الكتاب المقدّس | العهد القديم
١‏/١٠‏/٢٠١٦ مقدّمة عامّة | الأب بيار نجم ر.م.م

الوحي

 ما هو الوحي؟

الوحي هو "عمل الروح القدس" في الكتّاب المقدّسين ليدفعهم بهدي مستمرّ منه الى الكتابة عن الحقائق الإلهيّة التي يريد إظهارها للإنسان.

هو كشف الله عن ذاته وعن الإنسان للإنسان.

 

تاريخ الوحي:

لقد حدّد المجمع الفاتيكاني الأوّل (1870) موضوع الوحي الإلهي قائلاً: "إن الكنيسة تعتبر الكتب المقدّسة قانونية ومقدّسة لأنّها كُتبت بوحي من الروح القدس، وأوحيت من الله".  إن موضوع الوحي هو سرّ يفوق الطبيعة والعقل البشري، ولهذا لا يمكننا أن نفهم كيفياته وحيثيّاته بشكل كامل، إنما علينا أن نفهما بالقدر الذي يُتاح لعقلنا إستيعابه.

 

أصل الكلمة:

فأنتَ مُنذُ طُفولَتِكَ عَرَفْتَ الكُتُبَ المُقَدَّسةَ القادِرَةَ على أنْ تُزَوِّدَكَ بِالحِكمَةِ التي تَهدي إلى الخَلاصِ في الإيمانِ بِالمَسيحِ يَسوعَ. فالكِتابُ كُلُّهُ مِنْ وَحيِ اللهِ، يُفيدُ في التَّعليمِ والتَّفنيدِ والتَّقويمِ والتَّأديبِ في البِرِّ، ليكونَ رَجُلُ اللهِ كامِلاً مُستَعِدّا لِكلِّ عَمَل صالِحٍ (2 طيم 3، 14-16)

إن الكلمة اليونانية التي يستعملها العهد الجديد هي Theopneustos: Theos = الله و Pnew = نفس، نفخة، وبالتالي يكون المعنى نفحة من الله، وقد تُرجمت الكلمة الى اللاتينيّة  inspiratio: in= في الداخل، و spiratio أي وضع الروح أو النَفَس، وبالتالي يكون المعنى وضع النَفَس أو الروح الإلهي في داخل الكاتب المقدّس.

 

 تاريخ الوحي الإلهي، من التجلّي الطبيعي الى الوحي الكتابي:

"إن أمّنا الكنيسة المقدّسة نفسها تعتبر وتعلّم أن الله، وهو مبدأ جميع الأشياء وغايتها، يُمكن أن يُعرف معرفة ثابتة عن طريق النور الطبيعي الذي يتمتّع به العقل البشريّ، إنطلاقاً من الأشياء المخلوقة[1]: "لأنَّ ما يَقدِرُ البَشَرُ أنْ يَعرِفوهُ عَنِ اللهِ، جَعلَهُ اللهُ واضِحًا جَلِـيّا لهُم0فمُنذُ خلَقَ اللهُ العالَمَ، وصِفاتُ اللهِ الخَفِـيَّةُ، أي قُدرَتُهُ الأزلِـيَّةُ وأُلوهِيَّتُهُ، واضِحَةٌ جَلِـيَّةٌ تُدرِكُها العُقولُ في مَخلوقاتِهِ. فلا عُذرَ لهُم، إذًا" (روم 1، 19- 20).

وقد أكمل المجمع الفاتيكاني الثاني هذا التعليم قائلاً: "إن المجمع المقدّس يعترف علناً أن الإنسان قادر على معرفة الله، مصدر كل شيء وغايته، معرفة راسخة، إذا ما انطلق من الخلائق، واستعان بمقدرته الطبيعيّة على التفكير (فمُنذُ خلَقَ اللهُ العالَمَ، وصِفاتُ اللهِ الخَفِـيَّةُ، أي قُدرَتُهُ الأزلِـيَّةُ وأُلوهِيَّتُهُ، واضِحَةٌ جَلِـيَّةٌ تُدرِكُها العُقولُ في مَخلوقاتِهِ. فلا عُذرَ لهُم، إذًا روم 1، 20)، ولكن يُعلّم أيضاً أن قد أتى عن طريق الوحي الإلهي الحقيقة التالية: وهي أن جميع الناس قادرون أن يعرفوا معرفةً ثابتة لا يشوبها الخطأ، وعلى الرغم من وضعهم الراهن، شؤوناً إلهيّة ليست، في حدّ ذاتها، مستعصية عن الفهم البشري".[2]

