العلم لا نعود نجدُ الحكمة". ويضيف: من هذا المنطلق، يسخرُ سانت أكزوبيري هو في "الأمير الصغير" من ذكاء عصرنا مظهرًا كيف يُهمَل الأساس، وكيف أنّ الأمير الصغير الذي لا يفقه شيئا من كلّ هذه الأشياء الذكيّة، يرى في المقابل أكثر ويرى بوجه أوضح.

المهمّ.. ما هو المهمّ؟ ما هو الحقيقيّ الذي يفيد؟؟ يقول بنديكتوس: أن نرى ما هو بسيط، هذا هو المهمّ. ويتساءل: لماذا لا يجوز أن يكون في إستطاعة الله أن يُنعِم على عذراء بأن تلد؟  بالطبع، إذا كنتُ أنا نفسي أقرّر ما يمكن أن يكون وما لا يمكن أن يكون، إذا كنت أنا من يثبت حدود المستطاع، ولا أحد غيري، عندها يمكنني استبعاد هذا النوع من الظواهر. 

يجب أن نفهم الفكرة الجوهريّة الواردة في الكتاب المقدّس، والتي تقول: إنّ التاريخ يدخل مرحلته النهائية مع مجيء المسيح، وأنّ التطوّر الذي طرأ على العقود الأخيرة، وتسارع عجلة تاريخ العالم، والتهديد المتزايد عليه، دخل في تصوّراتنا بقوّة فكرة نهاية الأزمنة. فمجيء المسيح وولادته، هو بداية نهاية الأزمنة وكشفٌ للتدبير الخلاصيّ الإلهيّ. وكشفٌ لسرّ الإنسان إكتماله. بميلاد المسيح، بدأت مرحلة جديدة لتطوير جزيئات الإنسان والكون وتنظيمها بصورة خلاّقة بقوّة "اللوغوس - الكلمة - العقل - المنطق - المحبّة - والمعنى - والحكمة"، ليست هذه الكلمة مجرّد تعابير وصيغ اعتباطيّة، أو عاطفيّة. بل حقيقيّة وواقعيّة. والعلوم لا يمكنها أن تُدرِك حقيقة هذه الكلمات لإنّها، غالبًا ما، تقفُ مكتوفة الأيدي أمام عظمتها، لإنّ العلم يخضعُ للتجربة والبرهان، وهذه الكلمات لا تخضعُ للتجارب المختبريّة والعلميّة والتطبيقيّة. فولادة المسيح، هو ولادة المنطق  والحكمة والمعنى والتنظيم والترتيب. إنّ ميلاد المسيح، هو نقطة تحوّل الكون وتجديده، ومن خلال التجديد يتربّع الإنسان سيّدًا على العالم بنعمة الله الخلاّقة التي تحوّل وتغيّر وتجدّد وتُطوّر، فلم يعد القدر ولا الصدفة ولا العبثيّة هم سيّد المواقف، بل تدبير اللوغوس الأزليّ وسرّ العناية الألهيّة الخلاّقة ورحمة الابن. إنّه سرّ الكلمة المتجسّدة في العالم بقوّة الروح القدس. ولدت الكلمة الخلاّقة من رحم الأرض العذراء النقيّة الطاهرة. وضع الله بذرة جديدة  في رحم العذراء النقيّة، خليقة جديدة  من دون زرع بشر. لإنّه "البداية المطلقة" التي ليس بعدها ولا قبلها بداية. إنّ سرّ الميلاد والتجسّد، هو سرٌّ شاملٌ لخلق جديد وليس لاعادة ما هو قديم وتصحيحه وكأنّ الله ندمَ على ما فعله...! ولهذا، فيسوع الناصريّ هو، في هذه الحالة، "البدء - المطلق" في التاريخ الذي ليس قبله ولا بعده بدءٌ. في البدء كان الكلمة وسيكون دائمًا "البدء والنهاية".  

يتبع...