الأديان الطبيعيّة: لأن العقل البشرّي كان قادراً إن يعرف وجود الله من خلال مخلوقاته، ظنّ الإنسان أن الطبيعة هي الله: فهو مرتبط بها تماماً، هي تغذّيه وتقوته، وهي قادرة على إنهاء حياته.  فالإنسان القديم كان خاضعاً للطبيعة أكثر منّا اليوم، فعاصفة واحدة كانت كافية لتسبّب موته، أما اليوم فقد صار الإنسان أقلّ خضوعاً لعوامل الطبيعة.  ولأنّ هذا الإنسان البدائي كان أكثر خضوعاً للطبيعة فقد أعطاها صفة الألوهة، وجعل تطابقاً بين الطبيعة والألوهة.

لقد مهّد الله للوحي الإلهي للإنسان من خلال عقله البشري الذي فتّش عن الله، ومن خلال الوحي ألغى الله التطابق بين الله والطبيعة[3].

 ففي خلق الله للإنسان على صورته، كُتبت في قلب الإنسان الرغبة في مشاهدة الله، والإنسان من خلال الخليقة، أي من حلال الطبيعة ومن خلال الإنسان الآخر، وبواسطة العقل وحده، يمكنه بالتأكيد معرفة الله كمصدر وغاية الكون، وكخير مطلق، كحقيقة وجمال لا متناهي.[4]

إنما من خلال التعرّف الى الله على ضوء العقل، يواجه الإنسان مشاكل كثيرة: لا يمكنه الدخول في علاقة حميمة مع السّر الإلهي، لذلك شاء الله هديه من خلال الوحي، ليس فقط وحي الحقائق التي تتخطّى قدرة فهم الإنسان، إنما أوحي أيضاً الحقائق الدينيّة والأخلاقيّة (فالكِتابُ كُــلُّـهُ مِنْ وَحيِ اللهِ، يُفيدُ في التَّعليمِ والتَّفنيدِ والتَّقويمِ والتَّأديبِ في البِرِّ)[5]

 

 ماذا يوحي الله للإنسان؟

إن الله ، بدافع من جودته وحكمته، يوحي ذاته للإنسان.  من خلال الأحداث والكلمات يوحي مخطّطه الحسن الذي حضّره منذ الأزل في المسيح من أجل خير الإنسان.  هذا المخطّط يهدف الى إشراك الإنسان في حياته الإلهيّة.

 

طبيعة الوحي الإلهي:

إن الرسالة الراعوية Provvidentissimus Deus التي كتبها البابا لاون الثالث عشر، سنة 1893 هو أول نصّ تعليمي رسمي يحاول أن يرسم مواصفات الوحي الإلهي: "إن الروح القدس ينير العقل، ويدفع الإرادة، ويعضد قوى الكاتب العمليّة لكي لا يخطئ".

البابا بندكتوس الخامس عشر، سنة 1920، كتب في رسالته  Spiritus Paraclitus  أن: "إن القوّة الموحية، من ناحية تقي الكاتب من الخطأ، إنما لا تمنعه من أن يعبّر بحسب موهبته الخاصّة وبحسب ثقافته".

والبابا بيوس الثاني عشر، في رسالته Divino Afflante Spiritu (30 أيلول 1943) يشدّد على دور الكاتب الإنساني "كوسيلة الروح القدس... لذلك فإن دارس الكتاب المقدّس يجب أن يعمل جاهداً ليعلم ما هي الميزة الخاصّة لكلّ كاتب وأوضاع حياته، والزمن الذي عاش فيه، والمصادر المكتوبة أو الشفهيّة التي استعملها، وأخيراً طريقته في الكتابة، وهكذا يمكننا أن نعرف من كان فعلاً الكاتب وماذا أراد التعبير عنه من خلال الكتابة.  لا يغيب عن بال أحد أن القانون الأعلى في تفسير الكتاب المقدّس هو معرفة ماذا أراد الكاتب قوله حقيقةً".

من هنا نعلم أن كلّ كاتب قد استعمل خبرته الخاصّة وتاريخه وثقافته وعلوم مجتمعه لكي يكتب بوحي من الروح القدس.  خصائص الكاتب الإنسانيّة لا يلغيها أو يقلّصها عمل الروح القدس.

وفي الدستور العقائدي "كلمة الله" Dei Verbum الذي أعلنه المجمع الفاتيكاني الثاني (7 كانون الأوّل 1965) يقول بولس السادس: إن الحقائق التي أوحى بها الله، وتحملها الأسفار المقدّسة الى الناس، قد دوّنت بالهام من الروح القدس، والكنيسة أمّنا المقدّسة، بالإعتماد على إيمان الرسل، تعتبر كلّ الأسفار، في العهدين القديم والجديد قانونيّة ومقدّسة بكلّ أجزائها، وذلك أنّها كُتبت بإلهام من الروح القدس (يو 20، 31؛ 2طيم 3، 16؛ 2بط 1، 19- 21؛ 3، 15- 16)، ولذا فهي من وضع الله، وعلى هذا الإعتبار تسلّمتها الكنيسة بالتناقل.  ولكي يضع الله هذه الكتب المقدّسة، إختار أناساً واستعان بهم، عاملاً هو نفسه فيهم وبواسطتهم، ليكتبوا كمؤلّفين حقيقيين استخدموا قواهم وإمكاناتهم، كلّ ما أراده هو ولا شيء سواه... وبما أن كلّ ما أكّده المؤلّفون الملهمون وواضعوا الكتب المقدّسة يجب إعتباره صادراً من الروح القدس ، وجب الإعتراف أن أسفار الكتب المقدّسة تقدّم تعليماً تابتاً وأميناً ومعصوماً عن الخطأ حول الحقيقة التي أراد الله أن تدوّن في الأسفار المقدّسة من أجل خلاصنا".[6]

 

مميّزات الوحي الإلهيّ:

-الإلهام: أي الإنفتاح على الله لدى قارئ الكتاب المقدّس، تُعرَف من خلال إرادة الله في حياة المؤمن.

- التمام: الكتاب المقدّس هو واحد متمّم، لم يعد ينقصه أي عنصر.  ومتمّم أيضاً من حيث أن الله أوحى حقيقته للإنسان رغم محدوديّة الكاتب الإنساني.

-الوحدة: الكتاب المقدّس ليس مجموعة كتب منفصلة عن بعضها من حيث المضمون والحقيقة التي تحتويها. هي عدّة كتب من حيت العدد والنوع الأدبي، وهي قسمان من حيث عهد قديم وعهد جديد، إنما هي واحدة من حيث المصدر الإلهي، فالله هو مصدر الوحي الواحد.  وهي واحدة من حيث تتمحور حول سرّ المسيح الخلاصي، المحتجب في الله منذ الأزل، حضّره ألآب في تاريخ شعب الله المختار، والذي تجلّى في ملّ الزمن.

- الأسراريّة: في الكتاب المقدّس يقدر الإنسان أن يلتقي بالله من خلال شخص المسيح.  فالكلمة الموحاة هي كلمة المسيح الكلمة، وكلمته تصبح وسيلة شبه أسرارية للقاء الله الآب.

- العصمة عن الخطأ (inerrance):  الكتاب المقدّس هو كلمة الله الموحاة يحتوي الحقيقة الإلهيّة.  الله لا يكذب والوحي الإلهي هو وحي صادق، وبالتالي فنحن نؤمن ان الكتاب المقدّس لا خطأ فيه.

 

إنما نحن نعلم أن الكتاب المقدّس يحتوي أحياناً على أخطاء تاريخيّة، وعلميّة وجغرافيّة... لذلك حدّد المجمع الفاتيكاني الثاني: "إن أسفار الكتاب المقدّس تقدّم تعليماً ثابتاً وأميناً ومعصوماً من الخطأ حول الحقيقة التي أراد الله أن تدّون في الأسفار المقدّسة من أجل خلاصنا".[7]  إذا قلنا أن حقيقة الكتاب هي أيضاً من الناحية التاريخيّة والعلميّة، أو في ما يتعلّق بعلم الطبيعة، يكون قد غاب عن بالنا المعنى الحقيقي للوحي الإلهي، وهو الخلاص.  إن عنصر الحقيقة يكون دوماً متعلّقاً بمدى علاقة هذا العنصر بمشروع الله الخلاصي لنا.  لذلك فقد لا تكون بغاية الدقّة، أو قد تكون خاطئة حتّى، ما يقوله الكتاب المقدّس حول التاريخ الماضي، إنما لا يمكن أن يكون خاطئاً ما يعلنه الكتاب المقدّس عن علاقة الله بالإنسان والرسالة الخلاصية التي يوصلها الله للإنسان في مجريات هذا التاريخ.

هنا لا ننسى قول القدّيس أغوسطينوس: "الله أراد أن يجعلنا مسيحييّن لا علماء"، وبالتالي فعلينا أن نفهم أن حقيقة الكتاب المقدّس يُنظر اليها من زاوية علاقتها بالمخطّط الخلاصي الذي أعدّه الله لنا.

 

كيف يجب تفسير الكتاب المقدّس؟

بما أن الله تكلّم في الكتاب المقدّس بلسان البشر وبأساليب البشر، فعلى شارح الكتاب المقدّس أن يتساءل: ما هي حقيقة ما هدف اليه في قوله؟ وماذا حسن لدى الله نفسه أن يكشف على لسان الكاتب؟

لذلك يجب أخذ الأنواع الأدبيّة بعين الإعتبار، لأنّ الكاتب حين يقدّم حقيقة معيّنة، قد يعبّر عنها بطرق متنوّعة وفي نصوص تعتمد أساليب مختلفة، فتأتي تاريخيّة أو نبويّة أو شعرية أو بأنواع أُخرى[8].

 

ما هو مقياس تفسير الوحي؟

رغم أن لفكر الكاتب وعمله وثقافته دوراً كبيراً في نصّ الكتاب المقدّس، إلاّ أن الحقيقة الموجودة فيه هي حقيقة إلهيّة لا يمكن أن تخضع للنسبية.  حن تختلف التفاسير بين مفسّر وآخر، وبين لاهوت فكرّي وآخر، لا يعني الأمر أن الكلّ محقّ، فالحقيقة الكتابيّة لا تتعلّق برأي المفسّر إنّما هي موضوعيّة إلهيّة واحدة.  فكيف نحكم مَن مِن المفسّرين واللاهوتيين محقّ، وعلى أي أساس نقرّر؟

 

"على كلّ من تضلّع من علم اللاهوت المقدّس، إن يتعاونوا تعاوناً نشيطاً، وأن يستعملوا الطرق المناسبة، تحت إشراف السلطة التعليمية المقدّسة".[9]

إن الشرح الصحيح للكتاب المقدّس هو الشرح الذي يخضع:

 

-       لإلهام الروح القدس، لأن الكتاب المقدّس لا يُقرأ ولا يفسّر إلاّ في نور ذاك الروح الذي في نوره تمّت كتابته.

-       لوحدة الكتاب المقدّس، فلا يمكن أن يكون صحيحاً الشرح الذي يناقض حقيقة واضحة في مكان آخر من مجموع الكتب كلّها.

-       الشرح الذي يتطابق وتقليد الكنيسة.

-       الشرح الذي يتطابق وإيمان الكنيسة ويخضع له.

 

 

[1] المجمع الفاتيكاني الأوّل، دستور عقائدي "إبن الله Dei Filius ، 28                                                                                                

[2]  المجمع الفاتيكاني الثاني، كلمة الله Dei Verbum ، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، 6.

[3]  سيداروس، ف.، بين وحي الله وإيمان الإنسان، دار المشرق، بيروت 23- 24.

[4]  مختصر تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، 2.

[5] المرجع نفسه 4.

[6]  المجمع الفاتيكاني الثاني، كلمة الله Dei Verbum ، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، 11

[7] المجمع الفاتيكاني الثاني، كلمة الله Dei Verbum ، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، 11

[8] المجمع الفاتيكاني الثاني، كلمة الله Dei Verbum ، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، 12

[9]  المجمع الفاتيكاني الثاني، كلمة الله Dei Verbum ، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، 23.